اعتقد أن كل كاتب مقال في الشأن العام يطلع على كل تعليق باهتمام حتى تلك التعليقات التي تسب وتشتم لمجرد الاختلاف.. لكن ما يحيرني حقا هو هؤلاء القراء الذين لا يقرأون! كتبت ذات يوم مقالا في جريدة القدس العربي عن تآمرالسعودية ضد الشعوب العربية الأخرى..وعن دور النفط قلت نصاً وبالحرف" ذلك النفط الذي رفعت سعره دماء المصريين والسوريين في حرب أكتوبر".. أحد التعليقات كانت من معلق سوري كتب بغضب: "هكذا انتم ايها المصريون تنسبون كل شيء لانفسكم وكأن حرب تشرين صنعتوها وحدكم ألم نشارك نحن السوريون في تلك الحرب؟.."!
** وفي المقال الماضي حين كتبت عن (تخلف)قرية دافعت عن معلم يضرب أطفالها بوحشية.. كانت معظم تعليقات القراء غاضبة تتهم العبده لله بأنها تمارس (الاستعلاء) على الشعب! اعتقد أن الفرق فعلا كبير بين (الاستعلاء) و(الرصد).. الاستعلاء أن تتعالى على الناس ثم تنعزل عنهم متأففا! وحاشا لله أن أكون هذا الشخص! هل من قبيل الاستعلاء أن (يرصد) احدهم عيوب مجتمعه ثم يجتهد حالما بنهضته؟ لنرصد واقعنا ونعترف بسلبياته الفاجعة؟ وإلا.. أي (تغيير) قصدت إذن تلك الثورة!
واستجابة لطلب أحد القراء الذي قال بعبارات شبه غاضبة (لماذا لا تردين على أسئلة القراء ما هذا الاستعلاء..) قضيت بعض الوقتأقرأ بعض نتائج البحوث الاحصائية!
** في بعض التقارير تصل نسبة الأمية في مصرإلى 49%، بينما هيئة تعليم الكبار ومحو الأمية تقول بنسبة 28% وثلثاها من النساء، وتلك النسبة تمثل أكثر من 22 مليونا إذا اعتبرنا عدد سكان مصر 80 مليونا.. وهو رقم تقريبي، لكن لنسلم بالرقم الذي ذكره رئيس الهيئة لجريدة المصري اليوم وهو أن عدد الأميين في مصر بلغ 16 مليونا منهم 11.5 مليونا من النساء، والكلام كله هنا عن (أمية القراءة والكتابة) فقط..
** أمية القراءة والكتابة هي واحدة من أنواع الأمية.. صحيح أن القول بأن كون الإنسان أميا لا يعني أنه متخلف تماما هو قول فيه (بعض) الصحة- من حيث أن (إدراك)الأمي أن شيئا ما ينقصه يمثل بحد ذاته حافزا، وهذا ما نعنيه بالقول إن المصريين لديهم ذلك الاستعداد الحضاري القديم للتعلم والتفوق إن أتيحت الفرصة، ولدينا رواد نفخر بهم إذ أرسوا مفهوم الحداثة في بلدنا بدءاً من عصر محمد علي وهم القادمون من كل فج عميق في ريف وصعيد مصر، لكنأمية القراءة والكتابة الآن تشي (بالحدود المعرفية) للشخص بمعايير هذا العصر! وهي نقطة ضعف تنال من (استقلالية) المواطن! إنما هناك أنواع أخرى من الأمية لا تقل ضررا بحلم النهضة،هناك (الأمية التقنية)وهي مؤشر له علاقة بالتوجه المجتمعي من حيث كونه (يقدر) أو (يستهين) بقيمة التقنية! يظهر هذا الفارق في مقارنة مصر بدولة مثل اليابان التي تعتبر أن غير الماهر في استعمال الكمبيوتر هو أمي!
