الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله والمرسلين، السلام عليكم أيها الأخوة المؤمنون والأخوات المؤمنات ورحمة الله وبركاته.
من الظلم انحراف الإنسان عن الخط المستقيم الذي رسمه الله له سواء في الجانب العقيدي من جهة الكفر بالله أو الشرك به، أو في الجانب العملي والسلوكي، والله يؤكد دائماً أنه لم يظلم أحداً من خلقه فيما يواجهه هذا الخلق من عذاب ومن عقاب، ولكن الإنسان هو الذي يظلم نفسه.
وقد أشار الباري إلى ذلك في عدة آيات من سورة النحل، والتي تحدث فيها عن حقيقة العقيدة، وعن هؤلاء الذين انحرفوا عنها، مقارناً ذلك بالذين استقاموا عليها، ثم تحدث عن النتائج السلبية للمنحرفين عن العقيدة، وذلك في معرض رده على المشركين، بأنه لكم عقولاً يمكن لكم أن تحركوها لتطلقوها في خط التفكير الذي يميز فيه الإنسان الأشياء، إنكم تعبدون هذه الأصنام أو تعبدون أشخاصاً من دون الله، ولكن إذا أردتم أن تتعرفوا خط الاستقامة وخط الانحراف، خط الحق وخط الباطل، فكروا بعقولكم؛ هل يمكن أن يكون الإله عاجزاً لا يملك من أمره شيئاً؟! من الطبيعي أن عقولكم تقول إذا استنطقتموها إنه لا يمكن أن يكون هذا إلهاً، لأن الإله هو الخالق للكون، وهو الذي يملك القدرة المطلقة في كل ما يحرك فيه الكون سواء في هذه الظواهر الكونية الضخمة أو في الإنسان أو في الحيوان أو ما إلى ذلك. إن معنى أن يكون إلهاً أن يكون خالقاً، أن يكون قادراً، أن يكون مهيمناً على الأمر كله، أن يكون الذي يعطي للحياة كل طاقاتها ويحرك النعم في المخلوقات التي خلقها لتستطيع الاستمرار في الحياة، {أفمن يخلق كمن لا يخلق} (النحل/17). إن هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله أو الذين تطيعونهم من دون الله، هؤلاء لا يخلقون شيئاً، هو الخالق فكيف تقارنونهم بالله، {أفلا تذكّرون}، والتذكّر ليس مقتصراً فقط على الشيء الذي كان يعرفه الإنسان ثم نسيه، بل المراد من التذكر هو أن يستنطق الإنسان ما استقرَّ في فطرته وفي عناصر تفكيره فكأنه بحسب فطرته التي لو استنطقها لقالت له وبيّنت له حقيقة التوحيد وسلبيات الشرك.
وهذه الفكرة التي يطرحها القرآن بطريقة استنكارية، ليست في مقام السؤال، بل إن الله تعالى يستنكر على الذين يساوون بين الخالق والمخلوق، وهذه الفكرة لا تحتاج إلى فلسفة حتى يقول الواحد منا ليس عندي اختصاص في الفلسفة، لا، ولكن ليعرضها كل واحد على نفسه، لأنه عندما يطرح أحدهم السؤال على نفسه، سيرى أن هناك خالقاً لهذا الكون، وهناك من هو مخلوق لهذا الخالق، وهو لا يملك أي شيء، لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، عندها هل يمكن المقارنة بينهما، إذا انطلق كل إنسان، حتى لو لم يكن متعلماً، من طبيعة أصالة الفطرة في نفسه، أي هذا الشيء الخفي الكامن في عمق ذاته وشخصيته؟! {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} (الروم/30).
وتذكّر، يعني لا تبقي نفسك في الغفلة، لا تهمل ما توحيه إليك عناصر الوعي واليقظة الكامنة في داخل شخصيتك. ثم إنّ الله تعالى يوجه الناس بأنكم تتقلّبون في النعم، ومنها نعمة الوجود، فنحن كنا عدماً ثم وجدنا، ونعمة حركة الحياة في هذا الجسد، والأجهزة التي خلقها الله تعالى في أجسادنا؛ نعمة العقل الذي يفكر، والقلب الذي ينبض، واللسان الذي ينطق والفم الذي يستقبل ما نأكل وما نشرب، والجهاز الهضمي الذي دوره هو دور تصنيع الأكل والشرب وتوزيعه على كل الأجهزة التي تحتاج إلى ذلك، ثم ما خلقه في هذا الكون، من الهواء الذي نتنفس، والماء الذي نشرب، والأشياء التي نزرعها، وأيضاً كقضية توالد الإنسان في عملية التناسل بهذه الطريقة التي أودعها الله تعالى في جسد الإنسان وما لى ذلك.
