إن التحدي الأكبر للتنمية الإدارية هو التفكير خارج التنظيم البيروقراطي، وتناول نظام الإدارة العامة بنظرة شمولية تحليلية وإحداث تغيرات جوهرية تطول أسلوب صنع القرار العام وإجراءاته عبر الأخذ بمبدأ فصل السلطات وتوزيع الأدوار بين هيئات شرعية منتخبة وأجهزة تنفيذية مبنية على الجدارة والكفاءة. ويتصف الوضع الراهن للإدارة العامة  بالمركزية الشديدة والاعتماد الكلي على البيروقراطيات العامة في صنع القرارات التشريعية والتنفيذية والقيام بمسؤوليات وأدوار تفوق طاقتها ولا تدخل ضمن اختصاصاتها كجهات تنفيذية. وفي المقابل تعاني المجالس النيابية سواء على المستوى الوطني أو المناطق أو البلديات ضعفا شديدا في الصلاحيات لا يتناسب مع مسؤولياتها وأدوارها، ما أتاح الفرصة للبيروقراطيين أن تكون لهم اليد العليا في إدارة المجتمع وتفردوا بصنع القرار على أسس بيروقراطية وإجراءات رتيبة داخلية لا تستجيب بكفاءة وفاعلية لأولويات المجتمع باتصال وعلاقة أحادية مع طالب الخدمة دون أن يكون له الخيرة في كمية ونوع وجودة وتكلفة الخدمة المقدمة، والأهم أنها لا ترتبط بأولويات التنمية.

   أفرز هذا الوضع ثقافة إدارية يتم فيها فهم وممارسة السلطة العامة من قبل الكثير من موظفي العموم بأسلوب خاطئ فيه نوع من التعالي والصلف والشدة تصل إلى حد النظرة الدونية والمهانة يستجدي فيها المراجع الخدمة استجداء. ويبدو هذا الأمر غريبا عجيبا ومنقلبا رأسا على عقب إذا ما علمنا أن المسؤول الحكومي يعمل في نظام الخدمة المدنية، أي أنه بمقتضى النظام خادم للعموم وظف من أجلهم والسعي في تلبية احتيجاتهم وإنجاز متطلباتهم، ونجاحه في مهمته مرهون بتحقيق رضاهم. لكن هيهات هيهات أن يكون ذلك وقد انفصلت البيروقراطيات عن المجتمع ونأت عنه وانشغلت بمعاملاتها الورقية الداخلية المطولة تقتل روح الإبداع ولا تبحث عن حلول جديدة لتتحول إلى كابوس مخيف وغول كبير يعطل مصالح المواطنين ويعوق جهود التنمية. هذا الانكفاء والتشرنق الإداري أدى إلى عدم الربط بين المدخلات والمخرجات، بل إن الاهتمام ينصب على حجم المخصصات المالية والمباهاة بها وإغفال تام للنتائج المتوخاة من الإنفاق الحكومي وجودة الخدمة المقدمة، لذا أصبحت هناك منافسة شديدة ومشاحنة وحرب ضروس بين البيروقراطيات في اختطاف أكبر قدر من الموارد لا لأجل السعي في تقديم خدمة أفضل، إنما لزيادة نفوذ ومكانة وسلطة ومنافع البيروقراطين داخلها. يعزز ذلك التشرذم الإداري غياب إطار استراتيجي وطني يقوده ويوجهه ويصنع التفاعل والتكامل المطلوب بين الأجهزة الحكومية. ربما قال البعض إن هناك استراتيجية وطنية، لكن الحديث عن استراتيجية وطنية للأعوام الـ 30 المقبلة ينبغي ألا يكون صناعة بيروقراطية دون مرجعية تشريعية تعكس توجهات الرأي العام وتعبر عن تطلعات المجتمع بجميع مكوناته برؤية مشتركة نحو المستقبل. الاستراتيجية الوطنية مهمة وطنية عظمى ترسم المستقبل وتوجه الموارد ويلزم إخراجها من دهاليز البيروقراطية وتقاريرها التي كتبت بلغة رتيبة ميتة لا تمت للواقع بصلة لتزين بها المكاتب وتكون فقط للاستهلاك الإعلامي.

