ان مشكلة الوحدة والكثرة هي من اعظم المشاكل الفلسفية، وبما ان الفلسفة لها خاصية شمولية فأن هذه المشكلة دخلت في جوانب عديدة كالجانب العلمي، والإنساني، واللاهوتي، ففلسفياً شغلت هذه المشكلة أكثرية الفلاسفة لا بل بنى بعضهم فلسفتهم عليها، ومنذ بدايات الفكر اهتم الإنسان بهذه المشكلة، وهكذا ظهرت عبادة الآلهة التي تمثل كثرة، أو عبادة الله الواحد، ودخلت هذه المسألة بمشكلة الخلق والأزلية، لأننا إذا قلنا بالخلق اعتبرنا الواحد هو مصدر الكثرة، وإذا قلنا بالأزلية اعتبرنا ان الأشياء لا يصدر بعضها عن البعض بل جميعها أزلية وقائمة بذاتها، ودخلت هذه مسألة بفلسفة الجمال، فمثلاً القديس والفيلسوف اوغسطين يعتبر الوحدة والكثرة من المفاهيم الجمالية، وكذلك دخلت مسألة الوحدة والكثرة بفلسفة الأخلاق، فهل الأخلاق واحدة ومطلقة أم إنها نسبية وكثيرة؟ وكذلك دخلت هذه المشكلة بفلسفة الاجتماع، وفيها يطرح السؤال هل الفرد هو من أجل المجتمع أم العكس؟ أما من الناحية اللاهوتية فقد احتلت هذه المشكلة مكانة كبيرة، فمفهوم الخلق هو أيضاً لاهوتي، وكذلك بالنسبة لله فهل هو واحد في جوهره أم هو كثرة؟ فالمسيحية قالت بأن الله هو ثلاثة اقانيم! واذكر هذه الأشياء لأبين كم ان هذه المشكلة مهمة، وبما ان الموضوع واسع جداً فأني سأحاول أن أبين أراء بعض الفلاسفة بخصوص هذه المشكلة، ولا بد أن اطرح بعض الأسئلة التي تخص هذا الموضوع وأحاول أن أجيب عليها بناء على أراء الفلاسفة التي سأبينها، والأسئلة هي كالأتي :
هل علينا أن نقول بالوحدة وننكر الكثرة؟ أم علينا أن نقول بالكثرة وننفي الوحدة؟ أم نحاول أن نوفق بين الوحدة والكثرة مع التركيز على أحدها اكثر من الأخرى؟ أم نجعلهما بنفس المستوى؟
ان مشكلة البحث واضحة من خلال هذه الأسئلة، وسأحاول أن احلها بالاعتماد على أراء بعض الفلاسفة، فأرجو من الله يوفقني بهذا المقال المتواضع والبسيط، انه شاق وشيق معاً.
1 _ المقصود بالوحدة والكثرة :
اقصد بالوحدة قيام الشيء بذاته واستقلاليته عن الغير، والوحدة هي عكس الكثرة، والقول بها يمكننا من تفسير كثرة الموجودات بإرجاعها إليها، يقول توما الاكويني " الواحد لا يزيد على الموجود شيئاً ثبوتياً بل ينفي القسمة إذ ليس المراد بالواحد إلا الموجود الغير المنقسم، فالواحد هو ما كان غير مقسوم في ذاته أي غير مقسوم بالفعل، وان أمكن قسمته في المركبات تركيباً طبيعياً كالإنسان والحجر ..إلخ. ونريد باللامقسومية الكائن بالفعل، والانفراد في الذات والانحياز عن الغير، فمعلومة الوحدة هذه تقوم بالحصر باللامقسومية الموجود الفعلية، وتدل على معنى وضعي وان عبرنا عنها بالسلب، أي إنها تدل على حالة انحياز الكائن عن الغيار وهذا التعريف للوحدة يشمل كل انواع الوحدة وهي : أ_ وحدة البساطة، ب_ وحدة التركيب الطبيعي، ج_ وحدة التركيب الصناعي، د_ وحدة الالتصاق ".
