بسم الله الرحمن الرحيم
الحوار انفتاح على الآخر
تناول القرآن الكريم مسألة الجدل في عدد من آياته، ليعالج من خلالها مختلف المواقف التي يعيشها الإنسان، سواء في طريقة تعاطيه مع المشركين، أو بالنسبة لعلاقة المؤمنين بعضهم مع بعض وموقفهم أمام الله تعالى.
وتحدثنا عن الجدال كأسلوب من أساليب الحوار بين النّاس حول بعض القضايا التي قد تختلف فيها وجهات النظر، ليعرض كل واحد وجهة نظره فيدخل مع الآخر في جدال حول ما هي النظرية الأصحّ، ليصلا إلى التفاهم فيفهم كل واحد منهما الآخر، أو إلى التوحد حيث يقنع أحدهما الآخر، لأن المشاكل التي تحدث بين الناس في اختلاف وجهات النظر، إنما هي في أن بعضهم لا يفهم البعض الآخر، ولذلك فإنه يتهم الآخر أو يحكم عليه بحكم جائر.
لهذا، فإن الجدال الذي هو حوار بطريقة قوية، هو الذي يؤدِّي إلى التفاهم أولاً، وإلى الاقتناع ثانياً مع القيادة، فالقيادة ليست أكبر من أن تناقش أو تجادل، بل إنَّ ما يملكه القائد، سواء كان نبياً أو إماماً أو فقيهاً، أو شخصية اجتماعية أو سياسية، ما يملكه من الأفق الواسع والصَّدر الرحب، يجعله يشعر أنَّ من حقِّ الناس الذين يقودهم، أن يناقشوه ويجادلوه، لأن مهمَّة القائد هي أن يثقّف الناس الذين يتبعونه في القضايا التي تتّصل بحركته في القيادة، ولذلك فإنه ليس من شأن القائد أن يتكبَّر على الناس، بحيث يرفض مناقشة من يناقشه ويجادله.
وهذا ما نلاحظه في كثيرٍ من القيادات التي تحتقر أتباعها، وذلك عندما تمنعهم من أن يناقشوها أو يجادلوها في الأمور، وهذا أمر ليس إسلامياً، فالإسلام يريد من القيادة أن تثقِّف الناس في ما تريد أن تقوم به، حتى ينطلق الناس معها على أساس ثقتهم بها من خلال معرفتهم بالخطوط التي يتحركون فيها. ونقرأ في سورة الأنفال في حديث الله سبحانه وتعالى عن معركة بدر، وهي أوَّل معركة في الإسلام بين المسلمين والمشركين، وهذه المعركة كانت بدايتها أنّ النبي (ص) استعمل أسلوب الضغط الاقتصادي على قريش، لأن قريش كانت تقوم بالتجارة بين مكة والشام، وكانت هذه التجارة تشتمل على كل رؤوس الأموال لديها، وكان الطريق يمر على المدينة، فالنبيّ(ص) أراد للمسلمين أن يتعرّضوا للقافلة التي كان يقودها أبو سفيان في رجوعها من الشام إلى مكة، كوسيلة من وسائل عرض القوة، لا كما يقول بعض المستشرقين إن النبي(ص) أراد أن ينهب القافلة لحاجته إلى المال، كما يتكلَّمون من دون دراسة.
في هذا المجال، عرف أبو سفيان بهذه الخطة، فأرسل إلى مكة يخبرهم بذلك، لأنه إذا استولى المسلمون على هذه القافلة، فإنَّ قريش ستواجه كارثةً اقتصاديةً. واستعدت قريش للحرب التي كان يقودها أبو جهل وغيره من كبار المشركين، واستطاع أبو سفيان أن يذهب إلى طريق آخر وينجو بالقافلة، ووصل إلى مكة. في مكة اختلف الرأي؛ بين من قال باستكمال الاستعداد لمحاربة النبي، لأن القضية أصبحت قضية خطر على مقدّراتهم الاقتصادية، وبين من قال إنّه ما دمنا استطعنا أن نحصل على أموالنا، فليس من الضروري أن ندخل في حرب مع المسلمين من أهل يثرب وتغلّب.
