صناعة الثقافة الريادية الحضارية .. 12. الحقوق الفئوية الدينية بين نظام الدولة المدنية الإسلامية ونظام الدولة المدنية الليبرالية - (فرنسا .. أنموذج).
بقلم الأستاذ دكتور / عبد الكريم فادن
الأستاذ بجامعة الملك عبد العزيز - المملكة العربية السعودية
صناعة الثقافة الريادية الحضارية: 13. الهوية المركبة
المُقدِّمة
في الوقت الذي يتجه العالم الغربي نحو الاتحاد والاندماج في كيانات كبُْرى .. ليست إقليمية فحسب بل حتى قاريَّة (كالاتحاد الأوروبي)، يجد المتتَبِّع لما يجري في الساحة العربية، موجات من المطالب من الفئات العِرْقية (كما في العراق)، والدينية (كما في مصر) والمذهبية (كما في دول الخليح) والقبلية (كما في السودان)، مؤدَّاها مزيد من التفتُّت والتشرذم ... وذلك تحت دعاوَى (حق تقرير المصير، والاستقلال، واستخلاص الحقوق الفئوية ... إلخ.)، هي في ظاهرها (كلمة حق أريد بها باطل). وهذه المطالب وما يترتب عليها من اضطرابات .. يمكن حصر أسبابها والعوامل الداعية لها فيما يلي:
- تجاهل بعض السلطات الحاكمة لبعض الحقوق الفئوية والدينية الخاصة بالأقليات في الدولة.
- هضم حقوق المواطنة العامة المشترَكة في ظل الاستبداد ودكتاتورية السلطة الحاكمة في بعض الدول.
- عدم مواكبة بعض السلطات لوعي الشعوب بحقوق المواطنة، والحقوق الفئوية والدينية. وتجاهل العمل على استيفاء استحقاقاتها.
- التدخل الأجنبي الغربي الذي يشجع على تجزيء الدول والمجتمعات العربية والإسلامية إلى أجزاء، وتفتيت الأجزاء إلى جُزَيْـئات وفُـتات، وذلك لتيسير هيمنة الأجنبي على هذه الدول المُستضعَفة، ووضعها تحت نفوذه، وامتصاص خيراتها من الموارد النفطية وغيرها من الموارد الطبيعية. وجعلها سوقا استهلاكيا لمُنتجاته الصناعية.
- انعدام الرؤية الشفافة للهوية الشخصية المركبة لدى المواطن، وتقديرها حق قدرها؛ لعدم قدرته على التحقق منها، وتمييزه لعلاقاته مع الهويات المفردة التي تشكل هذه الهوية المركبة، وللمعايير التي تساعده على تأطير هذه العلاقات، في نطاق الإطار الذي يعمل على تأطير الهوية المركبة. مع العمل على توفية استحقاقاتها المتوازنة المطلوبة. مُنسجماً مع مقتضيات مسيرة النهضة الحضارية المباركة (بإذن الله تعالى) التي بدأت إرهاصاتها تلوح في الأفق.
ففي معالجتنا الراهنة سوف نـتناول العامل رقم (5) للأهمية القصوى في ظل الحراك التغييري الذي يجري في الساحة العربية، والضبابية التي كست رؤية العلاقات داخل النسيج المجتمعي ... ألا وهو قضية (الهوية الشخصية المركبة)، وذلك في محاولة لاستكشاف وتوضيح كيفية معالجتها على النحو الذي يحقق الطمأنينة النفسية للمواطن، والوفاق المجتمعي على مستوى الوطن، وحسن الجوار، والعلاقات الدولية في مجال العلاقات الدولية، والأمن والسلام العالمي. وسوف تضم هذه المعالجة المحاور التالية:
13.1. الهوية الشخصية ... هوية مركبة.
13.1.1. مدى معرفة الغالبية العُظمى بالهوية الشخصية.
13.1.2. ملابسات الهُويَّة المركبة.
13.2. تعريفات الهوية، والهوية المفردة، والهوية المركبة.
13.2.1. باعتبار التعريف المركب (من صفة وموصوف).
13.2.2. باعتبار التعريف الْـعَـلَمي أو اللَّـقَـبِي.
13.3. أجناس وأنواع مُفردات الهوية الشخصية المركبة.