أما الكثرة، فالقصد منها هو بيان كثرة الموجودات وعدم إمكانية إرجاعها إلى مصدر واحد، أي القول بجواهر عديدة " فالكثرة تقابل الوحدة إذ تدل على مجموعة من الأفراد أي على تعدد الموجودات اللامقسومة في ذاتها والمنحازة عن غيرها، ومن تعدد الأفراد يتألف العدد وهو كثرة مقدرة بالواحد أي كثرة مركبة من جملة أحاد محددة "
2 _ الوحدة والكثرة في حضارة وادي الرافدين :
لو ألقينا نظرة على الفكر الفلسفي في حضارة وادي الرافدين، لوجدنا ان العراقيين القدماء اهتموا بمسالة الوحدة والكثرة، حيث انهم وضعوا أول قانون في العالم والقانون يوحد الشعب، وقد حرص حمورابي على تطبيقه، وكذلك كان العراقيون القدماء يعبدون آلهة كثيرة ولكن ابراهيم الخليل قال باله واحد، الذي هو سر الاسرار وجوهر الاشياء، وأصل الوجود ونجح في ذلك وارتقى بالبشرية من التعددية الى التوحيد، فابراهيم هو العلامة الفارقة بين عصر ما قبل التوحيد وعصر التوحيد. انه نقطة الارتكاز في انتقال الفكر والجدل من المادي ( الكثرة ) إلى المبدأ الواحد، ومن عبادة رموز الطبيعة الى عبادة العلي المبدأ والأصل لكل شيء ومن المتغير الى الثابت، ومن المنفعل إلى الفاعل ومن الجزئي الى الكلي، ومن المخلوق الى الخالق، ومن الفاني الى الخالد، ومن الوقتي الى السرمدي، ومن العرض الى الجوهر، وكذلك ادركوا العراقيين العناصر الاربعة قبل اليونان .
3 _ بارمنيدس ( 540 ق.م ) :
هو المؤسس الحقيقي للمدرسة الإيلية وتقول هذه المدرسة " ان العالم موجود واحد وطبيعة واحدة، وتقول هذا لا كالطبيعيين الذين يفرضون موجوداً واحداً ( ماء أو هواء أو نار ) ويستخرجون منه كثرة الأشياء بالحركة والتغير العرضي. بل تقول ان العالم ساكن فهي تنكر الحركة والكثرة " . ان اكسونوفان أعلن أصل المذهب، ويذكر ارسطو عنه ويقول: " انه نظر الى مجموع العالم وقال ان الأشياء جميعاً عالم واحد، ودعا هذا العالم الله، ولم يقلد شيئاً واضحاً، ولم يبين ان كان العالم واحداً من حيث الصورة، أو من حيث المادة " .
أما بارمنيدس فقد وضع كتاب في الطبيعة وهو قسمان الأول في الحقيقة، أي الفلسفة، وفيها المعرفة تكون عقلية وثابتة، وكاملة، وتجريدية، والحكيم من خلالها يتوصل إلى الحقيقة الاولى وهي " الوجود موجود ولا يمكن أن يكون موجوداً "، والفكر عنده يقوم على الوجود، والوجود عنده : أ_ ليس له بداية، ب_ غير قابل للفساد، ج_ هو كل قائم بذاته، د_ غير قابل للحركة، ه_ ليس له نهاية، و _ هو كائن الان، كلا واحداً متصلاً " . والثاني في الظن، أي العلم الطبيعي، ويعتمد على الظواهر الحسية التي تمثل الكثرة والصيرورة، وبارمنيدس أنكر المعرفة الحسية لأنها غير يقينية، وغير ثابتة وفضل اليقين العقلي عليها، فأدرك ان الوجود واحد ثابت قديم كامل، واعتبر ان الوجود واحد لانه " الاساس الذي تنحل اليه جميع الموجودات، أي هو الصفة العامة والجوهرية التي تشترك فيها جميع الموجودات، وأنكر الكثرة التي هي من عمل الحواس، فالتأمل العقلي يوصلنا إلى ان جميع الأشياء وجود واحد لا غير " . وهكذا اعتبر بارمنيدس الكثرة تابعة للظواهر الحسية، والوحدة تابعة للعقل، فأنكر الوحدة والصيرورة التي يستحيل انكارها لان الوجود الذي قال عنه بانه واحد لا يوجد إلا باتحاده مع الماهية التي تمثل الكثرة، ومن خلال هذا الاتحاد يتحقق الموجود الواعي فما عمله هو انه جرد الوجود من الماهية في عقله، وطبقه على الموجود الواقعي فنفى الكثرة من الموجود.
