لو تمت الانتخابات بالصورة التى رأيتها أمس الأول فمعنى ذلك أننا نجحنا بتفوق فى الفصل الانتخابى الأول. والذى نجح هو الشعب الذى خرج على بكرة أبيه منذ طلوع الشمس لكى يصطف أمام مقار لجان التصويت. من المبكر الآن الحديث عمن حصد النسبة الأكبر من الأصوات، علما بأن الأهم هو حماس الجماهير وإقبالها الواعى على التصويت. وهو ما قلته فى مقام آخر، حيث ليس يهم كثيرا الآن من الذى فاز من بين الأحزاب المتنافسة. لأن الفوز الحقيقى للتجربة الديمقراطية فى المرحلة الراهنة يتحقق بأمرين هما إقبال الناس على التصويت. ثم إجراء الانتخابات بحرية ونزاهة.
كنت قد تركت بيتى فى السابعة والنصف صباحا، بأمل أن أصل إلى مقر اللجنة قبل أن تبدأ عملها، لكننى كنت واهمًا، ذلك أننى لمحت طابور الواقفين أمام المقر من على بعد كيلو مترين تقريبا. كان ذلك فى الساعة الثامنة إلا ربعا. أدهشنى المنظر ولم أصدق عينى، تقدمت أكثر فوجدت ثلاثة طوابير اصطفت جنبا إلى جنب، واحد للرجال، وآخر للنساء، وثالث لكبار السن من الجنسين. استغربت أن يكون الواقفون فى الطوابير أكثر ممن رأيتهم صبيحة يوم الاستفتاء على تعديلات الدستور. ولم أجد تفسيرا لذلك لأول وهلة. حتى استحضرت ما سبق أن قرأته فى بعض الصحف المصرية، وروجت له بعض القنوات التليفزيونية، من أن السلفيين قرروا أن يتوجهوا بعد صلاة الفجر إلى مقار اللجان لإثبات حضورهم واستعراض عضلاتهم. كما سمعت إحدى المذيعات تتحدث عمن أخبرها بأنهم سيبيتون أمام مقار اللجان وسيصلون الفجر على الأرصفة المواجهة لها. ورغم أن المنطقة التى أسكن فيها لا يرى فيها أثر للسلفيين، إلا بين خطباء بعض المساجد، إلا أننى وصلت إلى أول الطابور لكى أتأكد من صحة ما قرأته وسمعته. تفرست فى الوجوه فلم أجد بينها أحدا يدل مظهره على أنه من «الجماعة». بعد نصف ساعة أصبحت الطوابير بلا نهاية، وجدت أناسا أحضروا معهم مقاعد مطوية واستخدموها فى الجلوس تحت الشمس الدافئة. آخرون واصلوا قراءة الصحف، وحين تعبوا من الوقوف فإنهم افترشوها وأسندوا ظهورهم إلى سور المدرسة. ولاحظت أن البعض تحلق حول جالس أمام طاولة وأمامه جهاز كمبيوتر صغير (لاب توب)، واكتشفت أنه من شباب حزب العدالة والتنمية الذين توزعوا على أبواب المقار الانتخابية لإرشاد الحائرين إلى اللجان التى ينبغى أن يصوتوا أمامها.
كان واضحا أن جهدا خاصا بذل لتأمين العملية الانتخابية. إذ شاهدت ثلاث مجموعات من الجنود تتحرك فى المكان. أغلبهم ارتدوا خوذات وحملوا معهم دروعا واقية. كانت هناك شرطة وزارة الداخلية، والشرطة العسكرية بأغطية رءوسها الحمراء، ومجموعة أخرى من الجنود تميزوا بأن كل واحد طوق ذراعه بلافتة صغيرة من القماش بينت أنه «فرد تأمين الانتخابات».
كما أننى لم أجد أثرا للسلفيين الذين خوفونا من استيلائهم على اللجان، فإن شبح البلطجية والفوضوية لم يظهر فى المكان. بالتالى، فإنه باستثناء الحضور الكثيف للقوات المسلحة والشرطة، فإن المشهد الانتخابى بدا نموذجيا منذ الصباح الباكر. ولا أعرف إن كان ذلك مقصورا على حى مصر الجديدة أم لا، لكننى أتحدث عما رأيته بعينى، وأرجو أن يكون قد تكرر فى بقية الدوائر الانتخابية. علما بأننى لا أجد مبررا لتخصيص مصر الجديدة بمثل هذه الاحتياطات، التى ربما كانت مبررة فى وجود الرئيس السابق الذى كان من سكان الحى، ولكن هذا المبرر سقط الآن، بدليل انتشار القمامة والكلاب والقطط الضالة فى المنطقة!
ظللت أبحث طول الوقت الذى أمضيته فى الطابور عن تفسير لذلك الحضور الكثيف للناس، الذين كانوا خليطا مدهشا من الرجال والنساء والشبان والفتيات والأثرياء والفقراء. حتى بدا لى كأن كل أهل الحى أصروا على أن يشتركوا فى التصويت. حدث ذلك فى حين أن بعض وسائل الإعلام تحدثت عن احتمالات الفوضى التى تهدد الانتخابات، وعن ملل الكثيرين وقرفهم من الانفلات الأمنى والاعتصامات والمليونيات، وعن حال الكثيرين الذى وقف وحنين بعضهم إلى الزمن الذى مضى، واتجاه البعض إلى مقاطعة العملية الانتخابية.
كان مفهوما الحماس الذى دب فى النفوس فى الأشهر الأولى للثورة، ودفعهم إلى الإقبال على المشاركة فى الاستفتاء، بقدر ما كان مستغربا ان يتزايد ذلك الحماس أو على الأقل لا تتراجع مؤشراته بعد مضى تسعة أشهر، رغم أنها لم تكن مبهجة على النحو الذى تأمله الكثيرون.
فى تفسير هذه الملاحظة سألت: هل كان الدافع إلى ذلك هو الشوق إلى الديمقراطية التى ظللنا طوال أكثر من نصف قرن نسمع بها ولا نرى لها فى حياتنا أثرا؟ هل يمكن أن نقول إن جرعة الحيوية التى دبت فى أوصال المجتمع المصرى لاتزال تتدفق بذات القدر من القوة، على العكس مما توحيه لنا وسائل الإعلام التى دأبت على إشاعة اليأس والاحباط بيننا؟ وهل يمكن أن نرجع ذلك الحماس إلى شعور الناس بأن الثورة فى خطر، وأنهم أدركوا أن عليهم أن يهبوا للدفاع عنها وإنقاذها؟ ــ لا أستطيع أن أصدر حكما فى ظل خبرة يوم واحد فى حى واحد بالقاهرة. لكننى مع ذلك لا أتردد فى القول بأننا حتى فى حدودنا الضيقة نجحنا. زفوا الخبر لشهدائنا.
ساحة النقاش