وعرف النبي(ص) أنّهم يخطّطون للحرب، فجمع(ص) المسلمين يستشيرهم، وكان المسلمون يعيشون نقاط الضعف أمام قريش، لأن قريش كانت تمثِّل العشيرة أو الفريق الذي يتميَّز بالزعامة الاقتصادية، من خلال زعامتها لمكّة التي فيها زعامة الكعبة، والتي كان يأتي إليها كل الناس من كل مكان، لأنّ الناس كانوا يأتون ويتبضعون من مكّة، وكذلك الزعامة الثقافية، لأن كل الشعراء والخطباء كانوا يأتون إلى سوق عكاظ ليلقوا قصائدهم وخطبهم، لذلك كانت قريش تمثل قوّةً في المنطقة، لا في مكة فحسب، بل مع العشائر الموجودة في شبه الجزيرة العربية آنذاك.
لذلك كان المسلمون، ولا سيّما الذين لم يسبق لهم أن دخلوا في حرب مع قريش، لا يملكون العدَّة والعدد، ولم يكن عندهم إلا بعيران، والسلاح أيضاً كان محدوداً جداً والعدد محدود، بينما قريش انطلقت بكلِّ أبّهتها وعظمتها وسلاحها، وكان المسلمون يمثلون بالنسبة إلى قريش الثلث في مقابل الثلثين، فالمسلمون كانوا حوالي الثلاثمائة ونيّف، بينما كان القرشيون أكثر من ألف، وكان معهم السيوف والخيل، وقد قام القرشيون آنذاك بعملية استعراضية مع نسائهم وقاموا بقرع الطبول، بينما كان النبي(ص)، وبحسب طريقته، يستشير أصحابه، لأن الله تعالى قال: {وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكَّل على الله}(آل عمران/159)، فجمع أصحابه في هذا المقام فكانوا فريقين.
ويحدّثنا الله تعالى عن هذا الجوّ، أي عن الجدال، بقوله تعالى في سورة الأنفال: {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق}، لتأكيد قوة الإسلام، {وإنّ فريقاً من المؤمنين لكارهون}(الأنفال/5)، نتيجة ما يعيشونه من الرهبة أمام قوة المشركين، قوة قريش، {يجادلونك في الحق}، هذا محلُّ الشاهد {بعد ما تبيَّن}، حتى إن بعضهم قال يا رسول الله هذه قريش، (إلى أين تأخذنا؟)، قريش جاءت بخيلائها ورجالها، ما ذلت منذ عزّت، أي هي المنتصرة في كلِّ الحروب، وهي التي تمثل القوة والتي لا قوَّة لنا عليها، فلا داعي أن ندخل معها في حرب.
{يجادلونك} وهناك جدال ناشئ من اختلاف في وجهات النظر، وجدل ناشئ من خوف، والله تعالى يصوِّر لنّا الخوف الذي كان يعيشه هذا الفريق، أنه كحال الإنسان المحكوم بالإعدام {يجادلونك في الحق بعد ما تبيَّن كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون}، كمن يرون الموت أمامهم، {وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم}، لأن النبي(ص) كان قبل أن يدخلوا في المعركة ويتعرّضوا لقافلة أبي سفيان، كان يقول لهم واحدة من اثنين، إما أنكم تحصلون على القافلة أو تحصلون على الحرب، {وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودُّون أنَّ غير ذات الشوكة تكون لكم}، أي تتمنّون أن تحصلوا على القافلة لأنَّ فيها بضائع وأموالاً، وأن لا تكون حصّتكم حصّة الحرب {ويريد الله أن يحقَّ الحق بكلماته}.
