بستـان دوحة الحروف والكلمات ! للكاتب السوداني/ عمر عيسى محمد أحمد

موقع يتعامل مع الفكر والأدب والثقافة والخواطر الجميلة :

 

بسم الله الرحمن الرحيم

( قصــــة )

عنـدما تمطــر السمــاء فجــأةَ  !!

ثالثة ثم يافعة ثم نامية .. صغيرة وصغيرة ثم صغيرة .. زمرة قاصرة ألقت بها موجة الظروف عند شواطئ الشقاء .. تتلاعب بها تيارات الحياة القاسية دون معين يمثل الدليل .. جاءت إلى الحياة مسيرة تفقد الخيار والاختيار .. زمرة قاصرة تفقد حنان الأب الذي رحل عن الدنيا حين كانت خاتمة العنقود في الشهور الأولى من العمر .. كما فقدت رحمة الأم ورعايتها عندما رحلت عن الدنيا حين تعلمت أقدام الصغيرات جرأة الركض والوثوب .. أطفال وجدت نفسها وحيدة حائرة ضعيفة أمام عواصف الحياة القاسية .. تفقد البوصلة وتفقد المقومات التي تساند المشوار البعيد .. زمرة ضعيفة خبرتها في شئون الحياة تعادل الصفر .. كما أن رصيدها من الأقارب والأرحام يعادل الصفر .. وقد قدم الأب مع زوجته للعمل في حقول القرية من تلك المسافة البعيدة المجهولة .. ثم راقت لهما أحوال القرية الهادئة .. فأقاما في تلك القرية .. ثم تبدأ السيرة لتلك الأسرة الصغيرة .. تعاملت الأسرة الدخيلة وتعاشرت مع أهل القرية الآمنة المطمئنة .. وأصبحت جزءَ لا يتجزأ عن حاضرة القرية .. تدخل ضمن حسابات أهلها في السراء والضراء .. كما تشكل عدداَ مكملاَ لإحصائيات القرية .. وبانسيابية عجيبة امتزجت تلك الأسرة الدخيلة الجديدة وذابت في حاضرة وعادات القرية .. ولكنها بصورة مبهمة غامضة احتفظت بأسرار الماضي .. وقد نجح الزوج والزوجة في إخفاء المعلومات اللازمة التي تشرح المنبع والأصل .. فلم يعرف أحد من سكان القرية الجهة التي قدموا منها .. كما أن أهل القرية لم يجدوا ذلك من الأولويات والضروريات .. فهم أهل قرية تتعامل عادة بالنوايا الحسنة مثلها ومثل الكثير من القرى .
             رحل الأب والأم عن الدنيا وقد تركوا للصغيرات ذلك البيت الذي يمثل ملكاَ للأسرة .. والذي أفاد الأيتام كثيراَ حين وفر لهم الحماية والمأوى والدفء والأمان .. ولكن تلك الابنة الكبيرة في الترتيب الصغيرة في العمر كانت في التاسعة حين وجدت نفسها أمام جبال من المسئوليات والهموم .. وأن عليها أن تتحمل عبئ الأمومة والأبوة .. فأختها التي تصغرها مباشرةَ هي في السادسة من العمر .. أما أختها الصغيرة والأخيرة فهي في الرابعة من العمر .. فأصبحت تلك الصغيرة هي الأم التي فرضت عليها الظروف أن تتكفل برعاية نفسها والأختين .. احتارت في أمرها وأمر أخواتها وجلست تفكر بأمور هي فوق طاقة عقلها .. كما بدأت تنقب وتبحث في متروكات الوالدين .. فوجدت القليل من المدخرات التي تكفي لشهور قليلة .. ثم وجدت رزمة من الأوراق المطوية والمحفوظة بحرص شديد .. فتحت تلك الأوراق وحاولت أن تقرأ وتعرف محتوياتها .. ولكنها لم تستوعب شيئاَ عن مدلولاتها ولم تفهم .. لأنها ما زالت في بداية الطريق ولم تتعمق في القراءة والكتابة .. فأعادت تلك الرزمة من الأوراق إلى موضعها .. ثم دخلت في حيرة من أمرها وأمر أخواتها .. فالوضع الجديد الكئيب بعد رحيل الأم فرض عليها أن تفكر وتعايش عالم الكبار .. أما أهل القرية فقاموا بواجب الدفن والعزاء .. ثم قدموا القليل من تلك المساعدات والدعم في الأيام الأولى .. ولكنهم رويداَ رويداَ َبدءوا يتخاذلون ويتراجعون بإهمال مشوب بالتكاسل ..  