authentication required

في سعيهم للحصول على أكبر قدر من الكفاءة في الإدارة المحلية وضمن هدفهم الرامي لتقسيم السلطات والوظائف بشكل يراعي القرب من المواطن ، وضعت الكثير من الدول نموذجا للتنظيم الإداري المحلي يأخذ بالاعتبار تعقد العلاقات الإنسانية والاجتماعية ويهدف إلى تعزيز التنمية المحلية من خلال الثقة المعطاة للسلطات المحلية.
        ليست اللامركزية الإدارية  موضوعاُ مجرداً، بل إنها مسألة متناغمة بشكل جذري مع خصوصيات المجتمع وماضيه وحاضره. الصعوبة تولد عندما يتعلق الأمر بوضع هذا المفهوم في حيز التنفيذ. اللامركزية الإدارية لا تطرح في الواقع إلا في دولة مستقرة من الناحية السياسية. محورها الأساسي يرتبط بنظام سلطة تعترف بتقسيم المهام والمسؤوليات بين الدولة والوحدات المحلية.
   وليست فكرة اللامركزية الإدارية  جديدة في دول العالم العربي، ولكن تطبيقها بقي متواضعاً على مر السنين. في ظل ظروف الأزمة الحالية فى سورية ،أخذت الإدارة المحلية معايير و اتجاهات جديدة . إن عدم التوازن الترابي والديموغرافي لم يؤثر فقط على سورية بل أيضا على دول الجوار : لبنان والأردن.
     فيما يتعلق بالتنظيم الإداري المركزي ،أي التقسيمات الإدارية التي لا تتمتع بصفات الوحدات الإدارية اللامركزي، فهي : في الأردن و لبنان توجد المحافظة التي تشكل أكبر قطاع إداري ، يليها اللواء و القضاء والقرية في الأردن والقضاء و المختارية في لبنان. أما في سورية ،فالمحافظة التي تعتبر أكبر حيز جغرافي ضمن التقسيم الاداري و أكبر وحدة محلية لامركزية ،تضم عدة مدن وبلدات وبلديات وقرى ومزارع لا تتمتع بصفات الوحدة المحلية ،ويمكن للمحافظة ان تكون مدينة واحدة.
     إن نتائج البحث حول التنظيم الإداري المركزي الحالي في منطقة الشرق الأوسط قد أكدت أن وحدة « الموديل » العثماني للتنظيم الإداري المتوارث من الماضي قد اندثرت. بالرغم من أن الأردن قد تبنى النموذج العثماني في تنظيمه الترابي الحالي من خلال الإبقاء على جزء هام من الهياكل التقليدية التي أنشئت في ذلك العصر، إلا أنه لم يكن وفياُ تماما لهذا النموذج الموروث. بالمقابل نجد أن زمن الانتداب الفرنسي في لبنان وسوريا قد محى آثار هيمنة النظام الاداري القديم للعثمانيين.
    وفيما يتعلق بالتنظيم الإداري اللامركزي (الإدارة المحلية( في الدول المقارنة الواقعة في الشرق الأوسط ، نجد أن البلدية تشكل القاسم المشترك الوحيد في هذا التنظيم الإداري منذ العهد العثماني و حتى وقتنا الحالي. هذه الوحدة المحلية هي الوحيدة المعترف بها في كل من الأردن و لبنان. أما في سورية فيوجد أربع وحدات إدارية لامركزية تتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والإداري و هي المحافظة و المدينة و البلدة و البلدية. في الواقع، ليس مؤكداُ أن عدد المستويات الإدارية اللامركزية سواء كان مستوى وحداً أو عدة مستويات هو عامل نجاح في إنجاز المهام الموكلة على المستوى المحلي.
   ان الدور البارز الذي منحه المشرع للسلطة المركزية في إنشاء و عمل الوحدات المحلية يؤثر على العلاقة بين هذه الوحدات وبين سكانها المحليين. إن أي تغيير مفاجئ في الهياكل الإدارية المحلية دون الأخذ بعين الاعتبار إرادة المواطنين المحليين يؤدي إلى عدم توازن بين البناء المحلي المنشأ والاحتياجات اللازمة للسكان.
