التقيت فى أحد المؤتمرات عالما مصريا يقيم فى فرنسا منذ 55 عاما حتى أصبح يحتل موقعا بارزا فى الأوساط العلمية الفرنسية والأوروبية، وتتابع المحافل العلمية العالمية أبحاثه، لكن أحدا لم يعد يذكره فى مصر. ومما قاله إنه لا يريد أن يرحل عن الدنيا دون أن يخدم بلده الذى نشأ فيه وعلَّمه، خصوصا بعد الثورة التى أعادت الوطن إلى أهله لكنه لا يعرف كيف ولا من يخاطب كما أنه لا يعرف ما إذا كان مرحبا به أم لا. وقد أبدى استغرابه من أن آلاف الخبراء المصريين أصبحوا موجودين فى كل مكان، خصوصا فى الدول الصناعية المتقدمة. وفى مواقعهم تلك وفى تخصصاتهم المختلفة التى نبغوا فيها، فإنهم حصلوا خبرات هائلة، ووقفوا على أحدث التطورات فى مختلف العلوم والفنون، لكن أحدا فى مصر لم يفكر فى الاستفادة منهم، رغم أنهم لا يبحثون عن جاه ولا يطمعون فى مال وليسوا بحاجة إلى شهرة، فقط يريدون أن يردوا إلى بلدهم بعض دينه فى أعناقهم. ويحلمون فى الوقت ذاته فى أن ينقلوا إليه بعضا من خبراتهم التى حصلوها، بما يعيد إلى مصر مكانتها التى ضمرت وتراجعت فى ظل عهود الانكفاء والاستبداد. 
حدثنى آخرون عن عبقرية اقتصادية مصرية، ممثلة فى خبير له صيته الكبير فى عالم المصارف، ويرأس مجلس إدارة أحد البنوك العالمية التى لها فروعها فى جهات الكرة الأرضية الأربع. وقد تواترت فى حقه شهادات الموهبة والكفاءة التى تجعل المرء يضرب كفا على كف ويتساءل: لماذا لا يكون لمثل هذا الرجل رأى فى كيفية إنقاذ أوضاعنا الاقتصادية؟ ليس وحده بطبيعة الحال لأنه ما إن يفتح الموضوع فى حضور أهل العلم والخبرة حتى يستدعى الجالسون قائمة طويلة من النوابغ المصريين الذين يقدمون خبراتهم فى مختلف المجالات ولمختلف البلدان، فى حين أن البلد الوحيد الذى لم يستفد بهم هو وطنهم مصر.
 
أدرى أن عددا لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة من نوابغ العلماء المصريين عادوا إلى البلد أخيرا، منهم من استقر به ومنهم من قدم خبراته لباحثيه ثم عاد إلى مهجره، ومنهم من جاءنا طامحا فى دور سياسى، أو سائحا يستمتع بالنجومية فيها، إلا أن القدر الثابت أن التعامل مع أولئك العلماء لم يكن خاضعا إلى رؤية واضحة أو منظمة، وأنه ترك للمصادفات ولعوامل الجذب والطرد، موضوعية كانت أم شخصية.
من حق أى أحد أن يتساءل: هل لابد أن يكون العالم مهاجرا وحاصلا على جنسية أوروبية أو أمريكية ويجيد الرطانة الأجنبية حتى يهتم البلد بالإفادة منه ويحاول استدعاءه إليه؟ وألا يوجد على أرض مصر ذاتها علماء آخرون لم يعتن أحد بمخاطبتهم أو الإفادة منهم؟ أمثال هذه الأسئلة مشروعة لا ريب، وتكشف عن أن للمسألة عمقا أبعد يتجاوز فكرة الإفادة من العلماء المغتربين، أعنى أنها تنبهنا إلى مجمل موقفنا من أهل العلم ودورهم، وهل نحن نعتبرهم قيمة حقيقية فى حياتنا ينبغى استثمارها والاعتزاز بها والحفاظ عليها، أم أننا مازلنا أكثر انجذابا إلى أهل الفهلوة والثقة والنجوم الذين يطلون علينا عبر شاشات التليفزيون.
 
أذكر أن السلطة فى مصر أقامت احتفالا كبيرا تكريما لأحد العلماء المصريين المهاجرين إثر حصوله على جائزة نوبل تقديرا لاكتشافاته العلمية. وهو ما أسعد كثيرين وأشعرهم بالاعتزاز، لكنه أثار بعضا من الأسئلة التى سبقت الإشارة إليها فى أوساط العلماء المصريين، فتوجه أحدهم أثناء الاحتفال إلى الرئيس السابق الذى كان فى مقدمة الحاضرين وهمس فى أذنه قائلا إنه أحد الذين يشعرون بالفرح لأن عالما من أصول مصرية نال ذلك التقدير العالمى، ولكن الحقيقة أنه منح التقدير لأبحاثه التى أجراها فى الولايات المتحدة والتى كان للبيئة العلمية التى توافرت له هناك دورها الذى أوصله إلى ما وصل إليه، وذلك إلى جانب قدراته الشخصية بطبيعة الحال. أضاف العالم المصرى ــ وكان وزير سابقا ــ أن فى البلد علماء آخرين من ذوى الكفاءة العالية، الذين قضوا حياتهم فى معاملهم وحققوا إنجازات علمية ممتازة، لكن أحدا لم يهتم بهم ولم تفكر الدولة فى تكريمهم، كأنها تعاقبهم لأنهم عاشوا فى مصر ولم يهاجروا منها. حينذاك استمع إليه الرئيس السابق، ثم هز رأسه وقال إن الأمر يستحق فعلا، لكنه مشغول بأمور أخرى لذلك فإنه سيؤجل النظر فى الموضوع إلى وقت لاحق.. ولم يحن ذلك الوقت بعد.
فى ظل هذه الخلفية، ربما سأل سائل: إذا كانت مصر غير مهتمة بعلمائها الذين يعيشون على أرضها، فلماذا نتوقع من مسئوليها أن «يتعبوا أنفسهم» ويستدعوا المقيمين منهم بالخارج؟، ردى على السؤال أن إهمال علماء الداخل خطيئة كبرى، وتجاهل العلماء المقيمين بالخارج خطيئة أخرى ثم أننا حين ندعو إلى الاستفادة من خبرات الآخرين فإن ذلك لا ينبغى أن يفهم بحسبانه إهدارا لحق الأولين فى التقدير والاحترام.
 
إن ملف أهل العلم يحتاج إلى إعادة نظر شاملة، قبل أن يعانى العلماء من الإحباط والحسرة ويشعرون بالندم لأنهم نذروا حياتهم لأبحاثهم ومعاملهم ولم «يفلح» أحد منهم فى الانضمام فى وقت مبكر إلى أحد نوادى كرة القدم الكبرى. وأخشى ما أخشاه أن يلقن ذلك الدرس لأجيالهم الجديدة.

 

 

المصدر: الشروق / بقلم : فهمي هويدي
  • Currently 20/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
6 تصويتات / 286 مشاهدة

ساحة النقاش

TAHA GIBBA

TAHAGIBBA
الابتسامة هي اساس العمل في الحياة والحب هو روح الحياة والعمل الصادق شعارنا الدائم في كل ما نعمل فية حتي يتم النجاح وليعلم الجميع ان الاتحاد قوة والنجاح لا ياتي من فراغ »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

755,881

السلام عليكم ورحمة الله وبركات

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته