غلطة الشاطر.
شممت رائحة غير مريحة فى كلام رئيس الأركان الفريق سامى عنان الذى أعلن فيه أن «مدنية الدولة أمن قومى لا مساومة عليه»، وهو الإعلان الذى تحول إلى عنوان رئيسى للصفحات الأولى فى صحف الخميس الماضى 18/8. ذلك أن الطريقة التى أبرز بها كلامه ذكرتنى بتصريحات رؤساء الأركان فى تركيا، الذين اعتبروا يوما ما أنهم حراس النظام العلمانى هناك، وظل كل واحد منهم حين يريد أن يحذر القوى السياسية، وقبل أن يقوم بانقلابه أن علمانية الدولة مسألة أمن قومى ولا مساوة عليها.وهى المرحلة التى عانت منها تركيا كثيرا و تجاوزتها أخيرا، حتى اتجهت الحكومة فى الوقت الراهن إلى استصدار تشريع يمنع القوات المسلحة من إصدار بيانات سياسية.
أرجح ألا يكون الرجل قد قصد المعنى الذى اشير إليه، ومن ثم نظلمه إذا حملنا كلامه بأكثر مما يحتمل، لكننى بصراحة لم أفهم لماذا أقحم الفريق عنان نفسه فى الموضوع أصلا، خصوصا أن عنوان الدولة المدنية ملتبس وحمال أوجه. ناهيك عن أنه لا أصل له فى علوم السياسة أو الاجتماع.
وإنما هو «اختراع مصرى» كما وصفه الدكتور عمر الشوبكى فى أحد الحوارات، وإن لم يقل إنه حيلة لجأ إليها بعض المثقفين للتمويه والتستر على فكرة الدولة العلمانية سيئة السمعة فى المجتمع المصرى. وفى حدود علمى فإن واحدا فقط منهم هو الذى جهر برأيه الصريح فى الموضوع، وقال فى مقالة نشرتها له الأهرام أن المراد هو دولة علمانية وليست مدنية.
المتخصصون فى علوم السياسة والاجتماع يتحدثون عن مجتمع مدنى وليس دولة مدنية. وثمة كتابات عدة صدرت حول الموضوع عن مؤسسة الأهرام وكذلك الشبكة العربية للمنظمات الأهلية. التى كان من بين مطبوعاتها التى عرفت المصطلح بدقة «الموسوعة العربية للمجتمع المدنى». وكنت قبل نحو عشرين عاما قد نشرت فى الأهرام مقالة تحت عنوان «دفاع عن المجتمع المدنى». وضمنتها فى وقت لاحق كتابا لى صدر بعنوان: للإسلام والديمقراطية.
ما أريد أن أقوله إن مصطلح الدولة المدنية الذى اعتبره الفريق عنان قضية أمن قومى. ليس سوى ملعوب أطلقه أولئك النفر من المثقفين ووظفوا له تعبيرا غامضا له جاذبيته ويتعذر الاعتراض عليه. ولا أظن أن رئيس الأركان أراد أن يكون شريكا فى اللعبة، وأن يصطف إلى جانب ذلك الفريق المهجوس بمخاطر ما هو دينى، فأراد أن يشهر فى وجهه «فيتو» المدنى، فى تلاعب بالألفاظ فيه من المكر بأكثر مما فيه من الرصانة والأكاديمية.
قال أحد الأصدقاء ممن يحسنون الظن بالفريق عنان إنه حين تحدث عن الدولة المدنية فإنه كان يقصد نقل السلطة من حكم العسكر إلى الحكم المدنى. وهو تأويل ليس عندى ما يؤيده. وإن كنت قد سمعت به ذات مرة من الشيخ محمد الغزالى رحمه الله. ذلك حين سمع بمصطلح المجتمع المدنى الذى بدأت وسائل الإعلام الحديث عنه فى الثمانينيات فسألنى عن معناه.
وما إذا كان المقصود به المدنى فى مواجهة العسكرى. أم المدنى نسبة إلى المدينة المنورة التى نزلت فيها بعض سور القرآن فصارت مدنية، فى مقابل سور أخرى مكية (من مكة). أم أنه استخدام للمصطلح القانونى الذى يميز بين ما هو مدنى وجنائى فى القضائيا.
وقتذاك قلت له إن المصطلح فى مبتدئه أريد به الإشارة إلى دور أهل المدن فى المجتمع (البورجوازية) فى مواجهة السلطان المطلق للملوك والأمراء. الذى كان مخيما على أوروبا فى القرن السابع عشر. وهى الأجواء التى دفعت الفيلسوف الإنجليزى جون لوك إلى إصدار كتابه «الحكومة المدنية» فى عام 1690م.
طوال العشرين سنة الأخيرة على الأقل لم يستخدم المدنى لتحدى ما هو دينى أو معارضته، وفى مقالى بالأهرام الذى سبقت الإشارة إليه.فإننى دافعت عن المجتمع المدنى وقلت إنه ليس مقطوع الصلة بالدينى. حيث مجال حركته ينصب على ما هو اجتماعى وسياسى، ولا شأن له بالحالة العقيدية. واعتبرت المؤسسات الأهلية التقليدية التى عرفتها الخبرة الإسلامية ضمن مؤسسات المجتمع المدنى، وفى المقدمة منها الأوقاف ومؤسسات الزكاة والحسبة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وجمعيات الحرفيين والصناع وغيرها.
لو أن الفريق عنان تحدث عن ديمقراطية الدولة لكان أكثر موضوعية واقناعا، خصوصا أن الديمقراطية هى البيئة الطبيعية الحاضنة للمجتمع المدنى وبغيرها لا تقوم لذلك المجتمع قائمة. فى حين أنه عندما ردد مقولة بعض المثقفين عن الدولة المدنية فإنه دخل فى دائرة الشبهات، وظلم نفسه حين وجدناه فجأة وبغير مبرر مصطفا إلى جانب الذين يتلاعبون بالألفاظ ويحاولون مصادرة ما هو دينى ومعارضته بقناع الدولة المدنية ــ لكنها غلطة الشاطر التى نرجو ألا تتكرر.
ساحة النقاش