جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة

بدايةً أود أن اتقدم باعتذاري للعصافير لاستعارة التشبه بهم في هذا المقام.. فالعصافير كائنات رقيقة تطلق تغريداتها صباح كل يوم لتطربنا بأصوات عذبه تبعث فينا البهجة والتفاءل بيوم مشرق.. نحن بالتأكيد لا نفهم تغريدات العصافير التي نتصور أنها مجرد أصوات مغردة.. مع أنها قد تكون لغة حوار فيما بينهم، لغة تضم سمة التعايش والانسجام أو سمة الصراع في خصائصهم الحياتية..
وكما للعصافير تغريداتها الخاصة، فالإنسان أيضاً تعلم أن يكون له تغريدات في مختلف المقامات، بل تخطى مرحلة التعلم إلى مرحلة التمرس والمهارة في بعض الأحيان.. وتختلف نغمة التغريدات باختلاف المقام (أو) باختلاف الكرسي.. فالكراسي عالية المقام غالباً ما تحاط بحاشية تطلق تغريداتها بالثناء والتمجيد والتهليل والتطبيل لكل أفعال وأقوال أصحاب الكراسي عالية المقام..
وتتدرج هرمية مقام الكراسي من أعلى إلى أسفل.. وكل كرسي له حاشيته التي تغرد له وتدعمه بخالص جهودها، فحاشيته تمثل خلية النحل التي تعمل وتكد في سبيل خدمة الملك ومملكته.. وهكذا في سائر الأنظمة، الخلية تعمل، وأصحاب الكراسي هم من يجنون ثمار النجاح وينشر عن إنجازاتهم في الصحف والمجلات، بل وقد يذكرهم التاريخ بأنهم أشهر المساهمين في تغيير مجراه..
وكما أن هناك تغريدات تهتف بأسم الملك، تطبل له وتهلل على كل قول وفعل وعمل.. فهناك أيضاً تغريدات مناهضة لسياسته التي ينتهجها.. تغريدات تريد أن تطلق دعوات أخرى لتوجهات الحياة، لتنادي بتطبيق قيم الكرامة الإنسانية والعيش بحرية..
الحرية التي نادت بها ملايين الملايين من التغريدات منذ قديم الأزل.. تغريدات تطلق سواء في الخفاء أو في العلن.. تطلق من أفواه البشر بناءً على توجهات ورؤى مختلفة.. إلى أن وصلنا إلى ما يسمى بالربيع العربي.. وحسبي لا أراه يعكس صورة من صور الربيع وبهجته على الاطلاق.. فلم أرى روعة ألوان زهور الربيع بعد..
فمازال فقير الحال يئن بتغريدات تعبر عن وجعه وعوزه للكساء والدواء وضروريات الحياة.. ولا تزال تغريدات الحقوقين تطلق للمناداة بحقوق الفقراء والضعفاء والمرأة والشباب وكبار السن والمرضي وذوي الاحتياجات الخاصة، إلى درجة أن بحت أصوات التغريدات.. وكأنها أصوات تطلق في الهواء وتتناثر دون صدى أو جدوى..
وأحسب نفسي من صفوف الغفير الفقير الذي يشاهد تلك التغريدات التي تطلق حول كرسي الملك وكرسي الغفير، ويصاب بغصة مؤلمة شديدة الحرقة، وغضب وحيرة متعبة لمختلف التغريدات التي تطلق من الفريقين.. التي تصل في أحيان كثيرة إلى درجة عواء الغربان الذي يزعج الأذان.. أياً من الفريقين أؤمن، وبأي تغريدات أصدق..
كل فريق يتهم الآخر بعدد من التهم، يتهمه بالجهل وعدم الفهم والتخوين وغزل شباك المكائد والمؤامرات.. وفي بعض المواقف يطور الأمر إلى حد الصراع والعراك وهتك الدم وسقوط ضحايا.. ويتصاعد الغضب ويتعمق الجرح.. وتتراكم الجراح وآلامها لدى كل فريق لدرجة الضيق والثورة والتوعد بالانتقام.. وهكذا يتكرر مسلسل الجرح والانتقام وسقوط الضحايا. وتستمر التغريدات تطلق على صفحات التواصل الاجتماعي وفي برامج المحادثة التي شغلت بكثرة ساعات بث الفضائيات للتعليق عما حدث وما سوف يحدث.
ولا حيلة لي إلا أن أطلق تغريداتي الخاصة لله وحده.. مالك الملك.. العزيز القدير بأن يهدينا الحكمة في صواب القول والفعل في كل شأن.. وعلينا أن نحسب حساب يوم يعرض جميع تغريداتنا في يوم عظيم الشأن.. وربما لا يرد إلى خاطرنا احتساب هذا اليوم في كثير من الأحيان.. بل نظل نركز اهتمامنا على التغريد لنعائم الملك – أصحاب الكراسي عالية المقام في كل موقع ومكان– ونلتهي (عمداً أو سهواً) عن احتساب نصيب الفقير في كثير من النعم والغنائم..
المصدر: د. نهلة أحمد درويش -
دكتوراة في الآداب - علم الاجتماع
صحيفة " الوطن العربى الأسبوعية " المستقلة الشاملة - لندن ، المملكة المتحدة ..
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير :
د. علاء الدين سعيد