هل يضمن التّقبّل السّلبي للآراء السّائدة تحصيل الحقيقة أم أنّ التّفلسف، من حيث هو طريق إلى هذه
الحقيقة، هو بالأساس وعي بالجهل و سعي متدرّج نحو الخير معرفة و فعلا ؟
*استجلاء رموز الأمثولة
الأمثولة: هي طريقة رمزيّة لاستكشاف فكرة معقّدة. فهي أكثر من مثال لأنّها تتضمّن دلالات رمزيّة
فلسفيّة تفضي إلى إبراز موقف أفلاطون من المعرفة و الفلسفة. لكن ما هي هذه الدّلالات ؟
الكهف: العالم الحسّي و المادّي.
السّجناء: عامّة النّاس.
الأغلال: كلّ أشكال القيود المادّية و المعرفيّة التي تمنع الإنسان من إدراك الحقيقة. كلّ ما ينتمي إلى
المادّة، الوعي السّائد، العادات، الأخلاق السّائدة، الأفكار الجاهزة.
الظّلال: المعرفة الباطلة، الأوهام المعرفيّة.
خارج الكهف: عالم المثل و عالم الإدراك الحقيقي، الحقائق الثّابتة و المطلقة.
1. وضعيّة السّجناء داخل الكهف أو المعرفة العامّية كعائق:
يصف أفلاطون في هذه الأمثولة وضعيّة الإنسان العامّي:
الإنسان العامّي
مكانه: العالم المحسوس ( الكهف )، عالم الانشغالات اليوميّة التّافهة.
حالته: مغلول و مقيّد ب: الآراء السّائدة و البديهيّة، الأفكار الجاهزة، المعارف المغلوطة و الزّائفة.
استحالة التّحرّك صوب الحقيقة.
انعدام الرّؤية الحقيقيّة ( العقليّة ).
موضوعات رؤية العامّي: الظّلال: موجودات زائفة ( غير حقيقيّة ) مظاهر الأشياء الحسّية تولّد يقينات بديهيّة و
أحكام مسبّقة غير متأسّسة على ممارسة عقليّة. معارف باطلة و واهمة لا تحقّق
المطابقة مع الحقيقة. هي عائق للتّفكير الفلسفي.
- الإنسان المنغرس في الحياة اليوميّة و المسيّج في دائرة الظّنون و الأوهام و حبيس الأفكار السّائدة و الجاهزة التّي لا ترتفع عن عالم الحسّ المباشر و عالم المظاهر، لا يمكن له، في وضعيّته تلك أن يدرك الحقيقة و لا يتسنّى له، بأيّ حال من الأحوال الكشف عن ماهيّات الأشياء و الموجودات.
فالمعرفة الفلسفيّة الحقيقيّة، عند أفلاطون، تكمن في تلك الالتفاتة الأليمة إلى نماذج و ماهيّات الموجودات الحسّية.
هذه الالتفاتة إلى العالم المعقول يجب أن تسبقها ثورة فكريّة، لأنّ الإنسان العامّي يعتقد جازما أنّ الظّلال و الأوهام تمثّل الحقيقة الأولى و الأخيرة.
2. الوعي بالجهل و توجّه النّظر نحو العالم المعقول:
مع أفلاطون يصبح التّفكير نزوعا و جهدا نحو الوجود الحقيقي. فأن نتفلسف هو أن نسعى دائما إلى امتلاك المعرفة. و من حيث هي رغبة و إرادة للمعرفة، تنطلق الفلسفة من افتراض جهل أساسي. فالتّفلسف جهل تتبعه إرادة معرفة.
لن يتمّ الوعي بالجهل في هذا النّص، الاّ عند افتراض أفلاطون إطلاق سراح أحد السّجناء. فالسّجين الذّي أطلق سراحه تمكّن من رؤية النّار التّي تشتعل خلف ظهره و التّي ترسل نورها على الأشياء و على الموجودات الحسّية.
المفكّر الذّي أطلق سراحه يصاب بالحيرة و الاندهاش و ذلك لأنّه لا يستطيع التّمييز بين الحقيقة و الوهم و بين الواقع و الظّلال. يتمثّل ارتباكه في وجود مصدرين للحقيقة:د
أ- الموجودات الحسّية التّي يراها لأوّل مرّة و التّي هي رمز لعالم الأفكار و المثل.
ب- الظّلال التّي هي نسخ للأشياء الواقعيّة. تتلخّص، إذن، عمليّة المعرفة في تحويل نزوع النّفس و اتّجاهها من العالم الحسّي إلى عالم المعقولات.
لكنّ ذلك ليس بالأمر السّهل، لأنّ النّفس أو العقل ترتبك لسببين:
أ- عندما يخرج الإنسان، فجأة، من جهل لا يكاد يحسّ به، ليصل إلى الموجودات الخارجيّة.
ب- و عندما يسقط من سماء ّ المعرفة الحقّة ّ إلى ظلام المعرفة المألوفة بالواقع، فيفقد القدرة على النّظر إلى المألوف و المعتاد على أنّه هو الواقع المجسّم للحقيقة.
فكما ينبغي ّ للعين ّ أن تتعلّم كيف تتعوّد تدريجيّا على النّور أو الظّلام، فعلى ّ النّفس ّ أيضا أن تتمرّن على إدراك الماهيّات، و ذلك بأن تتدرّج في نظرها من الموجودات الحسّية، إلى الموجودات العقليّة ( كالأعداد و الأشكال) ثمّ إلى أن تنتهي أخيرا إلى الأفكار و المثل( ذلك هوالجدل الصّاعد ).
- تجدر الإشارة، هنا، إلى أنّ التّفلسف، في نظر أفلاطون، لا يتوقّف على مجرّد الارتقاء إلى الحقيقة ( الجدل الصّاعد) بل يجب أن يتبع ذلك، رجوع إلى الحياة، لأجل تنظيمها حسب المعرفة التي تمّ تحصيلها عن الفضيلة و العدالة و الحرّية إلى غير ذلك ( و ذلكهو الجدل النّازل ).
Nesrine.N