يقول سبحانه: {وإن تعدُّوا نعمة الله لا تحصوها} (النحل/18) أي لو فرضنا أنّنا أردنا أن نعدّ نعم الله في الكون، فإننا لن نقدر على ذلك، فمثلاً كما نلاحظ الآن عبر الاكتشافات العلمية، أنه نفس هذه الكواكب والأقمار الموجودة في الكون، لها دور في كل أوضاعنا، والأرض هي مجرَّد كوكبٍ من هذه الكواكب، أما ماذا يوجد في هذه الكواكب، فنحن لا نعرف، وحتى في نفس الأرض، لا نعرف كيف خلق الله المطر الذي أوجد الأنهار التي مدَّت البحار، وهذه المخلوقات الموجودة في البحر، والمخلوقات الموجودة في الجوّ، فإذا كنّا نعدّ نعم الله، فماذا نحصي؟ {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها}.
وأما قوله تعالى: {إن الله لغفور رحيم} أي يغفر لكم إهمالكم في بعض الحالات ويرحمكم لتنفتحوا من خلال رحمته على حقائق الأشياء، {والله يعلم ما تسرون وما تعلنون} لأنّ هناك أشياء نحن نخفيها في صدورنا، أي في عناصر شخصيتنا، لا نبوح بها لأحد، وهناك أشياء نبديها، ولكن الله {يعلم السر وأخفى} (طه/7) {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} (غافر/19)، ولذلك فالإنسان مكشوف أمام الله تعالى، وإن كان هناك شيء نخفيه عن بعضنا البعض، فإنه ليس خفياً عند الله {والله يعلم ما تسرون وما تعلنون}، {والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يُخلقون} (النحل/20)، فهؤلاء الذين يدعونهم ويعبدونهم ويطيعونهم من دون الله، لا يخلقون شيئاً كما يخلق الله الأشياء وهم يخلقون، حيث كانوا عدماً ثم وجدوا، {أمواتٌ غير أحياء وما يشعرون أيّان يُبعثون} (النحل/21)، فهؤلاء أموات غير أحياء وإن كانوا يعيشون الحياة في أجسادهم، لكنهم أموات الوعي والعقل، فهم كالأموات في هذا المقام، حيث لا يشعرون في ما يقبلون عليه بعد الموت الحقيقي المحتوم.
ثم يؤكد الحقيقة بقوله: {إلهكم إله واحد} لأنه وحده الخالق، ووحده المنعم، ووحده الرازق، ووحده القادر والمهيمن على الأمر كله، ووحده الذي يعلم الغيب ويعلم كل الأشياء، {فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة}، أي عقولهم منكرة {وهم مستكبرون} (النحل/22)، لا يخضعون للحقيقة، لأن الاستكبار لدى الإنسان يمثل انتفاخ الشخصية، وربما في تعبير آخر ورم الشخصية، لأن الانتفاخ قد يحدث من خلال الشحم واللحم، وقد يحدث من خلال الورم. ولذلك كان الشاعر المتنبي يمدح سيف الدولة الحمداني، وكان عنده شخص آخر هو شاعر أيضاً يعارض المتنبي، فالمتنبي كان يخاطب سيف الدولة ويقول:
أعيذها نظرات منك صادقةً أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
أي إن ما تراه في هذا الشخص السمين هو ورم وليس شحماً. وهناك ورمٌ على قسمين، هناك شحم جسدي مادي وورم مادي، وهناك شحم عقلي، وشحم روحي، والبعض قد يكون عنده ورم عندما يظن نفسه عاقلاً وهو ليس عاقلاً، ولذلك كل الذين تلاحظوهم يستعرضون عضلاتهم ويستعرضون وجاهتهم ويتكبرون على الناس، هؤلاء يعيشون ورم الشخصية ولا يعيشون قوة الشخصية، لأنك لو استنطقتهم لرأيتهم فارغين من الفكر، وفارغين من كل ما يرفع مستوى الإنسان. ومع الأسف، بعض الناس قد يتحركون مع الذين يعيشون ورم الشخصية ولا يتحركون مع الذين يعيشون قوة الشخصية وواقع الشخصية، لأن الناس قد تغرها المظاهر في هذا المقام، فهذا الذي يعيش قوة الشخصية ضعيف وهزيل لا يملأ عينك، وذاك تراه على أنه منتفخ إما بماله أو بسلطته أو منتفخ بكثرة الناس حوله، ولكن عندما تنفذ إلى داخله لا تجد هناك أي شيء يوحي بالقوة عنده.
