كان الليل قد خيم على الديار ، و أرخت السماء ستارها ، وساد ذلك السواد الجميل الحذر ، الذي يغزو عيون العربية النجلاء العائدة من عمق البادية ، كأنها ليلة ليست كالليالي الأخرى ، يراوده الهسهاس ، إنها تباهي بزرقتها الليلية القاتمة ناصية البياض ، و تضفي مسحة الفراغ ، تتحدى بسكونه فزع النهار المرتقب ، تفرغ الأشياء من محتوياتها ، تضع مكان القهقهة بسمة الحذر ، تصنع إرهاصاتها من متاهات السكوت المهول. إنها نزهة الترقب و الاشتياق ، إنه السفر في عمق دهاليز الذات القلقة حيث تكثر التساؤلات و تستيقظ أرواح الأرق ...
هكذا بدأت في حدة و أكثر توتر ، تزداد الليالي و توأد في الخفاء ، لا تفضح اغتيالاتها إلا أمواج النهار الكالح .. ذبحوا ! ، قتلوا.. ! أخذوا ! ، دمروا ! ، يحملها أثير الأشواك و تنقلها و خزات القلم.
دخل كعادته إلى بيتهم قبل الغروب ، متعباَ ، يدفعه القنوط أقعدته البطالة المفروضة على هذه القرية التي أضحت كالجسد المريض ، مرهقة الأطراف ؛ كان العنكبوت قد نسج خيمته في الورشات ، و خمدت النار المقدسة ، وأطرقت المطرقة ، و انطفأ جهاز التلجيم الذي كان يجمع المفككات ، سكتت محركات الجرارات
و الحاصدات و الشاحنات التي كانت تنقل الخيرات ، واكتسحت الميدان المدرعات ، واستوطن صوت الرصاص ، تردد صداه الشوارع و الفضاءات .. لا تخرج بالليل !! تحرى النهار !! احذر !!.. وفرض حرف اللاء أعمدته وسياجه على امتداد المكان والزمان .. دخل إلى القاعة الفسيحة المزينة الصدر بالزرابي الصحراوية والأرائك الإفرنجية، إنها تتآكل في صمت ؛ صورة الشيخ معلقة على الجدار ، فوقها بندقيته ، عين الصقر فوق شنب ثائر ، نظر إليه ، هكذا انتهيت ..! قالها في نفسه ، حتى في الصورة لا تنكسر ..! كانت العشيرة كلها تدين له بالولاء ، بيده الربط والحل ، هده العشيرة التي جمعت صنفي المواطنة ، القاطنين في البادية, أهل بذل وبذر وضرع ، أهل الترويض وركوب الخيل والفنتازيا ، أهل الكرم والجود والفروسية ؛ و القاطنين في الشمال ، حيث المدنية والإدارة والأبهة والسلطة والنفوذ.
جناح هذا البيت مجهز بكل ما يحتاج إليه الضيف مهما كانت منزلته ، ومهما كانت الطبقة التي ينتمي إليها ، والضيف عندهم هو الضيف ..! غرفة لدورة المياه فيها كل لوازم النظافة والطهارة والتزيين ، من صابون وعطر راق و ورق .. لا تزال كلها كما هي ، شفرات للحلاقة ، وقطعة من الشب ، لأنه كان نادراَ ما يحلق ذقنه و لا يجرحه ، كان يرحمه الله يقول : " اللي فاتك بالزين فوته بالحسانة " ما كان يقضيه في تهذيب شواربه يتجاوز بكثير مدة حمامه ، يلقبونه بالموسطاش ، أحفاده يسمونه ( العشرة وعشرة) قال أحدهم إنها إشارة إلى الساعة وقال الآخر عشرة رجال وعشر نساء ، وقال أحدهم عشر سنين وعشر وقالوا.. ! ! 