13.4. إطار الهوية الشخصية المُركبة وهُوِيَّاتها المُفْرَدة .. في ظل نظام الدولة المدنية الإسلامية.
ونبدأ في هذه المقالة الأولى بالفقرة التالية:
13.1. الهُـوِيَّـة الشخصيَّة ... هـويـة شخصيَّة مُرَكّـَبَـة
هل نعرف: أن الهُوِيَّة الشخصية .. هي: هُوِيَّة مُرَكَّبة ... ؟؟؟.
وكم هُوية مُفْرَدَة في البطاقة الشخصية أو دفتر الهُوية الشخصية ... ؟؟؟.
أما نرى أنَّ هناك ضبابية تكتـنف الرؤية حول طبيعة العلاقة بين هذه الهويات المُفْرَدَة، فتُـفضِي إلى اضطرابٍ في الوفاق الوطني، وانعدام للاستقرار الاجتماعي في معظم البلدان، خاصة العالم الثالث ... ؟؟؟.
فهل من رؤية متكاملة تُؤَطِّرُ هذه الهُوِيَّات المُفْرَدََة في إطار ـ للهوية المركبة ـ يحمل على التكامُل والوفاق الوطني، والسلام الاجتماعي، والأمن العالمي ... ؟؟؟.
وما أهمية إثارة هذا الموضوع في الوقت الراهن ... ؟؟؟ وما مدَى الحاجة إلى مناقشته ... ؟؟؟. وما علاقة الموضوع بما يجري من أحداث وحراك تغييري مَوَّار في الساحة العربية والإسلامية والعالم الثالث ... ؟؟؟
13.1.1. مدى معرفة الغالبية العظمَى عن الهوية الشخصية
إن جُـلَّ معرفة الغالبية العظمى ـ على أوسع مداها ـ عن الهوية الشخصية ... هو أن الهوية الشخصية تهم صاحبها باعتبارها ذات معلومات عن:
- هوية ذاتية ... تحمل: ملامحه الشخصية الذاتية (منها بوجه خاص: صفات الشكل الظاهري التي تميزه عن الآخرين من أسرته وبني وطنه ... مثل: شكل العين، اللون، والعلامة البدنية الفارقة ... إلخ.). وتُميزه أيضًا عن غيره في مُفرَدات (أي الهويات المُفرَدة الأخرى كالهوية الدينية أو الأسرية أوالقبلية وغيرها المُشتركة في) هويته المركبة.
- هوية أسرية أو قبلية: تتمثلَّل: في لقب العائلة مثل (الهاشمي)، أو لفب القبيلة مثل (القُرشي) ليس إلاَّ، أو اللقبَيْنِ معًا؛ للتأكيد علي صحة انتسابه إلى العائلة أو/والقبيلة (مثل: عليّ بن أبي طالب الهاشمي الفُرَشي ... كرَّمَ الله وجْهَهُ).
- هوية وطنية ... تُـثْبت: انتماءَه إلى وطن يشترك مع مواطنين آخَرين في هذا الوطن (مثل: سُوريّ) ... وتميُّزَهُ عن منتمين أخَرين لأوطان أخرى (مثل: العراقي، والكويتي، والأردني ... أو ... أو ... إلخ.).
- هوية دينية: ... تُبْرزُ: انتماءَهُ إلى دين مُعيَّن مثل: (الإسلام، أو النصرانية، أو اليهودية، أو .. أو .. إلخ.)، يشترك في ذلك مع مواطنين آخَرين في الوطن (مثل السعودي المسلم) أو في أوطان أخرى (مثل المصري المسلم، أو الإندونيسي المسلم).
- هوية مهنية أو حرفِيَّة: ... تُبيِّن انتسابه إلى مهنة أو حرفة معيَّنة، و/أو إلى الجهة التي يعمل بها ( مثل: المهندس، أو الاستشاري السياسي العالمي)
- هوية علمية: ... تُسَـجَّل وتُذْكَر فقط في السجل المدني (أي الملف المدني الخاص بالمواطن) وليس في البطاقة الشخصية، بينما الهويات المُفرَدة الخمس سابقة الذكر هي التي تُذْكَر في البطاقة الشخصية، بالإضافة إلى السجل المدني (مثل: حائز على درجة البكالوريوس .. أو/ الليسانس/ الماجستير/ الدكتوراه/ جائزة نوبل).
