فعلاً لم أفهم..!

: 0

طه إبراهيم كوزي

منذ اشتعال فتيل الثورات في العالم العربي ابتداء من المارد بن علي، إلى العابث مبارك، وانتهاء بالأزمة الليبية فالسورية وقبلهما البحرينية فاليمنية؛ أضحى من العسير بناء خريطة إدراكية ونموذج مفسّر لما يحتدم من أحداث، وبات من الصعب استشراف ما يستقبلنا من تحولات، في ظل هذا التسارع من تقلبات وتموّجات..

ماذا علمتنا الثورات؟

لقد علّمتنا الثورات، اليوم، دروسا منهجية وأخرى أخلاقية، فقد لقّنتنا كيف ينبغي علينا أن نتواضع في تحليل أية ظاهرة إنسانية لما تتسم به من تداخل وتعارض وتشابك، لنخرج بعد التحليل والتركيب والتفكير: بفهم يتميز بالتناغم والاتساق والتماسك.(التحليل بالنماذج: عبد الوهاب المسيري).

لقد علّمتنا الثورات أنّ التسرع في التحليل خلط، والاستعجال في الأحكام الجاهزة خطأ وزلل، فالعقل لا يتسنى له أن يصوغ رؤية متكاملة للواقع، حولَه، إلا بعد استيفاء المعطيات، وإدراك الأسباب والمنطلقات، وفهم الغايات، وتحديد موقعه ومسؤوليته تجاه التحولات والتغيّرات. (مبدأ الفعالية: مالك بن نبي).

لقد علّمتنا الثورات أن المتدثر بالعباءة والعمامة، بيضاء كانت أم سوداء، ليس بالضرورة عالِما؛ إذا كان بيدقا بيَد ذاك الحاكم الجائر، أو “زهرة نرد” بيد القرش والدرهم والدينار، لقد علّمتنا الثورة أن العالِم هو ذاك الشاهد (Témoin) (نموذج دار الشهادة: طارق رمضان)؛ فهو من جهة لا ينخدع بشعارات الثائر؛ فيحفظ موقعه ناصحا للثوار؛ موجها ومربيا، ومن جهة أخرى، ليس هو ذاك الذي لا يغادر البلاط والقلاع والأسوار، يبرر للحاكم الظلم والاستبداد والاستكبار، ينافق ويغالط ويماري ويُساير.

لقد أنبأتنا الثورة أنها تأبى أن تدوّن في سجلاتها ذلك العالم الغائب الباهت الحائر؛ فالعالم، أوان الثورات، هو ذاك العقل المعيار، يعرف لنفسه قدرها؛ فيعلّمها الصدق والصبر والاستمرار، ينصب للشعوب نقطة الرجوع والمرجع والاستقرار، ينقد الحاكم وينصح الثوار.

تسابقت الأعين لمشاهدة الشعب وهو يثور، واشرأبت الأعناق لرؤية ذاك المارد وهو يسقط ويخور، فاستبشر الناس خيرا بسقوط هذا، وتضعضع ذاك، وتمايُل أولئك، فاستمطرت الأمة غيثا من الديموقراطية والحرية والكرامة والانتصار.
استعادت الأهازيج الشعبية فُحولتها بعد طول عقم، واسترجعت الأناشيد الوطنية، في ظل الثورة، رهبتها وهيبتها.

تناقضت المشاعر، وتعارضت العواطف بين الفرح لسقوط نظام، واستفهام عن المصير والمآل؛ فتحرك العقل ينسج أسئلة تترا، وينزف استفهامات تتوالى:

  1. هل، فعلا، تحقق المراد بسقوط هذا أو ذاك، أم أن الاستبداد والاستكبار أبعد أن يُنال بأيسر حال؟
  2. لماذا حدث كل هذا بتلك السرعة واليُسر (نسبيّا)، أهي السّنن الإلهية التي تلفظ المتجبّر مهما طال الزّمان وتبدّل المكان؟ أم أن وراء ما يحدث كيد وكائد؟
  3. هل وراء ما حدث ويحدث في عالم اليوم متآمر أمريكي وغربي؟ أم أن نظرية المآمرة لم تعُد ذات نفع في التحليل والإدراك والفهم؟
  4. هل هذه الثورات تحوُّل في نموذج “الحكم” واللّب والمخبر؟ أم مساحيق للوجه وللزّينة والمظهر؟
  5. هل الثائر بالضرورة محق؟  والمثور عليه مذنب؟ أم  أن دنيا 2011 وهبت الثائر محاسن غيره(من رموز النضال)، وسلبت المثور عليه بعض محاسن نفسه…

فعلا إنها عين الأزمة المعرفية، وإرهاصات الفراغ الكوني، وبوادر ثورة في القابليات: الذهنية والاستراتيجية (القابلية الذهنية، أحمد داود أوغلو)…

