كبر في نفسها سؤال منذ الطفولة, سؤال صار يكبر معها ويحيل حياتها قتامة وظلاماً، ترى والدتي من أي صنف من النساء؟ لا أشعر أنها تفرح لي ولا تبادلني مشاعري ولا تكترث كثيرا لأمري ، كل يوم يتأكد لي شعور أنها تعتبرني عبء عليها، تبدي الامتعاض لأي طلب أطلبه حتى لو كان صغيراً، ولا تقبل حتى تجرعني الذل والهوان بكلمات أتمنى لو أموت دون أن أسمعها، وإن قبلت فعلى مضض.. أتردد ألف مرة قبل أن أطلب حاجتي الضرورية.. يستولي نفسي شعور مريب.. هل تكرهني، هل هي نادمة أن أنجبتني؟ إن مرضت لا تواسيني بل تتظاهر بالشكوى من آلام جسدها وكأنها تريد أن تحسسني أنها أكثر مرضا مني.
اكتشفت مع الأيام أنني لست وحدي التي تعاني من هذا الشعور. فجميعنا يعاني ويكتم آهاته ويصمت ، لأن أحداً منا لو أفصح عن شعوره تكتئب وتتظاهر بالمرض والإعتلال، فنلوذ بالانزواء عنها والابتعاد عن طريقها.
ليتني كنت حجراً ، أمي تحب الحجر أكثر من البشر.. نعم ، منذ أن وعيت للدنيا، وشغلها الشاغل بيتها، أنفقت كل مدخرات والدي على هذا البيت، أفسدت حياته وكل خططه، كانت حزينة ومكتئبة طوال الوقت، فقط عندما يستجيب لطلباتها لتعمير هذا البيت تكون سعيدة، سعادة وقتية ثم لا تلبث أن تعود لحالتها.. لتبحث عن إنجاز آخر في ذلك البيت.. فرحها وسعادتها مرتبطة ببناء دور جديد، تركيب بلاط جديد، أو تغيير طلاء جدار .. تموت حسرة لو سمعت أن أحدهم اقتنى بيتا أحسن من بيتها، أو أحدثت صديقة أمراً في بيتها، يجن جنونها، تأكلها الغيرة أو ربما هو الحسد ، وتأكل قلب والدي حتى يستجيب لرغبتها وتنال ما تريد.. عشرون عاماً مضت من عمري، لم أنل من اهتمامها ما يناله ذلك البيت ولو مرة.. حتى أخواني وأخواتي عندما تزوجوا، لم تفرح كما يجب، لم تبتهج كأي أم، كان همهما فقط أن تظهر لمعارفها أنها مهتمة، ولكنها ما أن تخلو بنا حتى تنقلب إلى امرأة مهمومة مغمومة، لا يعنيها أن تبحث مع ابنة شئون زواجها، أو تتواصل مع أهل زوجة أبن بدون ضرورة ترفع بها الشره عنها. تمضي ليلها ونهارها تفكر في بيتها، حتى عندما يحضر إخوتي لزيارتها، تتلقاهم بالتتباهى عليهم بما استحدثته من فرش وما غيرته من ستائر، وكأنها تشعر بالانتصار عليهم، ينسيها شأن بيتها حتى أن تسألهم عن مستجدات حياتهم.
أنا لا يهمني أمر ذل البيت البغيض، أنا أريد قلبها الذي لم ألاقيه، إحساس أمومتها الذي افتقدته منذ عرفتها .. أكره هذا البيت ، يزعجني ذكره ، يشعرني بدونيتي وقلة شأني، الحجارة الجامدة الخرقاء سرقت قلب أمي طيلة عمري، لم أهنأ بقربها يوما ، لم تحتضنني دون أن أطلب منها ، لم تقبلني من تلقاء نفسها... غريبة الأطوار، تحب الحجر أكثر مما تحب البشر... لقد مات والدي حسرة وغماً، فهو لم يساوي لديها إلا مقدار المال الذي يلبي رغبتها في العناية بهذا البيت.. حتى حاجاته العاطفية لا ينالها إلا بهذا المقابل .. بالنسبة لها مجرد وقت وتنفض يدها منه.
لم أندم على فقد أمي فقد ماتت وهي توصي ببيتها .. ماتت نادمة أنه سيؤول إلى غيرها.. ماتت وهي غير عابئة بي، وأنا ابنتها الوحيدة في البيت التي لم تتزوج. ليتني كنت حجراً.