كان صوت التلفاز مدوياُ يضاهيه صراخ الأطفال الصغار وقهقهتهم ، يهرولون خلف ذلك القط المرح ( عنتور) نظافة ، رشاقة ومهارة تستهوي مداعبته الجميع ، يتخبأ ، يهاجم ، يطارد ، يقفز ، كان عنتور نشطاُ ذكياُ لدرجة تثير الدهشة والإعجاب ، يأكل كل شيء ، حتى الحلوة والشكلاطة يلعق الشاي يتقاسم مع الأطفال أكلهم ونومهم ولعبهم .. في وسط هذا الضجيج ، وفوضى الأشياء بداخله ، استلقى صاحبنا على الفراش يتأمل زخرفة السقف الجميلة ، كأنها منمنمات ، توهم البصر وتشغل البصيرة ، تحف الثريا المبتهجة ؛ النوافذ مغلقة بإحكام ، كان الجو في الداخل ثقيلاً والعياء فيه بلغ حده ، لم يكن من طبعه أن ينهر الأطفال ، بل كان ذلك التصعلك الصبياني يذكره بطفولته ، كان يعجبه إلى درجة أنه كان يشاركهم في بعض الأحيان ، رغم شساعة البيت وكبر مرافقه بدا له كالقفص ، ممدود على ظهره تأخذه السنة بعد الأخرى ، والجو الذي يحيط به يبتعد شيئاُ فشيئاُ ثم يعود و يختفي حيث لا يدري ، تنتابه الغفوة حتى لا يسمع إلا همهمات وخشخشة أصوات يبتلعها ذلك المجهول رويداُ رويداُ ويسلب معها مدارك الجسم ، وفجأة بدأت أحداث أخرى في عالم آخر تجذبه إلى غربة أخرى ، أحس بضيق في صدره ، وتوالى الخفقان السريع يتسابق نحو نقطة في الفراغ كانت وهي الآن في اتساع ، تشكل دائرة مفرغة يتيه فيها العقل مقيداُ ومذعوراُ ، تطارده شباك معقدة ، ضربات كأنها قطرات باردة تسقط فوق دماغه ، طبول تقرع في أذنيه ، أصوات عائدة من بعيد ، استغاثات نداءات ، صيحات .. يحاول أن يستغيث لا يقدر ! ، صراخ يمزق ضجيج الأشياء 
و الأشلاء التي تتشكل مبهمة ، تجذبه من كل جهة ، شيء ما يشده من قدمه ، يحاول جره نحو الأسفل أفقدته هذه الهواجس السيطرة على مفعول الحياة الذي كان يتسرب إليه من فجوات ، يلتمسه بلهف ولهت ، تشنجت أعصابه لدرجه الانفجار ، كأنها أوتار اشتدت لعزف مقطوعة قمة التوتر ، ذلك الشيء العالق بسرواله,، إنه لا يزال يشده ، كأنه يد من قبر تجذبه بكل قوة ، البشاعة تحيط به من كل جهة ، ثقل ما يحاول أن يسقط فوقه .. الآن آه ، سقط فوقه يغمره ، يخنقه ، يحاول أن يستغيث مرة أخرى ، أراد أن يبكي ، غار الدمع لا يزال الضياع والانهيار يمزق كل قبس للصورة الجميلة التي يختلسها نظره من حين لآخر ،في ذلك الأفق البعيد ، دقات كأنها نقرات صقر على رأسه ، وذلك الشيء الذي يشده من سراوله ليلقي به حيث لا يدري .. وفجأة خرجت الصرخة .. لا لا لا ! كأنها بندقية غدرت ، وستوى صاحبنا قاعداُ .. سد وانهار .. فوجد قطه يداعب رجله ، ودقات المنبه تتسابق، والديك الشجاع كعادته يصيح لإعلان فجر من يوم آخر ..
حريتنا في الحلم بركان... لا يعرف احد متى يثور... هكذا نمارس الكتابة

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 52 مشاهدة
نشرت فى 8 إبريل 2015 بواسطة WWWkolElkhwater

مجلة كل الخواطر

WWWkolElkhwater
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

549,385