ولذلك على الإنسان أن يحسن النظر، وأن يستعمل نظر عقله لا نظر وجهه، ومعنى {لا جرم} أي حقَّ وثبت أي لا محالة {أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون} لأن هناك كثيراً من الناس قد يكونون مقتنعين ولكن لا يظهرون هذا الشيء عملياً {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم} (النمل/14) {إنه لا يحب المستكبرين} (النحل/23)، لأن المستكبرين لا يعيشون عمق الحقيقة، {وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم} إشارةً إلى الرسالات والكتب التي أوحى الله تعالى بها إلى إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد {قالوا أساطير الأولين} (النحل/24)، هذه خرافات، من دون أن يفكروا ويقرأوا ويتدبروا، ومن دون أن يدخلوا في حوار مع الآخرين. وهذا أمر ربما كان موجوداً في أكثر المجتمعات، لأن بعض الناس لا يرفضون ما يرفضونه على أساس الثقافة، وإنما يرفضونه من خلال عقدة، قد لا تمنعه من الاقتناع.
الآن أنت في تجربتك، ألا تلتقي بمن يقول لك مثلاً إنك لو بقيت تتكلم معي من الصباح حتى المساء لست مستعداً لأن أقتنع، أنا لا أغير عقلي، هذا الذي في عقلي لو جاءت كل الدنيا فلن أبدله، لماذا لا تبدل؟! لك عقل وللناس عقول فلماذا لا تسمع لما يفكر به الآخرون؟!
وهناك نقطة يجب أن نلتفت إليها، وهي أن أكثر مسائلنا العقلية إما إننا ورثناها من أهلنا، أو تأثرنا بها من خلال بيئتنا، أو أننا فكرنا بها أو اقتنعنا بها، أي لو فرضنا أننا أردنا أن ندرس كل أفكارنا وكل انطباعاتنا، نرى أن هذه لم تُخلق معنا، فالطفل عندما يولد هل تكون هذه الأفكار جزءاً منه كعينه أو أذنه، هذه أشياء دخلت في عقولنا أو في قناعاتنا من خلال ما ورثناه، فالشخص يتأثر بوالده وبوالدته أو بالبيئة، أو أنه قرأ ودرس وتأثر. إذاً هذه كلها أشياء طارئة، وإذا كانت أشياء طارئة فيمكن أن تتغيّر، الأفكار التي يقتنع بها الإنسان قد يأتي من يقنعه بغيرها، وعليه أن يبقى عليها ما دام لا يأتي غيرها أقوى منها فعلى الإنسان أن لا يكون متعصباً لفكرته، لأن علاقة الإنسان بالفكرة علاقة طارئة وليست ذاتية.
لذلك فالعصبية لا تنطلق من حالة وعي ومن حالة علم واحترام الإنسان لذاته، فالعصبية جمود، كالشخص الذي يعيش في سجن فيألف هذا السجن، كذلك العصبية هي أن تسجن ذاتك في دائرة خاصة، الهواء الطلق موجود، اليوم تكون في بيت وغداً تنتقل إلى بيت ثانٍ أوسع منه، اليوم تكون في بلد ظروفه صعبة ثم تنتقل إلى آخر، يقول الإمام علي (ع): «ليس بلد أولى بك من بلد خير البلاد ما حملك»، قيمة هذا البلد أنه يحملك، وإلا فتذهب إلى بلد ثانٍ فيحملك، ليس هناك مانع أن تكون لك ذكرياتك في بلد الآباء والأجداد، لكن ليس معناه أن تتعصَّب بحيث إنك تخنق حياتك لأنك تريد أن تبقى في هذا البلد الذي لا يوفر لك شروط حياتك.
فهؤلاء الناس عندما يقال لهم {ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين} من دون تفكير ومن دون تدبر أو حوار، {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة}، لأن هذه أثقال غير أصيلة، يعني من قبيل أن يجمع الواحد الأثقال ويحملها على ظهره، لا أن يختارها اختياراً واعياً عقلانياً منفتحاً على الحقيقة، {ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم}، أيضاً من أثقال الذين يخدعونهم ويغشونهم ويضلونهم من دون أساس ومن دون علم، {ألا ساء ما يزرون}.
هذا نموذج من الناس، وتبقى بعض الآيات التي نستكملها إن شاء الله في الأسبوع القادم حتى نصل إلى مسألة أنهم ظلموا أنفسهم ولم يظلموا الله.
ساحة النقاش