لقد تجمع البشر -منذ أقدم العصور- معا في مجموعات كبيرة تشمل الأسر والأقارب ثم امتدت إلى الدولة الحديثة، وأصبح على الجماعات والأفراد لكي تنشأ الدول أن يتنازلوا عن السلطة في مجالات أساسية مثل الدفاع والأمن لهيئة عامة، ويكون لهذه الهيئة سلطة الإكراه على جميع الأشكال التنظيمية الأخرى داخل رقعة جغرافية معينة، ومن ثم قامت هياكل ضخمة للدولة منذ العصور المبكرة على أساس امتلاك الدولة للأراضي أو قامت على أنظمة متطورة للإدارة وجمع الضرائب في امبراطورية الصين والهند المغولية.
 

    ولقد سارت السياسات  الاقتصادية للدول الغربية الصناعية المتقدمة وفقا للنظرية الكلاسيكية في القرن الثامن عشر ومعظم القرن التاسع عشر؛ حيث اقتصر دور الإدارة الحكومية على الوظائف الرئيسية في توفير خدمات عامة مثل الدفاع والأمن والتعليم وإلزام تنفيذ العقود؛ باعتبارها وظائف لا غنى عنها لاقتصاد السوق الحر، كما قامت الإدارة الحكومية في هذه الدول بالتدخل لدعم اقتصاد السوق من خلال القيام بمشروعات البنية الأساسية والإشراف على عمل البنوك.
   

  ولكن منذ أواخر القرن التاسع عشر، اتخذت بعض الدول الأوروبية سياسات تتمثل في التدخل المباشر لتوفير الرعاية الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين؛ فلقد عملت هذه الدول على زيادة دورها في تحسين مستوى الرفاه الاجتماعي والاقتصادي للمواطنين، وطبقت حكومات هذه الدول ما عرف بسياسات الرفاه التي تعني مجموعة من البرامج تلتزم بها الدولة لتوفير الحد الأدنى من متطلبات الحياة لضمان مستوى معيشي مناسب للمواطنين، وتشمل هذه السياسات والبرامج الخدمات التالية: توفير التعليم العام و توفير الرعاية الصحية وتوفير فرص العمل أو أن تضمن الدولة حد أدنى من الدخل في حالة البطالة والمساعدة في توفير المسكن المناسب، وأخيرا ضمان الرعاية المتكاملة لمن هو في حاجة من العاجزين والمعاقين والفقراء.
 

   وفي بريطانيا ، لعبت وزارات الحكومة دورا في الاقتصاد ؛ حيث هناك وزارة التجارة والصناعة ووزارة العمل  منذ زمن طويل.  ولقد كانت كندا والولايات المتحدة من بين أولى الدول في إدخال قانون المنافسة في عامي 1889 و 1890 على التوالي. وقد أدخلت الحكومات قوانين المنافسة وهيئات المنافسة بسبب قلقها إزاء مسلك الشركات المناؤي للمنافسة واستجابة للأزمات الاقتصادية. ففي الولايات المتحدة ، تم إدخال قانون شيرمان لمكافحة الاحتكار مثلا بغرض كبح جماح مجموعة الشركات الكبرى متعددة النشاط في ذلك الوقت. ومع ذلك، كان دور الإدارة الحكومية في معظم دول أوروبا لا يزال محدودا للغاية  في إعادة توزيع الدخل طوال القرن التاسع عشر، وكانت إعادة التوزيع تتحقق في أوروبا أساسا عن طريق الأعمال الخيرية والتطوعية . وظهرت البوادر الأولى لدولة الرفاهية الحديثة في ألمانيا في أواخر القرن التاسع عشر حين أدخل المستشار بسمارك أول نظام للتأمينات الاجتماعية على مستوى البلد كله.
   

     وبشكل عام ، ظلت الإدارة الحكومية في الغرب محدودة الدور لسنوات طويلة حتى نهاية الحرب العالمية الأولى وما صحبها وتلاها من تطورات ثلاثة مهمة أثرت على دور الإدارة الحكومية وذلك على النحو التالي:
- قيام الثورة الروسية في سنة 1917 التي أدت إلى إلغاء الجانب الأكبر من الملكية الخاصة؛بما جعل إدارة الدولة مسيطرة على جميع نواحي النشاط الاقتصادي عن طريق التخطيط المركزي.
  وشهدت هذه الفترة قيام دول بإدخال قوانين لمنع الاحتكار مثل السويد  في عام 1925 بسبب قلقها إزاء انتهاكات الاتحادات الاحتكارية ، وقامت الدانمرك وهولندا والنرويج تدريجيا بتحويل قوانينها القديمة للرقابة على الأسعار أو تنظيم الاتحادات الاحتكارية إلى لوائح داخلية من النوع الذي يمنع الاحتكار ويحمي المنافسة لمكافحة التركز المتزايد في انتاج سلع في أواخر العشرينيات  وأوائل الثلاثينيات من القرن العشرين.
-الكساد العظيم الذي وقع في الثلاثينيات وأحدث دمارا اقتصاديا شديدا في العالم غير الشيوعي ؛ مما دفع الدول إلى انتهاج سياسات مضادة للدورات الاقتصادية من أجل استعادة النشاط الاقتصادي.
 