4 _ انبادوقليس ( 490 _ 430 ق.م ) :
كان انبادوقليس من التعدديين، القائلين باكثر من جوهر واحد لأصل الأشياء، فليس من تحول حقيقي من تولد حقيقي لانه لا شيء من لا شيء، وانما فقط تمازجات مختلفة لعدد هائل من الاجسام المتناهية في الصغر كل جسم منها ثابت ساكن ومحبو بصفات وكيفيات دائمة، وبقدر ما تتنوع تصور هذه الجسميات وأشكال اتحادها وانفصالها تتعدد الكوسمولوجيات وتتابين.
يعرض انبادوقليس في قصيدة زاخرة بالصور مذهب العناصر الأربعة، أو بالأحرى جذور الأشياء، حيث هي مبادئ الواحدية التي قال بها من سبقه، فجاءت عنده متعددة ومتكاملة وهي ( النار والهواء والماء والتراب )، وهي للعالم كألوان التي يستعملها الرسام، أو الماء والطحين للذين منهما يجبل العجين وائتلافها وانفصالها بمقادير شتى هما مصدر كل ما في الوجود، ولكن ليس بينهما أول، أو ثان فهي كلها أزلية، ولا يخرج بعضها عن البعض، وكل تغير يتم اما بطريق انضمام هذه العناصر إذا ما تفرقت وهي الصداقة أو الحب، واخرى تفرق بينها حينما تجتمع وهي الكراهية، وتكون الغلبة لكل من الصداقة والكراهية بالتناوب هناك إذن مساران للكون متناوبان أبداً ومعاكسان أحدهما للآخر مسار من الامتزاج إلى التشتت، وآخر من التشتت إلى الامتزاج، وهذا النظام محتوم لا مهرب منه، فمن الدور الكروي انفصل الهواء فأحاط به باعتباره غلافاً جوياً، وتلته النار وبعدها التراب ومن التراب انبثق الماء .
من خلال هذا العرض للمذهب انبادوقليس يتبين بأنه أنكر الوحدة، وقال بالكثرة التي اعتبرها أزلية والمحبة تجمع بين الكثرة والكراهية تفرق بينها، فانبادوقليس هو عكس بارمنيدس الذي قال بالوحدة ( الوجود )، وتوصل إليها من خلال التجريد.
5 _ افلاطون ( 427 _ 347 ق.م ) :
اهتم افلاطون بمشكلة الوحدة والكثرة، وحاول الجمع بين المدارس والمذاهب الفلسفية السابقة لحل هذه المشكلة، وفي كتاب ( البارمنيدس ) يبحث افلاطون بشكل موسع بهذه المشكلة، وبما ان كل فلسفته مبنية على نظرية المثل، فانننا نجد الحل عنده لهذه المشكلة في تلك النظرية ويعبر افلاطون عن نظرية المثل، بامثولة الكهف، وفي هذه الامثولة نجد الجواب لمشكلتنا، وملخص امثولة الكهف هو " ان العالم الحسي وعالم المثل والعالم الرياضي المتوسط بينهما مثلها مثل كهف فيه اناس مصفدون، وجوهمم الى الجدار، وكوة من خلفهم، وهم يرون امامهم فقط فيرون ضوء نار واشباح اشخاص، وأشياء تمر من خلفهم، وقد تعودوا هذه الرؤية للاشباح حتى حسبوا انها حقائق، فاذا أدرنا أحدهم إلى النار التي خلفه فجاة، فانه ينبهر وينحسر الى مقامه الاول، اي رؤية الاشباح المظلمة ثم لا يلبث ان يتعود رؤية الاشياء في ضوء الليل، أو رؤية صورها المنعكسة في الماء ثم يعتاد ضوء النار، ويستطيع رؤية الأشياء انفسها ثم الشمس مصدر كل النور " ، فالكهف