    فيما يتعلق بالهيكلية الداخلية للوحدات المحلية اللامركزية أو شكل المجالس المحلية فقد ساد تمييز بين نظامين للمجالس المحلية: نظام المجلس الواحد و نظام المجلسين. اعتبر بعض الكتاب أن الدول تختلف بحسب شكل المجالس المحلية التي يعتمدونها : إما أن يكون هناك مجلس محلي واحد يملك السلطة التشاور بينما يعهد بالسلطة التنفيذية إلى شخص كما هو الوضع في الأردن و لبنان ، أو أن يكون الى جانب كلإل مجلس محلي مكتب تنفيذي كما هو مطبق في سورية. في الواقع يمكننا القول أن هذا التصنيف مصطنع. ففي كلتا الحالتين يوجد مجلساً محلياُ واحداُ فقط و رئيساً محاطاً ب (مكتب) يساعده في ممارسة مهامه التنفيذية. على سبيل المثال في فرنسا تقوم مجالس المحافظات أو الأقاليم بانتخاب رئيس المجلس و نوابه و هؤلاء يشكلون المكتب.
   وتطبق قواعد القانون المشترك على الوحدات الإدارية اللامركزية في لبنان والأردن ما عدا العاصمة التي استثنيت من بعض هذه القواعد. فقد منح المشرع في هاتين الدولتين كلاُ من أمانة عمان الكبرى و بلدية بيروت بعض الخصوصيات بالمقارنة مع باقي الوحدات المحلية في الدولة. أما في سورية فالخروج عن قواعد القانون المشترك لم يشمل العاصمة دمشق و انما المكتب التنفيذي للمجلس المحلي لأكبر وحدة ادارية ، فقد نص المشرع على أن يرأس المحافظ المكتب التنفيذي لمجلس المحافظة و ذلك خلافاُ للمكتب التنفيذي للمدينة و للبلدة الذي يرأسه رئيس مجلسها المحلي.
   في نطاق التعاون بين الوحدات المحلية لإنجاز المشاريع المشتركة التي تعجز الوحدة المحلية عن القيام بها بمفردها، نجد أن هيئات التعاون المحلي في الأردن (مجلس الخدمات المشتركة)  ولبنان ( اتحاد البلديات ) تتمتع بالشخصية الاعتبارية و تشكل نظريا عوامل إيجابية للتنمية من خلال تجنيد قدرات البلديات المتجاورة ، إلا أن هذه التجربة بقيت غير مكتملة أو ناقصة من ناحية التطبيق العملي حيث أن هيئات التعاون لا تغطي جميع الوحدات المحلية في الدولة. أما في سورية فلم ينص المشرع على هيئات للتعاون المحلي تتمتع بالشخصية الاعتبارية كما هو الحال بالنسبة لنظيريه في لبنان و الأردن، حيث اقتصر النص على إنشاء إدارات مشتركة و مكاتب تنسيق للخدمات. لذلك فإن تحديث و تعديل هيكلية هيئات التعاون المحلي في لبنان و الأردن و جعله يشمل كل أجزاء الدولة ، و من ثم نقل هذه التجربة الى المستوى المحلي في سوريا يشكل ضرورة ملحة و إصلاحاً مرغوباُ فيه للغاية.
     إن عدم تلاؤم الإدارة المحلية في الدول العربية مع المعطيات الاجتماعية والاقتصادية و مع مبدأ اللامركزية  المطبق في البلدان المتقدمة يجب أن يدفعنا إلى إيجاد حلول جذرية؛ فمن المؤكد أن هذا لا يعني التقليد الأعمى للأنظمة المطبقة في تلك البلدان، بل أن نختار النصوص المناسبة للاحتياجات الأساسية والحقائق الراهنة لكل دولة. لذلك لابد من وضع استراتيجية فعالة للإدارة المحلية تمهد الطريق إلى النموذج الذي يمكن أن يمحو عيوب النظام القائم. هناك أولويات للعمل لإنشاء نموذج مثالي للامركزية الإدارية يمكن أن تكون على حد سواء على الصعيد الهيكلي والوظيفي. يجب أن يلمس الإصلاح بالضرورة هذين المستويين نظرا للارتباط الوثيق بينهما.