ثلة من الأولين، وقليل من الآخرين…

إن نحن تفحصنا موقف المواطن العربي إزاء ما يحدث من ثورات، وموقع المشاهد لوسائل الإعلام تارة والإذعان تارة أخرى مما يتراكم من تطورات، سنجد أن المشاهدين والمتتبعين صنفان:

ثلة من الأولين: الواحد منهم يلهث وراء المعلومة والمعطى، يجري وراء اللفظ والمبنى، فتغيب عنه شمولية المعنى، جاثم أمام الإعلام، غارق في تفاصيل الأيام: لا يلتفت إلى ما يُراكم وراءه من معلومات وتفاصيل، لا يفحص ما يستهلك من تصريحات وأقوال وحوادث ووقائع، كلّ بغيته أن لا تفوته “المعلومة”، ولا يهمه في ذلك: أسقيمة أم سليمة؟ أسئلته غالبا ما تكون:

  • ماذا حدث اليوم؟
  • هل سقط أم لم يسقط؟ …
  • هل تقدم الثوار أم تزحزحوا؟ أفشلوا أم نجحوا؟
  • أعجبني تصريح فلان، وغاب عن المشهد علان….؟

وقليل من الآخرين: ممّن احتفظ بمسافة عن الوقائع والأحداث (نموذج الانفصال عن اللحظة، المسيري)، همّه أن يعرف لا أن يعلم، أن يستوعب النظرة الشمولية للوقائع، أن يصوغ خريطة لفهم التغيرات، أن يتموقع ويتموضع وفق التحوّلات (Shift)، لا تهمه المعلومة والمعطى مجردة ومنفردة، بل يتخذها لبنات وسُلّما ليكتشف النسق والسياق والمعنى: استفهاماته كذلك:

  1. ما علاقة هذا الحدث بذاك التفصيل؟
  2. ماذا تحمل هذه المعلومة من صدق وماذا تُضمر من تضليل؟
  3. كيف سيكون العالم بعد مرحلة الأزمة والتحولات؟
  4. ما موقفي من الأحداث؟ وما موقعنا، نحن، من هذه التموجات؟
  • الأزمة فالثورة…؟  دلالات ومعان

وفق التحليل بالأنساق أو النماذج التفسيرية تعني “الأزمة: حالة اضطراب غير متوقعة، تطرأ على النموذج القائم”، تخول لنا هذه القاعدة المعرفية أن ندرك أن العالم العربي رزح لعقود من الزمن تحت سطوة نموذج حكم يتسم بالتشابه والتماثل في الأعراض والأمراض في البلاد العربية؛ فاستحكم لعقود من الزمان، وازداد تركيبا وتشابكا، تصلبا وتماسكا.

ومما يميز نموذج الحكم في العالم العربي في الحقب السابقة الآتي: (نموذج الحكم في العالم العربي، عزمي بشارة):

  1. محورية شخص القائد على حساب وظيفة القيادة،
  2. إلغاء فعالية مؤسسات الحكم لحساب نزوات الوالي ومزاج الحاكم،
  3. محورية الأسرة الحاكمة على حساب الحزب الحاكم ولو في الجمهوريات،
  4. تفعيل نشاط المخابرات وأمن الدولة على حساب “أبسط” الحريات.
  5. ظهور طبقة من رجال الأعمال، وليدة الأسرة الحاكمة، غريبة عن الطبقات الشعبية ومتجاوزة للقوانين والأعراف.

يرى علماء نظرية المعرفة أن النموذج بعد ولادته وفي المراحل الأولى من نشأته يصادف في طريقة جملة من العقبات، والمطبّات التي ينبغي عليه تجاوزها، وإلا الوقوف عندها والسقوط أمامها؛ لتكون هذه الحواجز بعد التجاوز سببا للنمو، وعاملا في ازدهار النموذج والبدوّ؛ إلا أن النموذج مُقبل لا محالة على مرحلة المخاض، حيث لا يقوى على الصمود والإجابة على عديد الإشكالات المحرجة؛ فيترك أصحابه في حيرة قاتلة، وتوتر دائم أمام أسئلة مستعصية في طريقة الحكم، ومناهج الإدارة؛ فلا تحوّل من نموذج إلى آخر إلا عبر مرحلة ممحّصة ومُزلزلة إنها مرحلة “الأزمة”؛ فيَحفَظ ما يُحفظ، ويُلفظ منه ما يُلفظ؛ ليعقبه نموذج آخر جديد؛ لذا فنجاح الثورات في العالم العربي ليس مقترنا ألبتة بسقوط ذاك الحاكم وأتباعه، أو ذاك النظام وأزلامه؛ بل الأمر أعمق بكثير: إنه منوط بالتحول في نموذج الحكم القائم. واهم إذن من اعتبر مجرد وقوع الثورة دليل نجاة، وعلامة خلاص؛ إذ أن تبدل الأشخاص والرموز والأفراد لا يعني، بالضرورة، تغيّر النموذج الحاكم، ولا نجاة المحكوم.