كما بدؤوا يفقدون الحرص والموالاة  .. مما اجبر البنت الكبيرة أن تعمل في الحقول وتكسب القليل .. وهي مازالت يافعة ضعيفة البنية .. ولكنها كانت تحس بالسعادة حين تمكنت أن تكسب القليل .. ذلك القليل الذي يكفي حاجتها وحاجة أخواتها من القوت والطعام الضروري في بناء الأجسام .. أما أختها الوسطى التي كانت تصغرها مباشرة فكانت ترعى وتتواجد مع الأخت الصغيرة والأخيرة بالمنزل طوال الوقت .. واستمرت الأحوال بذلك المنوال .. حيث البنت الكبيرة كانت تعمل في الحقول طوال اليوم وتعود لبيتها مرهقة بعد عناء العمل الشاق والكد .. وعند عودتها كانت تستفسر عن أحوال الصغيرتين في غيابها ..  ثم تتناول الوجبة المتاحة مع أخواتها .. وبعد ذلك تنام في سريرها وفي أحضانها الأخوات الصغيرات .. وقبل أن تغمض أجفانها تتذكر أحوالها وخطواتها في ذلك اليوم الذي مضى ورحل عنهم  .. ثم كانت تعيد سيرة الماضي في خيالها وتتذكر الأحوال بمعية أمها وأبيها .. فتسيل الدموع ساخنة فوق خدودها .. ولكنها ببراعة شديدة كانت تخفي تلك الدموع عن أخواتها .. فتلك الأسرة الصغيرة وجدت نفسها وحيدة منفردة عند محك الطرق .. فهي لا تملك الكثير من الطموحات .. وجل همومها أن تبقى في زمرة الأحياء دون الهلاك .. تفقد الأحلام وتفقد الأبعاد في مسميات الغد والطموح .. كما تفقد الآمال في مسميات الفرحة والأعياد .. وهي لا تملك السعة والمقدرة في تفكير يعني المستقبل والتخطيط والتعليم .. ولكن جل طموحاتها أن تمرر اليوم الجاري بسلام ثم تنتظر الغد المجهول .                   مرت الأيام والشهور بتلك الوتيرة المتناسخة .. وحياة الصغيرات انحصرت في ذلك الروتين اليومي القاسي الممل .. والأخت الكبيرة رغم حجمها الصغير كانت تبذل بقدر ما تستطيع  .. تصيب مرة ثم تخيب مرات ومرات  .. وتنال النجاح يوماَ ثم تنال الإخفاق في أكثر الأيام  .. ومع ذلك كانت تلك الأسرة الصغيرة القاصرة تواصل مشوار الحياة رغم مرارات الظروف .. وما كان أمامها إلا الصبر والتحمل .. وذات يوم قالت الأقدار قولاَ لم يخطر على بال أحد ..  وقد سمع الناس في القرية أن رجلاَ غريباَ يتجول في سوق القرية يسأل بإلحاح شديد لمعرفة المعلومات عن تلك الأسرة التي فقدت الأب والأم .. وبما أن أهل القرية كالعادة يتخوفون من الأجانب حين يطرقون أبوابهم فإنهم تحفظوا وتمانعوا في إعطاء المعلومات عن تلك الأسرة المنكوبة .. وعندما لاحظوا إصرار الغريب في تلقي المعلومات عن تلك الأسرة أرشدوه لمنزل عمدة القرية .. فذهب الغريب مباشرةَ لمنزل العمدة .. وهنالك استقبله العمدة .. وكان العمدة قد سمع مسبقاَ بحكاية الرجل الغريب الذي يتجول في السوق ويستخبر عن أحوال تلك الأسرة .. قال الرجل للعمدة أنه محامي قادم من قبل الدولة التي قدم منها .. وأنه موكول بإيجاد رجل أو أسرة تحمل ذلك الاسم ..  