   لقد حان الوقت للانعتاق من قيود البيروقراطية التي كبلت المجتمع ردحا من الزمان وأثقلت كاهل التنمية وأبطأت من انطلاقتها وأخفقت في توجيهها الوجهة الصحيحة. ما تفعله البيروقراطيات ذر للرماد في العيون، وربما أوهمتنا مبانيها التي تطاول عنان السماء ومكاتبها الواسعة الفاخرة المكتظة بالموظفين ومشاريعها الأسمنتية التي تفتقد التخطيط بأن هناك تنمية حقيقة، لكن الواقع يحكي قصة إخفاق في تطوير الجانب الثقافي والحضاري في المجتمع. بل إن الناس في ظل السيطرة البيروقراطية أصبحوا ينهجون نهجها ويتصرفون حسب قيمها لتسود الشكلية والمباهاة والمظاهر الخداعة في المجتمع ليبلغ الحال في سعي الكثيرين الحصول على الأكثر بطريقة شرعية أو غير شرعية. لقد تفشت ظاهرة النفاق الاجتماعي وراح أكثر الناس يعمل جاهدا على تحسين الصورة الظاهرية بناء على معايير مادية صرفة لا مكان للأخلاق والحكمة فيها نصيب. في ظل هذا الفراغ القيمي ساد الإثبات الورقي البيروقراطي وأصبح هم الناس الحصول على ورقة تمنحهم الفرصة للحصول على المنافع الاقتصادية بأقل جهد وبأقصر الطرق، فهذه العمالة المنتشرة في الشوارع وفي المصانع والشركات الهشة دليل صارخ على هذه الثقافة الورقية، ويقاس على ذلك الطالب الذي همه الحصول على الشهادة بأقل اجتهاد ودون السعي في التعلم. ولما يتعلم وهو يعلم في قرارات نفسه أن مكان العمل لا تطبق فيه المعايير المهنية ولا يتطلب مهارات ومعارف لتأدية العمل لتكون الشهادة فقط تذكرة دخول للوظيفة ومتطلبا اجتماعيا وحسب. هذا الطلب على الإثبات الورقي شجع البيروقراطيات على التمادي فيه حتى إنه يطلب من المواطن إصدار صك إثبات الحياة على الرغم من أن كل مواطن لديه هوية وطنية. أو ذلك المواطن الذي ذهب لتسلم جواز سفره ليفاجئه الموظف يطلب منه إثبات هويته! هناك الكثير من المواقف والحالات التي تعج بها البيروقراطيات وهي من المضحك المبكي لكنها بكل تأكيد تمس الأمن الوطني وتحتاج إلى وقفة تأمل عميق ومراجعة جادة وجريئة لنظام الإدارة العامة. ولم يعد يكفي الحديث عن التطوير والإصلاح الإداري داخل هذه البيروقراطية، فلا التدريب ولا التطوير التنظيمي يجدي نفعا في معالجة هذه المشكلة، بل الأزمة الإدارية في القطاع الحكومي.

   إن المطلوب هو نظام للإدارة العامة يقرب صانع القرار للمواطن ويتيح له الفرصة للمشاركة والمحاسبة عبر منح المجالس النيابية سواء مجلس الشورى أو مجالس المناطق أو المجالس المحلية والبلدية سلطات تشريعية إدارية ومالية وصلاحيات كافية لتوجيه ومتابعة ومحاسبة أداء البيروقراطيين. هذا هو السبيل الوحيد لتنمية إدارية فاعلة ترتقي بأداء العمل الحكومي وتروض البيروقراطية الجامحة للعمل من أجل المواطن لنصل إلى نضج إداري تبحث فيه الخدمة عن المواطن وتسعى إليه بدلا من أن يلهث وراءها.

 

المصدر: د.عدنان بن عبد الله الشيحة
PLAdminist

موقع الإدارة العامة والمحلية- علم الإدارة العامة بوابة للتنمية والتقدم - يجب الإشارة إلى الموقع والكاتب عند الاقتباس

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 1144 مشاهدة
نشرت فى 21 فبراير 2012 بواسطة PLAdminist

عدد زيارات الموقع

751,271

ابحث