اتصل بى مراسل صحيفة أجنبية عقب الخطاب الكارثى للمشير طنطاوى ليطلب منى تعليقا موجزا عليه، كنت لا أزال فى حالة ذهول ممزوج بالاختناق والأسى، قلت له «تعليقى الوحيد: لا حول ولا قوة إلا بالله»، قال لى «هل يمكن أن تعطينى شيئا قابلا للترجمة»، قلت له «كل ما يمكن أن أقوله الآن أن التاريخ يُرَجِّع نفسه، من الترجيع والرجوع معا»، وأغلقت الخط.

يا الله يا ولىّ الصابرين، متى تتوب علينا من حكام لا يهتزون لدماء الشعوب، ولا يبنون قراراتهم على تقارير المخبرين غلاظ الأكباد، ولا يدركون أنهم مع كل قتيل يسقط يدقون مسمارا جديدا فى نعشهم هم، ويتفوقون على فرعون نفسه فى بطء الفهم، فحتى فرعون عندما أدركه الغرق شهد بأنه لا إله إلا الذى آمنت به بنو إسرائيل؟! للأسف، كنت أتوقع أن المشير طنطاوى الذى منحته الظروف الفرصة لكى يدخل التاريخ من أوسع أبوابه، سيستنكف أن ينهى حياته المهنية التى بدأها بطلا فى الجيش المصرى بتحمل مسؤولية سياسية عن مقتل عشرات الشباب وجرح المئات واختناق الآلاف وترويع الملايين. كنت أراهن حتى آخر لحظة ظهر فيها على إنسانيته وإيمانه بالله -عز وجل- وأحلم بأن يتحدث إلى الشعب المصرى من قلبه، معتذرا عن كل نقطة دم سالت، ويتبرأ من القتلة والسفاحين ومهينى حرمة الجثث، ويحيل المسؤولين إلى المحاكمة العسكرية فورا، ويعتذر عن كل ما تسببت فيه إدارته هو ومن معه للبلاد من ارتباك وتعثر، ويعلن الدعوة إلى انتخابات رئاسية فورية، يقرر فيها الشعب مصيره، ثم يعلن أنه سيظل هو وكل مساعديه ومعاونيه فى خدمة الشعب حتى ينال أمنه وحريته الكاملة. كان يمكن أن يفعل كل ذلك فتنزل كلماته الخارجة من القلب بردا وسلاما على القلوب المكلومة الحزينة، لكنه اختار نفس طريق مبارك، اختار أن يتحدث من منطق التعالى وهو يظن أن ذلك ما يحتاج إليه الناس الآن، لم يختر أن يتحدث إلى الناس من قلبه، بل فضل أن يقرأ لهم سطورا ركيكة مكتوبة على شاشة لا يراها الناس وهو يقف أمام خلفية كئيبة، فصب الزيت على نيران الحزن، ولم يتجاوب مع حديثه إلا الذين تجاوبوا مع خطاب مبارك ليلة موقعة الجمل، أولئك الذين فقدوا رغبتهم فى أن يعيشوا حرية كاملة وأن يشعروا بآلام الناس ومعاناتهم، أولئك الذين لو كان المشير قد وقف صامتا طيلة خطابه لقالوا بحرقة لمن يقفون معرَّضين للقتل فى ميادين التحرير «أهو مطالبكم اتحققت.. ارجعوا بقى».