ثم تلا الاسم على العمدة .. فكان الاسم مطابقاَ للأسرة المنكوبة بدرجة التمام والكمال .. ولما استفسر العمدة عن أسباب البحث والتنقيب أفاده المحامي بأن صاحب ذلك الاسم كان يملك الكثير من الأملاك في بلده .. ولكن جرت في وطنه حركة انقلابية عسكرية فاشية شيوعية .. ذلك النظام المتطرف الظالم الذي طبق النظرية الشيوعية في البلاد .. ثم صادر أملاك الأغنياء لتكون حقاَ عاماَ للدولة .. وبعد ذلك بدأ النظام في مطاردة الأغنياء والأثرياء والمؤسسات الغنية لمحاكمتها تحت قوانين وضعية تسمى ( من أين لك هذا ؟؟ ) .. وعند ذلك هرب الكثير من الناس لخارج البلاد .. وكان الرجل من ضمن هؤلاء الذين هربوا بجلودهم إلى الدول الأخرى  .. واستقر في هذه القرية ليعمل في الحقول والزراعة دون أن يكشف عن سره .. واسترد المحامي قائلاَ : ولكن الآن عادت الأمور لنصاب العدالة والإنصاف في ظل حكومة جديدة تمثل الديمقراطية والعدالة في البلاد .. وقد أمرت الحكومة الجديدة باسترداد جميع الحقوق المسلوبة لأهلها .. وأنا ضمن مجموعة من رجال القانون الموكلين بالبحث عن الأغنياء الفارين .. لاسترداد الحقوق لهم ولتشجيعهم على العودة للبلاد .. ولما استيقن العمدة من أقوال المحامي ذهب مع الرجل لمنزل الأسرة الصغيرة .. وهنالك أراد المحامي أن يتأكد من أن تلك الأسرة هي المطلوبة .. وهنا تدخل العمدة في إقناع البنت الكبيرة وطمئنها على المستجدات .. ثم طلب منها أن تقدم أية أوراق أو مستندات أو هوية للأب .. فما كان من البنت إلا أن قامت ثم أحضرت تلك الرزمة من الأوراق المحفوظة بذلك الحرص الشديد .. فقرأ المحامي تلك الأوراق والمستندات .. وبدأت الدهشة والذهول على ملامح وجهه .. حيث أن تلك الأوراق كانت تحتوي على كامل المعلومات والبيانات عن ممتلكات الرجل المصادرة .. وأنها لم تهمش صغيرة أو كبيرة من المعلومات ..  وتيقن المحامي بأنه قد توصل إلى ضالته .. ثم استفسر عن أحوال الأسرة .. ولما علم بالمآل قال للعمدة أنه موكول بأن يرعى حقوق تلك الأسرة كاملةَ حتى النهاية .. وأنه سوف يكون المشرف على أملاك الأيتام ورعايتها وحفظها حتى يبلغوا مراحل المسئولية .. كما أنه سوف يكون المشرف على تربيتهم ورعايتهم وتعليمهم حتى يبلغوا المراحل الجامعية والعليا .. ولكن قبل ذلك على الأسرة أن تعود لأرض الوطن .. وهنا تدخل العمدة الذي خير الصغيرات على قبول أو رفض العرض .. مع الإيحاء بأنه يفضل القبول .. فقبلن الصغيرات بتلك النازلة السماوية الطارئة .. وسافرن مع المحامي إلى أرض الوطن .. فكانت النقلة الكبرى حيث هنالك الدنيا والحياة المترفة الجديدة ..  وبين ليلة وضحاها تحولت أحوال الصغيرات من حالة البؤس والشقاء إلى حالة النعيم والرحمة .. ولسان حالهن يقول : ( ضاقت ولما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج  ) . 

ـــــــ
الكاتب السوداني / عمر عيسى محمد أحمد

 

OmerForWISDOMandWISE

هنا ينابيع الكلمات والحروف تجري كالزلال .. وفيه أرقى أنواع الأشجار التي ثمارها الدرر من المعاني والكلمات الجميلة !!! .. أيها القارئ الكريم مرورك يشرف وينير البستان كثيراَ .. فأبق معنا ولا تبخل علينا بالزيارة القادمة .. فنحن دوماَ في استقبالك بالترحاب والفرحة .

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 211 مشاهدة
نشرت فى 26 سبتمبر 2014 بواسطة OmerForWISDOMandWISE

ساحة النقاش

OmerForWISDOMandWISE
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

766,123