دشّنت الآمة العربيّة بعد سنين من الحكم الشمولي ، عصر الإنعتاق ، والسفر نحو تخوم الحريّة ، وانطلقت في كتابة صفحات جديدة من تاريخها بدم الشهداء ، لتعلن على الملأ انتهاء تاريخ الذلّ ، والفقر ، والصمت الرهيب ، ولتفتح بذلك نافذة على سيادة الشعوب ، وامتلاك مصائرها بأيمانها ، وقد كانت ثورة تونس فاتحة عهد عربيّ جديد ، علّمت المستضعفين في الأرض أنّ إرادة الشعوب إذا ما رامت الحريّة فلا بدّ لليل أن ينجلي ، ومع إعلان سقوط نظام بن علي ، هذا النظام المؤسّس على دولة البوليس والعصا الغليظة ، تحرّك موج العزّة في ميدان التحرير مطالبا برحيل حسني مبارك ، والقطع مع مرحلة عرفت فيها مصر تراجعا كبيرا في موقعها على خارطة الفعل العربي ، لتصبح آلة تنفيذ أمينة في منطقة الشرق الأوسط لسياسات البيت الأبيض المبشّر بشرق أسط جديد ،وتعدّدت التحركات الشعبيّة من بعد ذلك على درب الحريّة في البحرين ، واليمن ، وليبيا ، وسوريا مطالبة برحيل الأنظمة ، وقد تعامل الغرب مع الثورتين التونسية والمصريّة بنفاق سياسيّ شديد ، يخفي ما لا يبدي ، وقد تعاملت مع الوضع التونسي والمصري على حدّ السواء بحياديّة ، فلم تدخّل في الأحداث بصفة مباشرة ، ومع سقوط رأسي النظام ، وجّهت الوفود الأمريكية والفرنسيّة وجوهها شطر البلدين بدعوى المساعدة والنصح ، ودعم البلدين لتحقيق المسار الديمقراطي ، والقطع مع ثقافة الحزب الواحد ، والدكتاتورية في تصريف شؤون الدولة ، هذا ظاهر الزيارات الرسميّة التي عرفتها تونس ، ولكن الواقع يثبت عكس ذلك ، وذلك من خلال تعثّر مسار الثورة ، حيث شهدت تونس مثلا في فترة وجيزة انبثاق ثلاث حكومات ، ومثّلت ورقة موعد انتخابات المجلس التأسيسي ورقة للمناورة السياسية ، إذ لم يحدّد الموعد نهائيّا بل شهد تجاذبات سياسيّة بين الحكومة والحساسيات السياسيّة واللجنة العليا لمراقبة الانتخابات ، علاوة على ظهور الانفلات الأمني من حين إلى حين ، وكأنّ لسان حال من يقف وراء هذه الاضطرابات يقول ” الأمن مقابل التخلّي عن مسار الثورة ” والمتمثّل في جملة من المطالب التي من بينها القطع مع مظاهر الدكتاتورية ، ومحاسبة كلّ رموز الفساد في النظام ممن سرقوا ونهبوا ، وقتّلوا الأبرياء أثناء الثورة ، ولكن شيئا من ذلك لم يحصل ، بل سقط رأس النظام ، وبقي النظام ، فإلى اليوم لم تقع محاسبة رموز الفساد ، ولم يقع القطع كليّا ونهائيّا مع منظومة الديكتاتورية وميكانيزماتها داخل مفاصل الدولة ، ولعلّ نفس السيناريو شهدته ثورة مصر ، مع فوارق طفيفة ، وإن دلّ هذا عن شيء فإنّما يدلّ على حرص الدول الغربية على توجيه الثورات العربية إلى الوجهة التي تحفظ مصالحها في منطقة شمال إفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط ، وأمن إسرائيل ، فبالأمس خرجت علينا كونداليزا رايس بخريطة طريق عالمية جديدة اصطلح على تسميتها بالشرق أوسط جديد ، وصنّفت الدول العربية لدول اعتدال ودول إرهاب ، وكانت من بين مطالبها نزع سلاح حزب الله في جنوب لبنان ، تضييق الخناق على حماس في قطاع غزّة ، تدمير العراق ، وليبيا اليوم على حافة الدمار ، التلاعب بعواطف الشعوب في تونس ومصر ومحاولة تعطيل السير الديمقراطي للثورات العربية دفاعا عن المصالح الإسرائيلية الأمريكية في المنطقة ، وتوجيه رسالة لبقية الشعوب العربية من خلال إفشال الثورتين المصرية والتونسيّة في تحقيق أهدافهما من ناحية ، ومن ناحية أخرى خوفا من صعود التيار الإسلامي سواء في تونس من خلال نجاح حزب حركة النهضة في الانتخابات ، أو صعود الإخوان المسلمين في مصر إلى سدّة الحكم ، ولعلّ هذا ما يفسّر حرص أمريكا من خلال مبعوثيها على متابعة المسارين في البلدين لحظة بلحظة تحسّبا من التحاق البلدين بمحور الممانعة والحال أنّ مصر خصوصا دولة مواجهة مع الكيان الصهيوني ، ويجب أن تبقى على درجة من الولاء للبيت الأبيض وسياساته في المنطقة ، خوفا من اللحاق بالحلف المعادي لإسرائيل ( حزب الله – سوريا – حماس – إيران ) ولعلّ هذا ما يفسّر تعثّر مسار الثورة في تونس ومصر معا إلى الآن .