عقب خطاب المشير كنت أريد أن أسأل كل مواطن شريف خائف على مصر من الذين لا يمانعون فى أن يعيشوا حالة من حالات العبودية حتى لو لم يتحقق لهم ما يتحقق للعبيد من أمن وإطعام وكسوة، بذمتك ودينك كيف تثق فى مجلس حاكم لم ينجح فى تصوير خطاب خطير كخطاب المشير أو حتى فى مونتاجه بشكل يليق برئيس وحدة محلية برغم كل ما لديهم من إمكانيات وقدرات؟! هل يمكن أن تأتمن سلطة كهذه على نفسك وعيالك؟! إياك أن تظن أن هذه ملاحظة شكلية تافهة، صدقنى الارتباك الذى بدا لنا جميعا فى شكل الخطاب وصورته، يعنى ارتباكا أشد وأخطر خلف الصورة والشكل، وهو ما ظهر فى ما بعد عندما تحدث الذين وافقوا على أن يجلسوا مع الفريق سامى عنان، دون أن ينجحوا فى وقف حمام الدماء على الأرض، وهو ما جعلهم يكشفون للناس عن أنهم كتبوا مسوَّدة خطاب غير التى أذيعت، وهو ذاته ما قاله الدكتور حسام بدراوى أيام مبارك، بل إن هذا الخطاب أيضا فى اعتقادى أضيفت إليه لمسة من لمسات الفتنة التى كان يبدع فيها مبارك، ولا عجب فمستشارو مبارك ما زالوا محيطين بالمشير من كل حدب وصوب، أعنى لمسة الاستفتاء الشيطانى التى كانت ستكون صالحة للاستخدام لو لم يكن هناك ثورة سقط فيها عشرات القتلى وآلاف الجرحى، وخرج لها مئات الآلاف فى الشوارع. بالمناسبة أتمنى أن يتصل المشير بأىٍّ من أساتذة التاريخ ليسأله: كيف حاول مستشارو الملكية أيام الثورة الفرنسية أن ينقذوا الملك باقتراح استفتاء لإبقائه فى الحكم، وأدت تلك الخطوة إلى إشعال نيران الثورة من جديد وقادته إلى مصير مظلم، بل وقادت فرنسا كلها إلى نفق من التقاتل والدموية والإرهاب؟ والعياذ بالله.

للأسف كنت أتمنى أن يكون خطاب المشير توافقيا وتصالحيا، لكنه اختار أن يكون خطابا يحمل رغبة فى الاستقواء بعدد الخائفين الذين سيقولون له نعم أيّا كان ما يطلبه، والنظرة الخاطئة إلى قلة عدد المستعدين للتضحية من أجل أن تعيش مصر حرية كاملة، وعدد الذين لا يبالون بفقد أعينهم من أجل أن لا ترى العدالة طشاشا كعادتها. أعلم أن المشير الآن محاط بمن يصورون له أن كل من يعارضونه خَوَنة ومتآمرون ومدفوعون من الخارج، تماما كما كانوا يقولون ذلك لمبارك، وأعلم أنهم يحرضونه على اعتقال قائمة من الكتّاب والإعلاميين والسياسيين والناشطين، تماما كما كانوا يزيّنون ذلك لمبارك، ولا أظن أن هناك ردا أقوى على كل ما يقولونه إلا أن أذكره بالله -عز وجل- وبأنه لم يعد فى عمره الكثير لكى يتجبّر ويطغى، وأن عليه أن يتواضع أمام سنة الله فى الكون، التغيير.

سمِّنى عبيطا أو حالما، لكننى ما زلتُ أتمنى -مخلصا- أن يعتذر المشير رسميا وفى حديث من القلب عن كل ما حدث من تجاوزات من رجاله طيلة الأشهر العشرة، ويقدم المتورطين فيها إلى المحاكمة فيخسر رجالا وينقذ نفسه، والأهم من ذلك ينقذ مصر، ما زلتُ أتمنى أن يفتح المشير باب الترشح لانتخابات رئاسية فى أسرع وقت، يأتى فيها رئيس لفترة رئاسية وحيدة، يشرف على الانتخابات البرلمانية ووضع الدستور، ولا يكون من حقه الترشح بعد ذلك مطلقا، لنضمن أنه لن يضع الدستور فى خدمته، ونبدأ فى اللحاق برَكْب التقدم الذى كان يمكن أن ندخله منذ عشرة أشهر لولا الغباء والعناد.

يا خفىَّ الألطاف نجِّنا مما نخاف.

المصدر: مقال : بلال فضل فى صحيفة التحرير بتاريخ 24 / 11 / 2011
Ramzy-online

محمد رمزى

  • Currently 5/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
1 تصويتات / 394 مشاهدة
نشرت فى 24 نوفمبر 2011 بواسطة Ramzy-online

ساحة النقاش

محمد رمزى

Ramzy-online
مصرى يملك وطنى فؤادى و أكاد أملكه »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

206,191

مصر



يا حبنا الكبير