الحماسة الليبية لاستقدام العمالة المصرية لإعادة إعمار البلد الذى أصر العقيد القذافى على تدميره بعد رحيله تستحق الحفاوة بقدر ما تبعث على القلق. أسباب الحفاوة مفهومة. أما مصادر القلق فهى التى تحتاج إلى شرح ومصارحة. ذلك أننا ينبغى أن نعترف بأن سمعة العمالة المصرية تراجعت كثيرا فى الخارج خلال السنوات الأخيرة. وليس أدل على ذلك من أن هدف العمالة التى كانت منتشرة فى مختلف المجالات بمنطقة الخليج، خرجت من مجال الإعمار وأصبحت تتركز فى دائرة الخدمات وأوساط المهنيين والموظفين. وأصبحت العمالة الآسيوية هى المسيطرة الآن على مجال المعمار. فى حين أن المصريين يلقون منافسة قوية من جانب بقية الجنسيات فى المجالات الأخرى. غنى عن البيان أن العمالة المصرية لم تستبعد من مشروعات الإعمار، ولكن الذى حدث أن العمالة الآسيوية كانت عنصرا طاردا لها، لأنها تميزت بأمرين افتقدتهما العمالة المصرية، الأول مهارات العمل والثانى أخلاقيات العمل، التى أهمها الانضباط والعناية بالواجبات بمثل العناية بالحقوق. 
للأمانة فإن العمالة المصرية ضحية الإهمال والارتجال وسوء التخطيط، لأن الجميع يشهدون بأن العامل المصرى إذا خضع للتدريب والتوجيه الحازم يتحول إلى طاقة عطاء باهرة وخبرة الشركات الأجنبية الكبيرة التى تعمل فى مصر تؤكد ذلك. على الأقل هذا ما سمعته من بعض المسئولين فى تلك الشركات. أعنى أن «الخامة» ممتازة ولكن الظروف السيئة التى ينشأ فيها العامل المصرى لا تستثمر قدراته وتفسد سلوكه المهنى. وكانت النتيجة أنه أصبح أقل إنتاجية من غيره وأكثر غيابا وانقطاعا عن العمل، كما أنه أصبح يحتل مرتبة متقدمة بين الذين لا يستقرون فى مكان، ولكن يسارعون إلى الانتقال من مكان إلى آخر. وهذه شهادة بعض أصحاب الأعمال الذين ناقشت الموضوع معهم.
 
إن أخبار استقدام ليبيا للعمال المصريين تحتل مكانا بارزا فى وسائل الإعلام المصرية، وقد صورت بعض الصحف الأعداد المطلوبة لإعمار الخراب الذى خلفه العقيد بنحو مليونى عامل. وفهمت مما نشرته الصحف أمس أن هذا الموضوع أدرج ضمن أهداف السيد مصطفى عبدالجليل رئيس المجلس الانتقالى الليبى للقاهرة. ولأن مثل هذه الأخبار تم تداولها فى وسائل الإعلام المصرية بحفاوة خلال الأسابيع الماضية، فأخشى ما أخشاه أن نتصور أن المطلوب هو «شحن» هذا العدد من العمال إلى ليبيا دون أى إعداد مسبق. وللعلم فإن شركات المقاولات فى تركيا جاهزة بإمكاناتها الكبيرة وبعمالتها المدربة الماهرة للدخول إلى السوق الليبية، خصوصا أن لها خبرة مسبقة بها. وليس الأتراك وحدهم لأننى سمعت من بعضهم فى استانبول أنهم يتحسبون لمنافسة الإيطاليين والفرنسيين الذين يتطلعون للفوز بعقود الإعمار التى تقدر بما يتراوح بين 10 و15 مليار دولار.
 
معلوماتى أن الأمر فى مصر ليس مأخوذا على محمل الجد، لأن موضوع تدريب العمال ورفع كفاءاتهم ليس محل اهتمام أصلا. كما أنه ليس هناك وعى كاف بالظروف والضغوط التى تمارس على ليبيا للاستئثار بمشروعات إعمارها، ولدى انطباع أن تفكير المسئولين فى مصر بخصوص العملية يعول كثيرا على «العَشَم» وعلى الجيرة والأخوة فضلا عن علاقات «النَّسَب» التى تربط الليبيين بالمصريين، خصوصا بين أهالى بنى غازى. وهى عوامل مهمة لا ريب، لكنها لا تكفى وحدها لاستمرار استقدام العمال المصريين إلى ليبيا، علما بأنه كانت هناك شكوى ليبية حتى فى ظل النظام السابق من أن العاطلين المصريين يستسهلون السفر إلى ليبيا عبر البر سواء ظنا منهم أن الوظائف الشاغرة تنتظرهم هناك، أو أملا فى ركوب البحر والوصول إلى الشواطئ الإيطالية أملا فى العثور على الحلم المفقود هناك.
 
كنت أتصور أن تسارع الجهات المختصة فى مصر إلى تحديد المهارات والمهن المطلوبة، من جانب الليبيين، وإلى إعلان الطوارئ فى هذا القطاع بالاندفاع نحو إقامة مراكز تدريب وورش عمل لتوفير العمالة اللازمة بالمستوى اللائق، ولكننى أخشى أن تكون المراهنة أرجح على «فهلوة» العامل المصرى وقدرته على الاستيعاب والتعلم من خلال الخطأ والصواب. وهى مغامرة غير مأمونة العاقبة، وأغلب الظن أنها ستكون عنصرا مشجعا على الاستعانة بالعمالة الآسيوية. وفى هذه الحالة فإن الليبيين سيكونون محقين ومعذورين. حيث لا ينبغى لهم أن يجاملونا بالإبقاء على العمالة المصرية إذا لم يقتنعوا بأنها على مستوى طموحاتهم. ويكفى أنهم طرقوا بابنا فى البداية وأعطوا الأولوية لتلك العمالة.
 
إن ثمة فرقا بين استقبال الفرصة واغتنامها. وما نعرفه أن هناك ترحيبا أكيدا بالفرصة، التى جاءتنا من حيث لا نحتسب. لكننى أشك كثيرا فى توافر القدرة على اغتنامها، لأن ذلك يتطلب جهدا وعرقا ومسئولية. وغير ذلك من الصفات التى صرنا نفتقدها فى البيروقراطية المصرية.

 

 

المصدر: الشروق / بقلم : فهمي هويدي
  • Currently 20/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
6 تصويتات / 329 مشاهدة

ساحة النقاش

TAHA GIBBA

TAHAGIBBA
الابتسامة هي اساس العمل في الحياة والحب هو روح الحياة والعمل الصادق شعارنا الدائم في كل ما نعمل فية حتي يتم النجاح وليعلم الجميع ان الاتحاد قوة والنجاح لا ياتي من فراغ »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

761,427

السلام عليكم ورحمة الله وبركات

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته