يلاحظ الدارس لتاريخ الفلسفة أنها لا تتقدم بشكل تراكمي وعمودي , فالحقيقة الفلسفية تتميز باتساع أفقها وبعدم اتخاذها خطاً عمودياً في البحث بخلاف العلوم الأخرى , فالعلم يكتشف حقيقة من الحقائق , ثم لا تلبث هذه الحقيقة أن تختفي لتظهر حقيقة أقوى منها , كما حصل مع فيزياء نيوتن التي ظنها أهل عصرها أنها آخر الحقائق الكونية وإذا بها تتهاوى في القرن العشرين على يد العبقري ألبرت آينشتاين , وكذلك حصل مع البيولوجيا , فليست البيولوجيا هي نفسها التي أسسها تشارلز دارون , فقد حصل تغير كبير وثورة هائلة داخل إطار هذا التخصص العلمي , ولو تأملنا في العلوم لوجدناها تتطور بسرعة كبيرة وتملك خاصية البناء الطبقي : فكل حقيقة علمية تبني نفسها على رفاة الحقيقة السابقة لها , وتشكل خطاً عمودياً يسير بثقة تامة .
لكن هذا لا يحصل مع الفلسفة , فالفلسفة خطوطها عشوائية , وميدانها أوسع , ومصطلحاتها أضخم , وهي لا تبني حقائق بل تخمينات , ومناهجها أكثر حدة وتطرفاً من المناهج العلمية , فالمنهج الفينمنولوجي لا يعترف بالمنهج الجدلي , والمنهج الجدلي لا يعترف بالمنهج الإمبريقي , وهكذا دواليك , كل فلسفة تصطنع منهجاً خاصاً بها , لا تتشارك بهِ مع أي فلسفة أخرى , وتتخذ من هذا المنهج دليلاً لبلوغ الحقيقة الميتافيزيقية الكبرى .
حقاً إن الفلسفة عنيدة , وحقاً إن المجنون الحقيقي هو من يحاول أن يصلح بين الفلسفات ولا يتخذ لنفسه فلسفة خاصة به يتمسك بها ويعتقد بصحتها ويقطع بيقينها , لأن من لا يفعل ذلك فسيضيع وسط عواصف الفلسفة التي لا تترك يقيناً ولا معتقداً إلا وتذروه برياح الشك !
وعند تأملنا في تاريخ الفلسفة فسنجد أن للفيلسوف آراءه الخاصة التي تسمه بمسيمه الخاص , فالفيلسوف ليس كالعالم , إن العالِم هو في الغالب بلا خصوصية , فكل ما يكتشفه العالِم هو ملك لغيره , لأن الحقيقة العلمية حقيقة مشاعة للجميع , لكن الحقيقة الفلسفية تبقى ضمن إيمان معتنقيها وحوارييها , وهذا التحدي الفلسفي يخالف الروح العلمية التقليدية .
وهذا يجعل من الفلسفة شعراً , فالشاعر له شخصيته المميزة , وكذلك الفيلسوف , ولا ننسى أن الكثير من الفلسفات بدأت مع أدباء , كهيراقليطس مثلاً , وأبيقور , ولا ننسى أن أفلاطون كان - وسيظل - من أعظم الناثرين على الإطلاق , لكن أفلاطون رجل عاجي , وينظر للناس شزراً , وكأنه قديس أو رجل دين !
وهذا يجعل من الفلسفة ديناًَ , فالفلاسفة قوم يتصومعون في حجرهم , فلا هم من العامة , ولا هم رجال دين , ولا هم أنبياء معصومون من الزلل , لكنهم خليط من كل هذا , فالكثير من الفلاسفة كانوا رجال دين : كإبن رشد , والفارابي , والقديس أوغسطين , والقديس توما , ولكن أيضاً كان بعض الفلاسفة ملاحدة شديدو التمسك بإلحادهم ككارل ماركس وفيورباخ ونيتشه , وهذا يعيدنا إلى نقطة الصفر من جديد !
إن الفلسفة تتفرع وتتنوع وتبدع ذاتها عبر فيلسوفها وما تتسم شخصيته من ذكاء وحنكة وبعد نظر , فلا يوجد فلسفة حقيقية بدون فيلسوف يملك هوية واضحة ورأياً صارماً وقوياًَ في جملة من المسائل التي تشغل ذهنه , ولعنا - حال تأملنا في تاريخ الفلسفة وشغيلتها - نلحظ تلك الروح الفلسفية الأصيلة , الروح الباذخة في سبيل تسلق أعالي الحقيقة مهما كان الطريق وعراً وقاسياً ..
وليست وعورة الطريق دافعاً للتخلي عن زمام المبادرة , فالكثير من الفلاسفة إما قتلوا , أو سجنوا , أو طُردوا , أو تم تعذيبهم وإيذائهم , وهذا كله يضاف للشقاء والكدح المعرفي , وما يلاقيه الفيلسوف من تعب وجهد من أجل بلوغ مقصده , وقد يكون هذا السبب في تحول الكثير من الفلاسفة إلى باحثين ومحللين سياسيين , ولم تكن السياسة موضوعاً منعزلاً عن البحث الفلسفي ..
وكما أسلفت قبل قليل , ليست الفلسفة منهجاً عمودياً يستهدف حقائق قديمة من أجل نسفها واستبدالها بحقائق جديدة كما هو العلم , فالفيلسوف شكاك بطبيعته ولا يركن للأجوبة السهلة , بسبب طبيعة البحث الفلسفي وما يستوجبه من حراك ذهني : وهذا الحراك المشحوذ ليس إلا بسبب الموضوع المُراد بحثه , وهذا يعيدني إلى الحديث عن السياسة مثلاً , فليس صحيحاً أن الفلاسفة ابتعدوا عن التحليل السياسي , فالأغلبية الساحقة ( اللهم إلا القلة القليلة ) كانت مشغولة بالسياسة , منذ أفلاطون حتى برتراند راسل .
وثمة فلاسفة انشغلوا بالبحث السياسي دون غيره , وأشهر هؤلاء على الإطلاق هو الفيلسوف الفلورنسي ميكافيلي صاحب كتابي الأمير والمطارحات , وتغلب على ميكافيلي نزعة وضعية في تحليل الأحداث السياسية , فهو لا يتعامل وفق منطق السياسة كما يجب أن تكون , بل يرى السياسة " كما هي " وبشكل ممعن في الواقعية , فلا يهم عنده أن يكون هناك ألف ضحية من أجل السلطان , بل ما يهمه أن نعرف حقيقة هؤلاء الألف ضحية , بحيث يمكن لنا ألاّ ننصدم بحقيقة السياسة وظروفها الجبرية .
وهناك فلاسفة جعلوا السياسة جزءاً من أبحاثهم ولم يمكنوها من احتلال كل جهودهم , وهناك من جعل الأخلاق مبحثاً رئيسياً له , مثل الفيلسوف العظيم فريدريك نيتشه , الذي سخر حياته كلها من أجل دراسة الأوضاع الإنسانية في التواريخ المختلفة شرقاً وغرباً , ووصف نفسه بالسيكلوجي الجوال الذي يرقب أحوال البشر من أعلى إلى أسفل ويلخص أبحاثه هدية مجانية للجميع , ورغم اشتمامنا لنبرة ساخرة ممزوجة بنرجسية نيتشوية عالية هنا , إلا أنه لا يسعنا سوى الاعتراف بالتأثير الهائل والصارخ لهذا الفيلسوف على تيارات عديدة جاءت من بعده .
وكذلك فإن بعض الفلاسفة أرادوا تجديد البحث الفلسفي من جديد , عبر استعادة المنطق وتقاليده الأرسطية , ومن بين هؤلاء كان برتراند راسل المتوفى سنة 1970 , ومعه جورج مور , ووايتهد , وهذا الثلاثي أخذ على عاتقه إعادة المنطق من جديد إلى الساحة الفلسفية بعد موته على يد ديكارت وبيكون رواد الحداثة , ولهذا الغرض قام برتراند بتأليف مجموعة من الأبحاث الممتازة حول المنطق الرمزي الجديد , فاستطاع أن يعيد للمنطق اعتباره المفقود منذ قرون .
وبعض الفلاسفة اهتم بالتحليل اللغوي , مثل لودفنج فتجنشتاين , الذي قام بتأليف كتاب يتيم بإسم " مقدمة منطقية " وعجز عن تأليف أي كتاب ذي اعتبار بعد هذا الكتاب , والسبب يعود لأن هذا الفيلسوف العبقري كان شديد الشك بمعلوماته , فكلما كتب كتاباً قام بتمزيقه ثم أعاد الكتابة من جديد , وهكذا حتى مات بالخمسينات من القرن الماضي .
وهناك من اهتم بالتحليل النفسي في فلسفته , مثل جان بول سارتر , الذي انتقد فرويد ومدرسة التحليل النفسي Psychoanalysis لأن سارتر لا يؤمن باللاوعي ويرى أن الوعي تحكمه الحرية وهو أساس الإنسان وبدونه لا يغدو الإنسان إنساناً لأنه خسر أهم ما عنده ( حريته المرتهنة بالوعي ) . ولم يكن سارتر هو الفيلسوف الوحيد الذي اهتم بعلم النفس , فقد سبقه زعيم البراجماتية وليم جيمس بتأليف كتابه عن أسس علم النفس , وإن كان هذا الكتاب ذو طابع أمريكي عملي بحت كما هو متوقع من البراجماتيين .
وهكذا نجد أن الفلسفة لا توجد مستقلة عن موضوعها , لكن السؤال الذي يجدر بنا إلقاءه هو : هل الفلسفة تتطفل على مواضيع العلوم الأخرى كعلم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ والموسيقى والأدب , أم أن الفلسفة يمكن لها أن تكون بحثاً محصوراً فقط بالمباحث الشهيرة الثلاث ( علم القيم وعلم الوجود وعلم المعرفة ؟ ) .
إنه لا يمكن الاحتراز بشكل أكيد من الفلسفة وغزوها لأي علم من العلوم , فالفلسفة كانت أم العلوم قبل استقلال الأخيرة عنها , ووفقاً لذلك , فإنه لا نتوقع من هذه الأم أن تبقى بعيدة عن أولادها , وهذا كله يفسر لماذا كان الفلاسفة دائمي القرب من العلوم مهما زعموا من مكانة مستقلة للفلسفة !
إنني أعزو هذا للمجهول العدمي , فهو السبب وراء بقاء الفلسفة رغم تضعضعها في مرحلتنا المتأخرة , ومادام ثمة مجاهيل تتبدى لنا , فإنه لا أمل أبداً بالتخلص من الفلسفة , أقول هذا للمناصرين لها أو للمجافين لمنطقها , فالفلسفة ذات طابع تركيبي وكلي , ولا غرابة في أن يكون الفيلسوف ملماً بأكثر من فرع علمي أو فكري واحد : لأنه ينشد الحقيقة المطلقة , ولأنه يستعين بكل ما يقع عليه ذهنه من معلومات .
حقاً إنه لا أحد يكدح للحقيقة كما فعل الفلاسفة , وهذا ما يجعلنا نقف إجلالاً واحترماً للعديد من الفلاسفة كأفلاطون والفارابي وابن رشد وديكارت وإيمانويل كانط ونيتشه وكريكجارد وغيرهم , لكن كل هؤلاء , حتى الآن , كان وجودهم سبباً في تقدم المعارف الأخرى , وما دام ثمة جهل بأي شيء من الأشياء - بالمعنى الواسع جداً لهذه الكلمة - فإن المهمة لم تنته بعد , وإن الفلسفة لم تقل كلمتها الأخيرة , رغم كل ما سبق من مؤلفات ومصنفات وموسوعات , وإن كان ثمة كلمة أخيرة يجب أن تقال , فلن تكون سوى كلمة ذات مضمون فلسفي , ذات مضمون ميتافيزيقي وما ورائي عميق جداً وغارق في الغموض .
Nesrine.N