فالقصة ليست قصتكم، وليست مسألة تمنياتكم وما تودّونه، ولكن هناك رسالة يريد الله تعالى لها أن تنتصر، ومن الطبيعي أن أغلب العرب عندما انطلق النبي(ص) بالدعوة امتنعوا عن الإيمان بالإسلام، لأنهم رأوا أن قوة قريش أكبر من قوّة النبي، والناس دائماً يسيرون مع القويّ، والله تعالى خطَّط لهذه المعركة حتى ينتصر المسلمون على قريش، فإذا انتصروا شعرت القبائل العربية بأن هناك قوتين متعادلتين، أو أن القوة أصبحت مع النبي(ص)، ولذا يقول تعالى: {ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين* ليحقَّ الحق} وهو الإسلام، {ويبطل الباطل} وهو الشرك، {ولو كره المجرمون}(الأنفال/6-8).
وفي موازاة هؤلاء الناس الخائفين الذين دخلوا في جدال مع النبي (ص) حتى يترك مسألة الحرب، كان هناك فريقٌ آخر وقف ونطق باسمهم الصحابي سعد بن معاذ، وقيل إن الذي نطق المقداد بن الأسود، قال: يا رسول الله، لن نقول لك كما قال قوم موسى لموسى {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنّا ها هنا قاعدون}(المائدة/24)، بل نقول لك اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، والله يا رسول الله، لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك. وانتصر هذا الفريق الذي تحدَّث بلغة الإيمان وبلغة القوَّة، على ذلك الفريق.
وهنا يحدّثنا الله سبحانه وتعالى عن جوِّ المسلمين عندما دخلوا المعركة: {إذ تستغيثون ربَّكم}، أي إنّ هؤلاء الخائفين صاروا وجهاً لوجه أمام المعركة {فاستجاب لكم أني ممدّكم بألف من الملائكة مردفين}(الأنفال/9)، مردفين يعني يتبع بعضهم بعضاً، {وما جعله الله إلا بشرى}، أي إنّ الله لم يرسل الملائكة حتى يقاتلوا، ولكن ليعطيهم قوّةً روحية ومعنوية، {ولتطمئنَّ به قلوبكم} حتى تحصلوا على الثقة المعنوية، {وما النصر إلا من عند الله إنّ الله عزيز حكيم}.
ومن جهة أخرى، أراد الله تعالى أن يقوِّي لهم نفسيّتهم {إذ يغشاكم النعاس أمنة منه}، فقد ألقى عليهم النوم، لأنهم كانوا متعبين وعندهم حالة قلق، والنوم مع القلق والتعب يجعل الإنسان يشعر بالأمان، {وينـزل عليكم من السماء ماءً ليطهّركم به}، فالكثير قاموا محتلمين يريدون أن يغتسلوا من الجنابة، فأنزل الله عليهم المطر من السماء {ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام* إذ يوحي ربّك إلى الملائكة أنّي معكم فثبّتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كلَّ بنان}(الأنفال/11-12).
هذه هي المعركة التي دخل فيها المسلمون في جدل مع النبي (ص)، واستمع النبي (ص) لهم. ومن ذلك نأخذ درساً، أن على أية قيادة، سواء كانت قيادة دينية أو سياسية أو اجتماعية، أن تستمع إلى جمهورها وإلى أتباعها، وأن تتقبل منهم أن يناقشوها وأن يجادلوها في كلِّ مشاريعها، في السلم أو في الحرب، وفي كل أوضاعها، لأن هذا هو الذي يؤكِّد الثقة بين القيادة وجمهورها، بأن تكون القيادة متواضعة مع جمهورها، وأن تتقبَّل منهم كلَّ حساب وكل جدال وكل سؤال هنا وهناك، وهذا هو الذي يحقِّق التواصل بين القيادة وأتباعها، خلافاً لما عندنا في الشرق، حيث إن القيادة تتكبّر على الجمهور، وإذا أراد أحد أن ينتقد القيادة يقولون له من أنت حتى تنتقد.
الرسول(ص) تقبَّل هذا النقد من المسلمين، وحاورهم حواراً إنسانياً في ما يتّصل بهذه المسألة.
ساحة النقاش