** وهناك (الأمية السياسية) وكذلك (المعرفية)، ففي أحد الاستطلاعات لم يعرف الكثير من المتعلمين- ومنهم جامعيون- من الذي أبرم معاهدة الصلح مع اسرائيل.. وبعضهم ظنه مبارك!، وقبيل الاستفتاء بأيام تبادلت الحديث مع مجموعة من الممرضات وكن مستغربات جدا من هذه الضجة حول الدستور.. قالت احداهن (لزومه ايه الدستور ده.. ما الناس تعيش وخلاص) وعبثا حاولت إقناع أخرى أن المواد التي سوف نستفتى عليها ليس من ضمنها المادة الثانية وسألتها إن كانت تعرف الأولى أو الثالثة مثلا أو حتى أطلعت على الدستور من أساسه!.. وإن قلت إن تلك تجربة شخصية ليس هناك دليل على صدقها.. إذن فتش في تجاربك الشخصية.. ألا تتفشى تلك (الأمية السياسية) بين كثير من المتعلمين حولك؟ هذا ليس لوماكاملا لهم فأحد أهم الأسباب هو ذلك التجهيل والتسطيح (المتعمد) الذي فرضته الأنظمة السابقة من خلال آلتها الإعلامية الجبارة ومنظومتها التعليمية الفاشلة.. وسبب آخر رئيسي كذلك هو اللهاث الذي فرض علينا جميعا من أجل لقمة عيشنا.. فلا وقت لدى الكثيرين لممارسة (رفاهية المعرفة) سياسية أو عامة.. حتى في أبسط صورها،
** وهناك (أمية التوثيق).. نوع من الأمية يتعلق باعتماد (السمع أو التواتر) في استقبال المعلومات، دون بذل أبسط جهد للتحقق من منطقية أو صدقية أو مصدر المعلومة أو.. الشائعة، أو الغاية النسبيةمنها أيمصلحة من يرددها من وراء نشرها،وهناك آية قرآنية جميلة تلخص هذه الحالة (.. إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوه..)! لكن عموما ومن تجربتي الشخصية ولعل بعضكم مثلي فإن مدعي التدين المنافقين هم أكثر الناس الذين يعانون من (أمية التوثيق)! مثلا هذا التناقل المفزع للشائعات حول مسيحية أسلمت ومسلم تنصر ثم بناء مواقف ثم المشاركة بفعل قد تكون نتيجته إزهاق أرواح بريئة أو تدمير منشآت عامة أو خلق توتر مجتمعي.. دون حتى محاولة.. ليس فقط التحقق من صدق ما يُسمع.. وإنما مدى وحدود (حقهم القانوني في التدخل).. كم واحدا من السلفيين المتعلمين الذين تعرفهم حاول التحقق في تلك القضية- المخجلة-قضية (عايز أختي)؟! أو سأل نفسه بأي حق أساسا يتدخل؟ّ!
** وهناك الأمية (المعلوماتية) التي تضر كثيرا بحلم النهضة.. كنت في منطقة كرداسة ذات يوم وجلست مع عدد من الفلاحين على إحدى المصاطب وسألت أحدهم" سمعت إيه عن البرادعي؟" لكنني شعرت بالحرج حين فوجئت أن بعضهم ليس فقط لم يعرف من هو البرادعي وإنما والله العظيم أحدهم لم يعرف أن كلمة البرادعي تلك هي أساسا اسم شخص! غياب المعلومات جريمة في بعض الدول تسائل عنها الحكومات! عانى هؤلاء- وذلك ليس ذنبهم- من غياب المعلومات، دولة مبارك لم تعترف أصلا بوجودهم! الآن وبعد سقوطها وبينما نسعى لتأسيس دولة جديدة بشرعية جديدة.. لابد أن يكون حق الشعب في التعلم والمعرفة نقطة انطلاق وإلا.. عن أي نهضة نتحدث وبأي تقدم نحلم؟
** وإلى جانب أنواع الأمية المختلفة- وكلها معوقة للنهضة- هناك (آفات اجتماعية) مثل الهوس الديني والإرهاب التكفيري ضد كل من يحاول مواجهته، وهذه آفات تتوزع بين طبقات المجتمع من أدناها إلى أعلاها، وهناك كذلك (نفاق النخبة) حيث البعض (يشتري دماغه) ويبتعد عن المواجهةتحسبا.. أو نفاقا لمن يشهرون سلاح التكفير في وجهه وهم المتصدرون الآن للمشهد المصري،وهناك كذلك (العقلية الدينية) و(ذهنية التحريم) في الحكم على أشياء لا يصح معها التحكيم الديني.. ما علاقة الدين أساسا مسيحية أو إسلاماأو أي دين بمدة حكم الرئيس وعدد نوابه وطريقة انتخاب أعضاء البرلمان؟! أين من الجنة والنار مسألة الانتخاب الفردي أو بالقائمة النسبية؟! أو مسألة الدستور أولا أم مجلس الشعب أولا؟! لماذا في هذه المسائل الدنيوية يستجيب لمدعي الوكالة عن السماء هذا العدد الكبير من المصريين إلا إذا كانت (ذهنية التحريم) قد استحكمت في الكثيرين.. متعلمين وأميين ومن بينهما! ثم كيف تتحقق نهضة بهذه الذهنية؟!