   فلقد أفلست الشركات الصناعية الكبرى وتضخم حجم البطالة ليصل معدلها إلى 40% ؛ مما جعل الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت إلى أن يتبع السياسة الجديدة المعروفة  "New Deal" حيث تبنى الفلسفة الكينزية في التدخل الوقائي وإنشاء المشروعات وزيادة الدعم وتنمية المرافق والبنية الأساسية.
-الحرب العالمية الثانية وما تلاها من تفكك سريع للإمبراطوريات الأوروبية وارتفاع المطالب بالتأمين الاجتماعي في الاقتصاديات الصناعية. ولقد شهدت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية تدخلا كبيرا من حكومات الدول الرأسمالية والغربية في الاقتصاد .   فلقد شهدت ألمانيا على سبيل المثال صدور  قانون العقوبات الاقتصادية عام 1949 في حالة رفع الأسعار بشكل مخالف. وبدأت مناقشات سياسية امتدت لفترة خمسين عاما حول قيام الحكومة بدور أكثر إيجابية ، وهو ما أدى إلى تزايد ٍ نفقات الحكومات المركزية في كل أنحاء العالم منذ عام 1960.   
 

  ولكن في نهاية السبعينيات بدأت رئيسة وزراء بريطانيا "مارجريت تاتشر" في التحول نحو إحداث تصفية شاملة للقطاع العام بشكل معتدل وتطبيق فكرة  "Privatization" ( تشجيع القطاع الخاص تدريجيا) مع افساح المجال لمشاركة العاملين والمواطنين وتطوير نظم إدارة الخدمات العامة على أسس اقتصادية وليس بالضرورة تحويلها إلى القطاع الخاص . وفي ذات الوقت ، كان الرئيس الأمريكي جيمي كارتر يأخذ اتجاها معاكسا لتدخل الحكومة حيث سمى حكومته " ساحة مناهضة الحكومة" ، فلا توجد مشاكل تحلها الحكومة بل المشكلة في الحكومة نفسها ، ومن ثم لا بد من مناهضة الحكومة أي تقليص دورها. ولكن مع نهاية تسعينيات القرن العشرين، أظهرت الأوضاع الاقتصادية عدم صحة إلغاء دور الحكومية والتحول نحو الخصخصة؛ حيث فازت أحزاب يسار الوسط بالحكم في دول أوربا، وبدأ الحديث عن الطريق الثالث Third Way، وهو تعبير محاولة التوفيق بين الاشتراكية والليبرالية؛ حيث توجد مجموعة من السياسات الرشيدة للاقتصاد الكلي مع معدل منخفض للتضخم ، و بيئة ذات تنافسية كبيرة للشركات مع وجود بعض القيود ، و شبكة أمان اجتماعي قوية. 

المصدر: ([1])د.أحمد رشيد ، إعادة اختراع وظائف وإدارة الحكومة (القاهرة : دار النهضة العربية ، 1996) ([2])د.أحمد السيد الدقن، دور الإدارة الحكومية في اقتصاد السوق (القاهرة:دار النهضة العربية، 2012) ([3]) د. سرحان بن دبيل العتيبي ، العولمة والشرعية ودولة الرفاه: دول مجلس التعاون الخليجي ، مجلة النهضة ، المجلد السادس ، العدد الثاني ( القاهرة : كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ، ابريل 2005 ) (([4] History and Functions of Government Departments ( London : H M S O, 1993) ([4] )تقرير البنك الدولي عن التنمية في العالم لعام 2002 ، البنك الدولي (القاهرة : مركز الأهرام للترجمة والنشر ، 2002 ) ([5] ) د.علي الدين هلال وآخرون ، معجم المصطلحات السياسية ( القاهرة: مركز البحوث والدراسات السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة ، 1994)
PLAdminist

موقع الإدارة العامة والمحلية- علم الإدارة العامة بوابة للتنمية والتقدم - يجب الإشارة إلى الموقع والكاتب عند الاقتباس

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 619 مشاهدة
نشرت فى 8 فبراير 2017 بواسطة PLAdminist

عدد زيارات الموقع

809,983

ابحث