  • كلمة لا بد منها؟

نظرية المآمرة لا يمكنها أن تفسّر، بمفردها، ما يمور من أحداث وما يموج من تقلّبات، فنظريّة المآمرة تفترض أن هناك متآمِرا، مطلقَ الذكاء، يسوس مصالحه عبر غيره كيف شاء، كما تفترض أنه تمة متآمَرا عليه وظيفيا (نموذج الجماعة الوظيفية، المسيري)، ساذجا لا يميز الخبيث من الطيب، خائنا يمكن تداوله في سوق العملات بالأورو أو الدينار، ملغيا لهامش الإرادة الإنسانية لدى المتآمر عليه في الفهم والإدراك فالتغيير.

الـمُصرّ على تفسير الأحداث حوله، وَفق هذا النموذج، لا يمكن إلا أن يكون إنسانا منهزما نفسيا وحضاريا، متحيزا للمستعمِرين،  صالحا أن يكون أبد الدهر في صفوف المستعمَرين، نظرية المآمرة على أهميتها لا تكفي لتفسير الثورات اليوم، بالرغم من أنها ناجعة لفهم انحراف مسار الثورات في بعض دول الممانعة مع المحور الأمريكي الإسرائيلي.

إننا نعيش، اليوم، مرحلة مخاض عسير؛ إذ لا نملك الوسائل المعرفية والقدرات الذهنية لصياغة معالم المرحلة المقبلة، فوضعُنا شبيه بذاك السائق في ظلمة ليل بهيم، وحُلكة ضباب كثيف، لا يبقى للقائد أوانها إلا الانقياد بعلامات بيضاء مرسومة وسط الطريق تمنعه الحياد عن جادة الصواب، في تلك اللحظة لا يمكنك أن تسأل السائق متى نبلغ القصد، ومتى ننشد الوصول، لأنه فعلا لا يستطيع الرد ولا يملك الحلول… وسط التموجات وأوان الأزمات لا يمكن إلا أن نلوذ بالمبادئ والثوابت، وأن نوقف نزيف الخطب والتّحليلات…

  • فعلا لم أفهم:

بالعودة إلى الثورات من تونس إلى مصر وليبيا، فاليمن والبحرين وسورية ندرك أننا في حاجة إلى نموذج معرفي أصيل غير مستورد لفهم بيئتنا وأمتنا، متحيز لرؤيتنا الكونية ونماذجنا المعرفية (فقه التحيز، المسيري)، غير متلوّن بنماذج ورؤى الغرب، غير متأثر بانتكاسات زمانه وضيق محلياته.

تمام الرّشد (نموذج الرشد، باباعمي) في الأمم أن تبلغ ذاتيتها في أسباب الوجود، وأن يحمل أيُّ فعل مهما صغر أم كبر أسباب وجوده في ذاته، ليدوم فيعمّ، تجسيدا لمبدأ اتباع الأسباب، وتأكيدا لمبدأ “العطالة” في حركة الأجسام.

إننا نجد أن الثورات، اليوم، نابعة في جزء كبير منها من ذاتها، لما عاشه أهل تلك الأوطان من خضوع وخنوع وهوان، فإرادة الحرية والعيش الكريم لم تكن طفرة أو شهوة بل كانت نتاج ضراوة ومرارة، إلا أننا في ما نقرأه في أيامنا هذه، أن الإنسان الذي يحمل أمل ما بعد الثورة في عدد من الأقطار، يُعوزه أسباب مواصلة السير والمحافظة على إنجازات الثورة لما بعد الثورة.

إن الذاتية في اتباع الأسباب تفترض أن الثائر يملك أسباب نصره بعد ثورته بيده، وأن رهانه على نفسه، بعد الله، هو طوق نجاته.

المآل، بعد الثورة، ليس منوطا بمحاكمة هذا أو ذاك، أو سقوط هذا وانتخاب ذاك؛ أو بالتلويح بأعلام الناتو أو الغرب، بل أن يتجاوزها إلى الإجابة عن الأسئلة المفصلية التي تصنع الإنسان فيثمر الزرع ويعلو البنيان:

  1. ما فعّالية منظومتنا التربوية في ما بعد الثورة؟ وما ملامح الجيل القادم؟
  2. أليس من الحكمة أن نعتقد أن الثورة لم تحقّق بعدُ شيئا إن بقيت الجامعة عندنا على حالها، والمدرسة على عوجها…
  3. أليس المعلم والأستاذ والبروفيسور مسؤولين عن مسار الثورة قبل السياسي والمحامي ورجل الأمن…
  4. ألم يحِن الوقت أن نثور على الرداءة في كل مكان، والفقر وجهل كل إنسان، بعد أن ثرنا على الظّلم والظالم والطغيان؟

هل من مجيب؟ هل من مغيث؟….. هل من ثائر؟

المصدر: يقظة قكر
  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 82 مشاهدة
نشرت فى 2 يونيو 2011 بواسطة RawdaParadise

ساحة النقاش

bassant

RawdaParadise
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

23,110