** وضمن الآفات الاجتماعية كذلك (عدم احترام القانون)، المصريون (بصفة عامة)- متعلمون وأميون- لا يحترمون القانون! إن لم تكن الاستهانة بالقانون تخلفا فما هو التخلف بنظرك؟! أذكر هنا قصة رواها المرحوم الدكتور عبد الوهاب المسيري في إحدى مقالاته وكان تحديدا يشكو من حالة عدم احترام القانون التي أصبحت سمة في المجتمع المصري،وهو ما هو الدكتور الجليل، كان ذات يوم يقف بسيارته في إشارة مرور حمراء.. فظل سائق السيارة التي تليه يضغط ويضغط بالكلاكس.. فأخرج الدكتور المسيري رحمه الله يده من النافذة مشيرا للضوء الأحمر.. فما كان من السائق إلا أن ترك سيارته وجاء إلى الدكتور يعنفه: (واقف ليه ومعطلنا يا حضرة؟) فقال الدكتور: الإشارة حمراء.. فقال السائق: (نعم سيادتك؟ يا نهار إسود هي كل ما تحمّر حتقف؟!)،
ثم كيف ترى من يأتي على طابور ما في مكان ما فيخترقه من أوله وتنشب المشاجرات بسبب ذلك؟ وكيف ترى التعدي المخزي والغير حضاري على النيل وعلى أراضي الدولة.. إلى آخره من أمثلة على أن (تفشيا) لثقافة احتقار القانون يبدو واضحا في مجتمعنا؟ ويشترك فيه الجميع الفقير والغني المتعلم والأمي، بالطبع لو كانت الدولة موجودة أصلا وتقوم بدورها لكان المصريون اعتادوا مثل باقي الشعوب احترام القانون.. التغيير يعني فيما يعني أننا نريد دولة تجبر مواطنيها على احترام سيادة القانون وتكون هي أول من يحترمه..
** ثم كيف ترى موقع (حقوق الإنسان) في اهتمامات المصريين؟! استغرق الحقوقيون سنينا في إدانة الشرطة بسبب تعذيبها للمواطنين وعدم احترامها لحقوق الإنسان ورفضوا مبرر أن ضحايا التعذيب هم من المجرمين واللصوص والقتلة..ومع ذلك وجدوا من بين المواطنين من يقول على الضحايا (إن كانوا لصوصا يستاهلوا!) ثم حين أدانوا بشاعة تعذيب البلطجية لضابط شرطة يوم 28 يناير اتهموا (بالتراجع والتعاطف مع الشرطة)، التعذيب هو التعذيب.. جريمة بشعة أيا كانت الضحية، لكن المجتمع وبصفة عامة لديه (ثقافة قبول التعذيب)، المواطنون يضربون البلطجي بوحشية لا تقل عن وحشيته هو في ضرب ضحاياه.. جزء كبير من المجتمع لا تهزه (مهانة ضرب مواطن) متحججا بأن الضرب "خفيف" لا يستحق التهويل! ومن ينتقد هذه (الثقافة المريضة) يتهم بالاستعلاء..
