خطيئتان ينبغى أن نحذر من الوقوع فيهما: أن نفرط فى دم الشهيد وأن نبتذله، هذا التحذير يدفعنى إليه ما ألاحظه من تداول لمصطلح دم الشهيد، يهّون من شـأنه شيئاً، ويضعه فى غير موضعه، فى أحيان أخرى كثيرة إلى حد الابتزاز والترهيب، الأمر الذى يدعونا إلى محاولة ضبط المسألة، ليس فقط حفاظاً على كرامة الشهيد الذى دفع حياته فداء لعزة وطنه ومواطنيه، ولكن أيضاً دفاعاً عن جلال قيمة الشهادة التى تحتل ذروة مراتب العطاء النضالى والإنسانى النبيل.
للشهيد أكثر من حق يتعين الوفاء به، فحقه فى القصاص واجب إذا تم التيقن من معرفة قاتله، أما إذا لم يعرف فإن حقه فى محاسبة الذين أمروا بإطلاق الرصاص على أمثاله لا يسقط، وذلك ليس حقاً له فحسب، ولكنه حق للمجتمع أيضاً الذى خرج الشهيد دفاعاً عنه وضحى بحياته فداء له، إلى جانب أن ذلك الحساب ضرورى لردع الذى ينتهكون حقوق الخلق ويهدرون حقهم فى الحياة، ولأهله حقان، حق فى التعويض عن فقده، سمه ديةّ إن شئت، وحق فى رعاية أسرته سواء كان يعولها أو كانت قد علقت آمالها عليه، وهذه الرعاية تتراوح بين المعاش الشهرى وتدبير السكن أو نحو ذلك، وقبول التعويض أو الدية لا يسقط الحق فى المساءلة والمحاكمة، لأن الدية حق الشهيد وأسرته والمحاكمة حق المجتمع الذى لا يستطيع أحد أن يتنازل عنه.
هذا الكلام ليس لى، ولكنه رأى الشيخ جمال قطب أحد فقهائنا المعتبرين، ورئيس لجنة الفتوى السابق بالأزهر الشريف.
من عندى أضيف حق الشهيد فى التمجيد والتكريم، ذلك أننا اعتدنا أن نمجد الأعلام ونخلد ذكراهم، وذلك حق لهم لا ريب، إلا أنه من الإنصاف أيضاً أن نخلد ذكرى بسطاء الناس الذين تركوا بصماتهم فى تاريخنا المعاصر، ولكم تمنينا مثلاً أن يصدر فى 25 يناير طابع بريد يحمل صورة خالد سعيد ومينا دانيال، لأن أحداً لا يستطيع أن يتحدث عن ثورة 25 يناير دون أن يأتى على ذكرى الاثنين، وذلك إجراء بسيط للغاية لكنه عظيم الدلالة.
من حقنا أن نسأل الآن، أى هذه الحقوق تم أداؤها، وإذا ما قصرنا فى شىء منها فلنا أن نسأل لماذا كان التقصير أو التراخى ومن المسئول عن ذلك، وذلك كله يمكن أن يتم بأسلوب رصين ومتحضر يخدم تحقيق الهدف بعيداً عن الضجيج والإثارة. وهو ما ينقلنى إلى الخطيئة الثانية التى حذرت من الوقوع فيها، والتى وصفتها بابتذال دم الشهداء.
ما أعنيه بالابتذال تحديداً هو أن يزج بدم الشهيد فيما لا يخدم استيفاء حقوقه والدفاع عن كرامة أهله وتحقيق الأهداف التى ضحى بحياته من أجلها، وهذه الأهداف الأخيرة يشترك فيها كل الذين ثاروا على النظام السابق ودعوا إلى إسقاطه، لقد لاحظت نماذج لذلك الابتذال فى كتابات عنه أراد أصحابها أن ينتقدوا بعض الأوضاع بدءاً من التعديلات الدستورية، مروراً بالجدل حول الانتخابات أولاً أو الدستور أولاً، وانتهاء بالرئيس أولاً أم الدستور أولاً، وحين انحاز هؤلاء إلى رأى فى هذه العناوين، فإنهم اعتبروا أن معارضيهم باعوا الشهداء وفرطوا فى دمائهم، مع أن الخلاف فى هذه الأمور كان فى حقيقته اجتهادا فى تقدير المصلحة، كذلك لم أفهم علاقة دماء الشهداء بمنع رئيس الوزراء من الدخول إلى مكتبه، أو بتشكيل الجمعية التأسيسية التى ستضع الدستور، وكيف تعد نتائج انتخابات مجلس الشعب إهدارا لدم الشهداء لمجرد أن الإخوان والسلفيين حازوا النسبة الأكبر من الأصوات، وأنا هنا أتحدث عن العناوين الكبيرة، لأن التعليقات التى تحفل بها شبكة التواصل الاجتماعى تحفل بنماذج من الابتذال والمزايدة يدهش المرء من الإشارة إليها أو ذكرها، وإذ أفهم أن كل أحد أصبح بمقدوره أن يقول ما يشاء على موقع «تويتر» بغض النظر عن وعيه السياسى أو قدرته على التعبير، فإن ذلك الابتذال يغدو غير مفهوم، ولا مقبول حين يصدر عن ناشطين لهم إسهاماتهم فى العمل العام، وبمقدورهم التفرقة بين الجد والهزل وبين العبث والكلام المسئول.
إذا قال أى أحد إن الثورة لم تحقق أهدافها وبنى على ذلك أن ثمة تفريطاً فى دماء الشهداء، فإنه يتعسف فى الحكم، لأن تحقيق أهداف الثورة لا يمكن أن يتم فى عام أو اثنين أو ثلاثة، ولا أريد أن أزيد لأن الثورات الكبرى فى التاريخ لم تحقق أهدافها إلا بعد عشرات السنين (فى انجلترا وفرنسا وإسبانيا مثلاً) وفى الحقيقة فإن السؤال الصحيح ليس ما إذا كانت الثورة قد حققت أهدافها أم لا، علماً بأن إجراء الانتخابات النيابية وانعقاد مجلس الشعب يوم الاثنين 23/1 يرد على ذلك السؤال بالإيجاب فيما خص ملف نقل السلطة إلى المدنيين على الأقل.
إننا نريد لدم الشهيد أن يكون حافزا لاستمرار الثورة وليس ذريعة لتعطيل مسيرتها أو شق الصف الوطنى.
ساحة النقاش