      من أجل مستقبل واعد للإدارة المحلية في العالم العربي، لا بد من إيجاد حل يضمن الانسجام الهيكلي و الوظيفي بين الوحدات المحلية من جهة والدولة من جهة أخرى. هناك شرط أولي يجب أن يتحقق ، ألا و هو الاستقرار السياسي مع نهاية الأزمة السورية واستعادة عمل المؤسسات اللبنانية. بعد ذلك لا بد من دراسة معمقة للحقيقة الترابية في ضوء استعراض و فحص الخبرات الأجنبية. التحدي إذاً هو بناء إدارة محلية متوازنة على المستوى الهيكلي وفعالة على المستوى الوظيفي.
    ستستعرض فيما يلي أبرز الخطوات اللازمة للوصول الى هيكلية متوازنة للإدارة المحلية في العالم العربي:
بداية ، يجب أن يمر التنظيم الهيكلي للوحدات المحلية اللامركزية بإصلاح لا تتكرر فيه أخطاء و ثغرات القوانين الحالية. هذا المطلب يستلزم أن يخضع  إنشاء كل وحدة محلية لشروط مالية وديموغرافية بشكل يضمن تلبية حاجات المواطنين و يعزز القرب منهم.
إعادة التخطيط الترابي لا يمكن تطبيقها على أرض الواقع بدون صعوبات أو قيود. ومع ذلك ، فإننا نرى من المناسب في المقام الأول ، إنشاء لجنة وطنية تهتم بوضع حلول تستند الى أسس علمية و دراسات حول الخطط الاقتصادية والديموغرافية والاجتماعية. الإصلاح الترابي اللازم لترسيخ اللامركزية المحلية يجب أن يعيد النظر في المساحة الجغرافية للوحدات المحلية وعدد سكان كل وحدة. إن الشروع في تبسيط الهياكل المحلية - من خلال دمج الوحدات المحلية الصغيرة ذات الموارد الضعيفة - يؤدي إلى خلق وحدات محلية كبيرة ذات موارد مالية و بشرية هامة قادرة على تنفيذ مشاريع البنية التحتية والتنمية.
   إن إعادة التخطيط الترابي تتطلب إرادة ثابتة لبدء سياسة التنمية في المجتمعات المحلية ، و حشد الموارد المالية والبشرية لتنفيذ الهدف المحدد ، ومشاركة مستمرة للمواطنين. هذا الإصلاح يمكن أن تؤثر بقوة على العلاقة بين المواطنين و محيطهم الترابي ، حيث سيجد هؤلاء أنفسهم في مواجهة بيئة جديدة مختلفة عن التي اعتادوا عليها ، لذلك لا بد من تسهيل تآلفهم مع هذا التغيير الهيكلي في البيئة الإدارية. إن ممارسة الديمقراطية عن طريق إعطاء المواطنين حقهم في المشاركة والتمثيل ، هو الحل المناسب.
    هناك اتجاه عالمي يقوم على أساس تخفيض عدد طبقات الوحدات المحلية الى مستويين اثنين . إن هذا النهج - الذي تم تأييده من قبل خبراء الأمم المتحدة في المؤتمرات الدولية - يعتبر أن تعدد مستويات الإدارة المحلية يشكل عقبة أمام فعالية الإدارة المحلية.  إلا أننا نرى أن ثلاثة مستويات محلية يمكن أن تزيد من فاعلية الإدارة المحلية ، لذلك نقترح النموذج التالي :
أولا، الإقليم: و هو المستوى الأعلى التنظيم الإداري المحلي ، يتألف من المحافظات و يشكل بنفس الوقت تقسيما ترابيا للدولة و وحدة محلية. هذه الوحدة يجب أن يكون مبنية على مبدأ اللاتركز الإداري. يجب أن تكون السلطة المركزية موجودة في هذه الوحدة الادارية للحفاظ على وحدة الدولة وتحقيق التنسيق الفعال لمرافقها الخدمية ، و يتم ذلك من خلال إنشاء مكاتب إقليمية للوزارات وإدارات للمرافق العامة للدولة. باعتبار أن الاقليم يشكل وحدة محلية لامركزية فيجب أن يدار من قبل مجلس إقليمي مسؤول عن تنفيذ خطط التنمية الإقليمية ، يتم انتخاب أعضائه بالاقتراع العام المباشر و يرأسه رئيس منتخب. يوجد إلى جانب المجلس مكتب تنفيذي منتخب يرأسه رئيس المجلس الإقليمي و يشكل الجهاز التنفيذي للإقليم.