** بالطبع لا يتوقع أن يكون الشعب كله مثقفا.. لا يوجد مثل هكذا شعب، وليس مطلوبا أن يكون شعب بأكمله أديبا وفنانا وعارفا بكل شيء.. هذا شيء أصلا لا يتوفر مجتمعا لأي فرد منا! لكننا نتحدث عن (بديهيات للتحضر) نحلم جميعا بنشرها والحلم مشروع..وعلى رأسها احترام سيادة القانون واحترام حقوق الآخرين وأبسط قواعد حقوق الإنسان، لكن أحد أكبر المعوقات (بعد استبداد الدولة.. السبب الرئيسي) هي الأمية بأنواعها: أمية القراءة والكتابة.. الأمية السياسية.. الثقافية.. المعلوماتية.. الحقوقية.. الدينية، فسؤال صارت إجابته بديهية في العالم المتحضر مثل (هل يحق للفرد أن يختار معتقده؟!) هو سؤال يستغرق منا عراكا طويلا دون الوصول إلى نتيجة! ولا يتوقف أحد أمام من ينصب نفسه وصيا على الآخرين مقررا لهم ماذا يختارون! بل ويطالب بقتل (من يقرر اختيار معتقده)! وتلك ثقافة متخلفة إذا قسنا التخلف والتحضر بمدى مسايرتنا للعصر الحديث وما تراكم للبشرية من مفاهيم إيجابية مكتسبة عبر القرون! إلا إذا كنا نقيس الأمور بمعايير زمن النوق والبعير أو زمن محاكم التفتيش!
**دع عنك موقف التيار السائد في الثقافة المصرية من المرأة.. ذلك يحتاج إلى مجلدات لكشف قبحه! وكذلك عدم اتقان العمل (الذي كلما شاهدت في عملي درجة إتقان زملائي الفلبينيين من المهندسين والفنيين إلى عمال المنازل.. تمنيت لو نصبح مثل هذا الشعب العظيم بحق!)، ضف إلى ذلك ما يشوب ثقافتنا من عنصرية تجاه الآخر وشوفينية مستفزة، وهذه كلها سلبيات يفضل البعض أن يتجاهلها،ومع ذلك هل هذا يناقض أن المصريين جميعهم كانوا رائعيينحين خرجوا بالملايين في الثورة ولم يتدافعوا وحافظوا على منشآت بلدهم وكانوا مفاجأة لأنفسهم وللجميع؟ لا طبعا.. هذا لا يناقض ذاك! ففي الثورة (تجلى) فيهمفي ذات اللحظة مخزونهم الحضاري (الغائب) منذ سنين.. فكانت الثورة العملاقة، ثم عاد المخزون الحضاري سريعا وللأسف إلى (غيبته الكبرى)!.. وكل ما يتمناه الحالمون أن نستعيد هذا المخزون الحضاري.. أولا للاعتراف بما في (التيار السائد) في الثقافة المصرية من سلبيات ولاعقلانية وحتى أحيانا (استهبال)! وثانيا لتفكيك أركان منظومة التخلف المتكلسة.. وثالثا لاستبدالها بثقافة جديدة أهم ملامحها (الاستنارة)..
** تلك الاستنارة تنتشر بفعل عملية (تنوير) تتم في جو ثقافي مفتوح وفي ظل دولة تفرض سيادة القانون وتحترمه هي أولا.. ويكون هدفها الأساسي هو (الإنسان)، الإنسان بمعنى الوصول إلى كل مواطن في قرية نائية أو في الأحياء الراقية.. هذا ما تعنيه النهضة، وكثيرا مما تغير في مصر من عادات متخلفة في بدايات القرن العشرين..عصر النهضة الأول.. كان بفعل عمليات تنوير قادها أزهريون مستنيرون وليسوا متكلسين ومفكرون وأدباء ومثقفون وفنانون وأناس يؤمنون بالحداثة، ففي بدايات عصر النهضة كان يسود لدى الأسر المصرية (تقليد) إرسال أولادهم الذكور إلى التعليم دون الإناث، وبضغط تنويري رهيب زال هذا التقليد المتخلف وأصبح الآن يتساوى في اهتمام المصريين تعليم البنات والأولاد الذكور، هذا يعني أن من أهم أركان (عصر التنوير الثاني) الذي نتمنى أن يكون هو المقبلأن نتصدى لهذه المقولة المخرفة التي نسمعها دائما: (الحفاظ على العادات والتقاليد)! لماذا نحافظ على بعض التقاليد إذا كانت متخلفة؟! فلتذهب إلى الجحيم!.. لنعترف أننا لسنا على مايرام وأن لدينا الكثير من المشاكل في صلب ثقافتنا، الاعتراف أولا ثم.. التنوير، أيها السادة.. التنوير هو الحل!
ساحة النقاش