يمثل عنده الكثرة والتغير واشباح المثل والاشياء المرئية في الليل، أو في الماء هي الأنواع والاجناس، والاشكال الرياضية، والأشياء الحقيقة هي المثل، وهي تمثل تجمع الكثرة في وحدة متناسقة فلكل شيء في عالم الكثرة والصيرورة مثال في عالم الوحدة والثبوت، والشمس هي مثال الخير الذي هو ارفع المثل، ومصدر الوجود والكمال، وأيضا مصدر الكثرة، ومن امثولة الكهف يتبين بان افلاطون حاول الجمع بين الوحدة والكثرة، ولكن أعطى أهمية اكبر للوحدة والتي مثلها بالخير أو الله، والكثرة تخرج من هذه الوحدة ولكن لا يعني هذا ان افلاطون قال بوحدة الوجود، فان الخير هو كالشمس التي تجعل المرئيات مرئية وتهبها النمو والغذاء دون ان تكون هي شيء من ذلك، فالشمس هي ملكة العالم المحسوس، والخير هو ملك العالم المعقول، واعتبر افلاطون العالم واحد، لان صانعه واحد، وان أصل العالم يعود إلى مادة واحدة ( مادة رخوة ) غير معينة، والتفسير النهائي للوجود عنده هو " ان الخير رباط كل شيء وأساسه " . لنظرية المثل عند افلاطون أهمية وجودية حسب قول ( زيلر )، فأنها تمثل الوجود الحقيقي للأشياء في ذاتها، فكل شيء هو ما هو فقط بقدر ما يوجد مثاله فيه، أو بتعبير أدق بقدر مشاركته في مثاله وهكذا فان المثال كواحد يقف في مقابل الكثرة، وهذه الاخيرة بينما هو يبقى كما هو. ان افلاطون قال بالمشاركة ولكن كيف يمكن لأشياء عديدة ان تشارك في مثال واحد، أو لنقلب السؤال ونقول، كيف يمكن لمثال واحد ان يكون في أشياء كثيرة مشاركة فيه ؟ فأما ان يوجد المثال كله في كل واحد من الأشياء المشاركة فيه، وهذا غير مقبول، لأنه يعني ان المثال كله يوجد في نفسه ويوجد في كل واحد من الأشياء المنفصلة، أي يكون الشيء مفارقاً لنفسه، ثم ان هذا يتناقض أساس فلسفته وهو ان المثل المفارقة، واما _ وهذا الاحتمال الثاني لمعنى وجود الواحد في الكثبر _ ان يوجد المثال مجزء في الأشياء التي قلنا إنها تشارك فيه، وحينئذ يفقد بساطته. ان افلاطون تأثر بالفيثاغورية، فوجد في الواحد كحاصل للأعداد تفسير للواحد وللكثير، ولمثال الخير عنده يتخذ شكلاً رياضياً، فالواحد هو غير منقسم وهو المصدر الأول لكل وجود، وفي التدريج العشري للوجود عنده نجد ان الرقم الواحد يمثل الأول والمطلق، والرقم اثنين يمثل الكثرة المطلقة، والرقم ثلاثة مهم لانه مجموع الواحد والاثنين، وبالتالي فهو اصغر الكثرة... ويتدرج إلى أن يصل إلى العدد عشرة الذي هو مثال الخير والكمال في حالة السكون. رأينا ان افلاطون اهتم بمشكلة الوحدة والكثرة، وحاول الاستفادة من المذاهب والمدارس الفلسفية التي سبقته، وانه جمع بين الوحدة والكثرة وجعل عالم المثل يمثل الوحدة والثبوت، وعالم الحسي يمثل الكثرة، والخير عنده مصدر الكثرة ووجود الكثرة هو مشاركة في الوجود بالذات وهو الله.
Nesrine.N