ثانيا، المحافظة: و هي المستوى الثاني من مستويات الإدارة المحلية و تتألف من عدة بلديات. هذه الوحدة - كما هو الوضع في سورية - تمثل في نفس الوقت تقسيماً ترابياً و وحدة محلية تتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي. تعهد إدارة المحافظة الى مجلس منتخب بالاقتراع العام المباشر ، مسؤول عن شؤون المحافظة والتنسيق بين هذه الوحدة والمرافق العامة للدولة ، يرأسه رئيس منتخب و إلى جانبه مجلس تنفيذي منتخب.
ثالثا، البلدية : و هي المستوى الأساس في التنظيم الإداري المحلي، تتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي. هذه الوحدة المحلية ستشكل عنصراً فعالاُ للتنمية الاقتصادية والاجتماعية وتطبيق اللامركزية لذلك يجب أن يغطي الهيكل البلدي أراضي الدولة كلها وأن تتمتع البلديات بحرية العمل وبالموارد المالية الكافية. تتمثل إدارة البلدية بالمجلس البلدي المنتخب بالاقتراع العام المباشر من قبل الناخبين في البلدية ، يرأسه رئيساً للبلدية ينتخب بنفس الإجراء. يوجد إلى جانب المجلس البلدي مكتب تنفيذي منتخب يرأسه رئيس المجلس البلدي.
   ولا بد من الإشارة إلى أن أهمية العاصمة باعتبارها تجمع سكني كبير يبرر خضوعها إلى نظام خاص للإدارة المحلية. يتميز هذا النظام بتقسيم أراضيها إلى مناطق، كل منطقة لها مجلس محلي ينسق مع المجالس الأخرى في العاصمة. الهدف من ذلك هو تعزيز اللامركزية من خلال خلق سياسة إدارية للعاصمة تدخل في إطار السياسة العامة الموضوعة من قبل الدولة.
   يجب الإصلاح الهيكلي  أن يخص أخيراً العلاقة بين الوحدات المحلية؛ فهناك ضرورة ملحة لوضع استراتيجيات التعاون بين الوحدات المحلية من أجل تنفيذ مشاريع التنمية التي تتجاوز القدرات المالية لوحدة محلية معزولة. التعاون اللامركزي هو أداة أساسية للديمقراطية والتنمية و أفضل طريق للوصول الى توازن بين الوحدات المتباينة. إن إنشاء هياكل مشتركة (مجمعة) - ذات شخصية اعتبارية واستقلال مالي و إداري - يجب أن يكون بعيداً عن إرادة السلطة المركزية و رغباتها.
    أخيراً، لا أحد يستطيع أن يجادل في القول المأثور للشهير ألكسي دو توكفيل « بلد دون هياكل لامركزية ليست حراً حتى و لو كان لديه حكومة   حرة ».

المصدر: 1-المرسوم التشريعي رقم ١١٨ لعام ١٩٧٧ حول البلديات في لبنان, و قانون البلديات رقم ٤١ لعام ٢٠١٥ في الأردن. 2-قانون الإدارة المحلية في سورية الصادر بالمرسوم التشريعي رقم ١٠٧ للعام ٢٠١١. 3-محمد محمود الطعامنة و سمير محمد عبد الوهاب ، الحكم المحلي في الوطن العربي و اتجاهات التطوير، المنظمة العربية للتنمية الإدارية ، ٢٠٠٥. 4- المجذوب، الإدارة العامة - العملية الإدارية و الوظيفة العامة والإصلاح الإداري ، بيروت ، منشورات الحلبي الحقوقية ، ٢٠٠٢ 5- ألكسي دو توكفيل ، الديمقراطية في أمريكا، باريس، ١٩٥١
PLAdminist

موقع الإدارة العامة والمحلية- علم الإدارة العامة بوابة للتنمية والتقدم - يجب الإشارة إلى الموقع والكاتب عند الاقتباس

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 908 مشاهدة
نشرت فى 15 مارس 2016 بواسطة PLAdminist

عدد زيارات الموقع

809,931

ابحث