اعتبارات ذات أهمية بالهوية المركبة والحراك النهضوي والتدافع الحضاري:
- فأهمية الهوية الذاتية تتمثل لدى الحاجة إلى التحقق من ذات حامل البطاقة الشخصية؛ لأي سبب من الأسباب.
- بينما الهويات المُفْرَدَة الخمس المذكورة في (2 ـ 6) فهي هويات اجتماعية وعلمية تهم صاحبها أساسًا في تحقيق انتمائه لهذه الهويات المفردة التي تُكمِّلُ ـ في مجموعها ـ (هويتَه الشخصية المركبة).
- ذلك مبلغ الغالبية العُظمى من العلم لدى العامَّة عن الهوية الشخصية المركَّبة، ومُكوناتها من الهُوِيَّات المُفْـرَدَة، وأهميتها واستخداماتها، وعلاقات بعضها البعض، وعلاقات الأفراد داخل الهوية المفردة الواحدة.
- أمَّا ما هو أبعد من ذلك من المعلومات ـ التي لها علاقة بالصفات والشمائل ذات القيم الإنسانية الحضارية الثقافية داخل إطار الهوية المركبة، وأهمية معرفتها في مجال الحراك النهضوي والتدافع الحضاري ... فذلك ما هو غائب عن الصورة الحقيقية في أذهان هذه الأغلبية القُصوَى. ومعرفة المواطن النهضوي الحضاري معرفة جلية تامة للهوية الشخصية المركبة هي: أمرٌ في غاية الأهمية والضرورة، وله دور كبير في مسيرة النهضة الحضارية المباركة (بإذن الله تعالى) التي بدأت إرهاصاتها تلوح في الأفق.
13.1.2. ملابسات الهُويَّة المركبة
* إنَّ بطاقة الهوية الشخصية الرسمية التي يقتنيها المواطن ويستخرجها من الدولة التي ينتمي إليها ... لا تشتمل كل الهويات المفردة التي تشكل ـ في مجموعها ـ هويته الشخصية المركبة. بل قد تكون له هُويـات مُفْـردة (إضافيـة) مُسجَّلة في أكثر من بطاقة هوية شخصية، غيرِ بطاقته الشخصية التي تصدرها له دولته التي ينتمي إليها ... وذلك حسب مستواه العلمي والثقافي، ومكانته الاجتماعية (السياسية، أو الاقتصادية أو الإعلامية .. أو .. إلخ.) ... سواء على الصعيد المحلي، أو القومي، أو الإقليمي، أو الدُّوَلي، أو على كلّ أو بعض هذه المُستويات والأصْعِدَة ... !!! لذلك فإن الهوية الشخصية المركبة للفرد تضم (مجموع الهويات المُفرَدَة المذكورة في بطاقة الهوية الوطنية الرسمية + مجموع الهويات المفردة الأخرى المذكورة في بطاقاته الشخصية المكتسبة من جهات عمله أو الهيئات التي انضم إليها حسب مستواه العلمي والثقافي أو مكانته الاجتماعية، وعلى الأصعدة المحلية أو الإقليمية أو الدولية).
* فـإذا تَـنازعَ الشخصَ بعضُ هذه الهُويات المُفرّدة نتيجة ضبابية الرؤية أو تعارُض أو تجاوز متطلبات والتزامات بعض الهويات المُفرَدة مع/على الأخرى ... فيا تُـرَى ... أيُّ هُـويَّـةٍ (مُفرَدَة أو مركبة) يُـحَـكِّمُـها ... ؟؟؟ فهذا سؤال مُهِمٌّ جدا لتحقيق الطُّمانينة النفسية، والوفاق الوطني، والسلام المُجْتمعي، والأمن العالمي.
ففي ظل العولمة المعاصرة ... غدت العلاقات والروابط تتشابك، وأصحابها يتصنَّفون إلى فـئات متنوعة وأطياف متفاوتة . وهو أمر شـَابَهُ كثيرٌ من الالتباس الناجم من :
- قدرٍ من الضبابية والخَلْط في مضامين الحقوق الفئوية وطبيعة االعلاقة ـ فيما بين أفراد الفئة الواحدة من جهة، وبين أفراد الفئات في الدولة الواحدة من جهة أخرى ـ وفي الاستحقاقات الفئوية المُستقلة واستحقاقات المُواطنة العامة في الـدولة.
