منذ قامت الثورة في مصر والدعوة إلى الوفاق بين مختلف القوى السياسية تتردد في كل مناسبة، لإنقاذ الثورة والوطن، إلا أن الأصوات الداعية إلى ذلك الوفاق خفتت خلال الأشهر الأخيرة، حتى أصبحنا لا نكاد نسمع أحدا يتحدث عنها هذه الأيام، الأمر الذي يدعوني إلى طرح السؤال التالي:
هل القوى السياسية المصرية راغبة حقا في الوفاق؟
عندي شكوك قوية في توفر تلك الرغبة. يؤيد ذلك أن الدعوة المضمرة في الوقت الراهن، والتي تعبر عنها بعض الكتابات الصحفية باتت تركز على الإقصاء بصورة مباشرة أو غير مباشرة. ودعاة الإقصاء هؤلاء يعبرون عن موقفهم بالإلحاح على فكرة انسداد الأمل فيما هو قائم والتأكيد على أن الحكم الراهن في مصر لا يرجى منه أي خير.
الأمر الذي يستخلص منه المتلقي أنه لم يعد هناك بديل عن التخلص منه لإزالة العقبة التي تحول دون تحقيق الثورة لأهدافها.
فالصورة التي تقدم إلى المواطن المصري تتلخص في أن الرئيس مرسي عضو في التنظيم السري للإخوان، وأنه منذ تسلم السلطة فإنه نذر نفسه لخدمة جماعته وتحقيق أهدافها، وأنه لا يتخذ قرارا ولا يصدر قانونا إلا بمعرفة ومباركة مكتب الإرشاد.
ولهذا السبب ولأسباب أخرى: فإننا لن نرى استفتاء نزيها ولن نرى انتخابات نزيهة في عهد هذا الرئيس وجماعته.
وهذا الكلام ليس من عندي ولكنه منقول نصا عن تعليق لأحد الزملاء، احتل مكانه على الصحف الأولى يوم الأحد الماضي 14/10.
وذلك ليس رأيا شخصيا فحسب ولكنه يعكس أصواتا عالية تتبنى ذات الموقف الذي يبشر بانسداد الأفق والتيئيس مما هو قائم والترويج لفكرة سرقة الثورة، الأمر الذي يدعو ضمنا إلى الخلاص مما هو قائم وأحيانا يدعو علانية إلى ثورة ثانية.
لعلي لا أبالغ إذا قلت إن جذور الموقف الإقصائي ظهرت في الأفق إبان الفترة التي شكلت فيها لجنة تعديل الدستور في شهر فبراير من العام الماضي، ذلك أن اللجنة هوجمت بشدة واتهمت بتحيزها للإخوان لمجرد أن فردا واحدا من الجماعة ضم إليها باقتراح من وزير العدل، في حين أن بقية أعضاء اللجنة السبعة وهم من كبار رجال القانون وفقهائه ليسوا من أعضاء الجماعة.
لكن الواحد المذكور ــ الأستاذ صبحي الصالح ــ اعتبر دليلا على «أخونة» اللجنة.
وليس ذلك أغرب ما في الأمر، لأن الأغرب أن الوزارة التي كانت مشكلة آنذاك ضمت ثلاثة من الوفديين وواحدا من حزب التجمع، كما أن نائب رئيس الوزراء كان عضوا بارزا في الحزب الديمقراطي الاجتماعي،
ومع ذلك فإن أحدا لم يتحدث عن تسييس تشكيل الحكومة.
وبدا الأمر مسكونا بمفارقة غير بريئة. فالعضو الواحد في اللجنة لوثها وأثار حولها الشكوك. لكن وجود الحزبيين الخمسة في الوزارة لم يضف أي لون لها.
ولا تفسير لذلك سوى أن النخبة عالية الصوت في مصر اعتبرت أن وجود العضو الإخواني خطأ جسيما وشذوذا ما كان للنظام الجديد أن يتورط فيه.
وهو ما ينطبق عليه مضمون بيت الشعر الذي ينسب إلى أحد شعراء الأندلس وقال فيه:
إن قلت ما أذنبت قلت مجيبة وجودك ذنب لا يقاس به ذنب
الرسالة التي أراد صاحبنا إيصالها هي أنه نفى لمحبوبته أنه اقترف أي ذنب أو أخطأ في حقها، لكنها ردت عليه قائلة إن المشكلة لا تكمن في ذنب ارتكبه، لكنها تكمن في مبدأ وجوده في العالم.
هذا الاعتراض على مجرد الوجود على خرائط الواقع هو الذي يثير حساسية وقلق البعض ممن يروجون ليل نهار لما يعتبرونه كارثة الأخونة
(الحكومة الإخوانية يرأسها مسؤول من غير الإخوان
وتضم 30 من خارج الجماعة، وخمسة فقط من الإخوان.
والمحافظون أربعة من الجماعة و23 من غير الإخوان،
والسفراء ليس فيهم واحد من الجماعة)
ــ حين يستعرض المرء بقية القوائم سيخرج بنفس النتيجة، وهي أن المشكلة لدى البعض أن الإخوان وجدوا بنسب متواضعة في بعض المواقع.
وهذا الوجود يستخدم في التخويف من استيلاء الإخوان على «كل مفاصل الدولة»، كما عبر أكثر من واحد من السياسيين والكتاب.
تطول قائمة القرائن والشواهد الدالة على أن الرغبة في التوافق لم تتوفر بعد لدى أغلب القوى السياسية في مصر، وإن كان ذلك لا يمنع من أن بعض ذوي النوايا الطيبة كانت لهم جهود فردية لم تثمر لحقيق التوافق المنشود.
ما يثير الانتباه في هذا السياق أمران،
أولهما أن معسكر الإقصاء والاستئصال أصبح يضم شريحة واسعة من العلمانيين والليبراليين وعناصر الثورة المضادة، والفلول الذين يلقى بعضهم تعاطفا ودعما من بعض الأطراف العربية.
الثاني أن فريقا من هؤلاء يحاول إقامة قاعدة لهم في الخارج لإدارة الاشتباك وتوسيع دائرته.
والشخصية الفاعلة في هذا المسعى رجل أمن فلسطيني سابق له اتصالاته مع بعض السياسيين والإعلاميين. وقد توسط في شراء إحدى الصحف الناطقة بالعربية في لندن. وبصدد إنشاء قناة تليفزيونية، ومركز للدراسات رشح له «إستراتيجي» مصري
ــ إن التدبير المعد أوسع وأخطر مما يبدو على السطح.