جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
بعدما تجدد الحديث عن الدستور فى مصر، وعادت بعض رموز المجتمع تقرِّعنا لأننا لم نستجب لدعوتهم إلى البدء بكتابة الدستور قبل إجراء الانتخابات، أصبحت الحجة الرئيسية التى يرددونها هى أن هذا ما فعلته تونس، وأفلحت فيه. وإزاء تواتر هذه المقولة حتى أصبحت «معلومة» مسلما بها. رددها أناس محترمون وصدقها آخرون كثيرون، فقد تأكد لدى أن ثمة التباسا فى الأمر يحتاج إلى إيضاح. ذلك أنها ليست صحيحة تماما وليست مغلوطة تماما. كيف؟
صحيح أن المجلس التأسيسى سيتولى من جانبه وضع الدستور التونسى الجديد. لكن هذه ليست مهمته الوحيدة وإنما هى إحدى مهامه التى يتعين النهوض بها، ذلك أن المجلس الذى تم انتخابه فى 23 أكتوبر الماضى سيتولى تشكيل الحكومة، وتعيين رئيس الدولة، وممارسة حقه فى التشريع والرقابة على الحكومة. وإلى جوار ذلك فإنه سيضع الدستور الجديد. وذلك يعنى أن المجلس سيباشر مهمات المجلس التشريعى كاملة، ويفترض أن يؤدى تلك المهام خلال عام. ولكن هناك دعوة قوية أطلقها حزب المؤتمر من أجل الجمهورية (علمانى ليبرالى) الذى يقوده الدكتور منصف المرزوقى، طالب فيها بإطالة المدة إلى ثلاث سنوات لتمكين المجلس التأسيسى من أداء مهمته فى إرساء قواعد النظام الجديد وتخليصه من شوائب النظام القديم.
الشاهد أن وضع الدستور هو أحد مهام الجمعية وليس مهمتها الوحيدة. وإجراء الانتخابات أولا كان مهما حقا لوضع الدستور لأن من شأنها تمكين الجماهير من انتخاب من يمثلها فى هذه العملية. لكنه مهم أيضا لنقل السلطة إلى ممثلى الشعب فى النظام الجديد.
هذا «السيناريو» ليس جديدا فى التجربة التونسية. لأن ذلك ما فعلوه بالضبط عقب إعلان الاستقلال عن فرنسا عام 1956. إذ قاموا بإجراء الانتخابات أولا، وشكل أعضاؤها الجمعية التأسيسية التى حملت ذلك الاسم لأن مهمتها تجاوزت حدود مسئوليات البرلمانات العادية «المتمثلة فى الرقابة والتشريع»، حيث أضيفت إليها مسئولية وضع الدستور وتأسيس الدولة الجديدة.
المقارنة بالحالة التونسية لا تخلو من مفارقة. لأن الذين اعترضوا على البدء بالانتخابات فى مصر خشوا من فوز التيار الإسلامى واحتمالات تحكمه فى مجلس الشعب وكتابة الدستور. وحين دعوا إلى احتذاء النموذج التونسى فإنهم تحدثوا فقط عن وضع الدستور الجديد، وتجاهلوا أن الأحزاب صاحبة الأغلبية هى أيضا التى ستشكل الحكومة وتعين رئيس الدولة. وهو ما يعنى أن صلاحيات مجلس الشعب الذى تخوفوا من انتخابه فى مصر أضعف بكثير من صلاحيات الجمعية التأسيسة فى تونس. وأظن أن أحدا لو طالب باقتباس النموذج التونسى بتلك الصلاحيات، لأقام أولئك المعترضون الدنيا ولم يقعدوها ولقاتلوا للحيلولة دون ذلك.
لا يقف الأمر عند قراءة القراءة الانتقائية للأخبار من جانب البعض، ولكن بعضنا يلجأ أيضا إلى تلوين الأخبار القادمة من تونس حسب مزاجهم السياسى. ذلك أنه بعد ظهور نتائج الانتخابات وفوز حزب النهضة بأكبر نسبة من الأصوات (أكثر من 40٪) تناقلت وكالات الأنباء تصريحا لأحد القياديين فى النهضة ــ نورالدين البحيرى ــ قال فيه ما نصه: نحن مع إعادة بناء مؤسسات دستورية قائمة على احترام القانون واحترام استقلالية القضاء.. واحترام حقوق المرأة بل وتدعيمها.. على قاعدة المساواة بين المواطنين، بصرف النظر عن المعتقد والجنس والجهة التى ينتمون إليها. هذا الكلام نشرته صحيفة المصرى اليوم (فى 26/10) تحت العنوان التالى: إسلاميو تونس يتعهدون بمجتمع تعددى علمانى. واستخدمه الدكتور أسامة الغزالى حرب فى مقالة نشرتها الأهرام «عدد 25/10»، مشيرا إلى أن أول ما أعلنه الحزب «النهضة» عقب فوزه كان «العمل على إقامة مجتمع تعددى وعلمانى يحترم حقوق الإنسان». لم يشر قيادى حزب النهضة إلى كلمة العلمانية، ولكن بعض الأعين قرأتها فيما بين السطور، وقولت الرجل ما لم يقله.
أمس الأول «الثلاثاء 1/11» نشرت الصحف حوارا أجرته وكالة الأنباء الألمانية مع الشيخ راشد الغنوشى رئيس حزب النهضة، سئل فيه عما إذا كانت النهضة تتجه إلى استمرار النظام الليبرالى العلمانى فى تونس فرد قائلا: «الدولة التونسية ليست دولة علمانية. بل هى دولة عربية إسلامية وفق ما هو مدرج فى الدستور السابق، وسيدرج ذلك فى الدستور الجديد أيضا».
إن بعضنا يقرأ الأخبار كما يتمناها وليس كما هى. وذلك لا يشوه الحقيقة والإدراك العام فحسب، ولكنه يهدر قواعد المهنة، بما يعنى أننا لا نضحك على الناس فقط لكننا نضحك على أنفسنا أيضا.
المصدر: الشروق / بقلم : فهمي هويدي
ساحة النقاش