- تعارُض أو تجاوز التزامات ومتطلبات بعض الهويات المُفردة مع/على الأُخرَى. على سبيل المثال: تجاوز أو تعارض التزامات الهوية الوطنية مع/على التزامات الهوية الدينية ... أو العكس بالعكس.
- وقدرٍ من الروابط الشَّـراكِيَّة مع أكثر من فئة ... على مختلَف الأصعدة: الوطنية، القومية، الإقليمية، الدينية ... إلخ. والمستويات: الاجتماعية، المؤسَّسِيَّة، المهنية، الهواياتية ... إلخ. فكل هذه الانتسابات الفئوية والطيفية يترتب عليها روابط انتمائية هُوِّيَّة (أو هُوِّيَّاتية) ... أي روابط هُوِّيَّة مركَّبة، بمعنى أنَّ كل فرد أو مواطن على وجه البسيطة ينتمي إلى أكثر من هوية ... أي إلى لحمة أو مجموعة الهويات المُفْرَََدَة، التي يُطْلَقُ عليها (الهوية الشخصية المركبة).
وفي ظل هذه الحقيقة ... يختلط غلى المواطن أمر الهُـويَّـة المُـرَكَّبة وهُـويَّـاتِـها المُفرَدَة ... خاصة حين تشتبك عليه أو تتنازعه روابط الهويات المُفردة وما يترتب عليها من حقوق وواجبات، مع ضرورة إدراكه لخصوصية هذه الروابط واستحقاقاتها التي يتعيَّنُ عليه وعلى وطنه والجهات المعنية بحقوق الإنسان توضيحها ـ بمنتهَى الشفافية ـ ومراعاتها من أجل تحقيق الطمأنينة النفسية، والوفاق الوطني والاستقرار المجتمعي، والأمن العالمي ... لدى ممارسة هذه الروابط واستحقاقاتها.
فعلى سبيل المثال للتوضيح:
كيف يتسنَّى للمواطن أن يُوائم ويوفِّق ويُنسِّق ـ دون تعارض ـ مُتطلَّبات الرابطة الوطنية مع الرابطة القومية (العربية مثلاً) من جهة، والرابطة الإقليمية (الخليجية أو الشرق أوسطية) من جهة أخرى، والرابطة العالمية (الإسلامية) من جهة ثالثة ... ؟؟؟ ؛ إذ قد تتداخل عليه مقتضيات واستحقاقات وأولويات هذه الروابط والانتماءات لدرجة قد تكون له أثارٌ على حساب بعضها البعض ... ؟؟؟
فنظراً لضبابية الرؤية (المذكورة أعلاه) ... لا يُعـير كثيرٌ من الدول ـ ذات النظم الليبرالية والعلمانية ـ الأهمية المطلوبة لخصوصيات الروابط المتعلقة بالهويات المُفردة الأخرى للمواطن بجانب هويته الوطنية ... الأمر الذي يُفضي به إلى فوضَى هُـوِّيَّة (فكرية وسلوكية) ... وإلى ما لا تُحْمَد عقباه ...
فالدولة الليبرالية والعلمانية ـ حسب ايديولوجنتها الفلسفية ـ تًعنَى أساساً بالتحرُّر المُطْلق من كل القيود والحقوق الفئوية (بما فيها الحقوق الدينية)، فلا تعير بالتبعية الخصوصية الفئوية الدينية للأقليات. هذا ... بينما في ظل الدولة المدنية الإسلامية، فإنَّ الحقوق الفئوية (الدينية والمدنية وغيرها) مكفولة بقوة العقيدة وفرضية الشريعة الإسلامية. وهذه الحقيقة الإسلامية العريقة التي ثبتتْ عبر التاريخ هي التي ترشح الإطار المناسب للهوية الشخصية المركبة للمواطن أيًّا موطنُه، وأيًّا دينُه، وهوياته الأخرى، كما سنوضحه في الفقرة المتعلقة بذلك فيما بعد.
ولذلك ... لعله من المستحسن إضافة الفقرة الخاصة بـ (13.2. تعاريف الهوية، والهوية المفردة، والهوية المركبة)، لِمَنْ يريد أن يستزيد من التفصيل والتوضيح في المقالة القادمة ... والله ولي التوفيق ،،،،