وجوب طاعة ولاة الأمور من منهج أهل السنة والجماعة

الحمد لله ولي الصالحين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن من أُصول العقيدة الصحيحة: السمع والطاعة لولاة أمر المسلمين في غير معصية الله، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: ٥٩]، وأولو الأمر هم (الأمراء) على الصحيح من أقوال أهل العلم.
قال الشيخ السعدي – رحمه الله –(1): «وأمر بطاعة أولي الأمر، وهم: الولاة على الناس، من الأمراء، والحكام، والمفتين، فإنه لا يستقيم للناس، أمر دينهم ودنياهم، إلا بطاعتهم والانقياد لهم؛ طاعة لله؛ ورغبة فيما عنده، ولكن بشرط أن لا يأمروا بمعصية الله، فإن أمروا بذلك، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
أيها المتقون الأبرار: إن القارئ لأخبار المصطفى صلى الله عليه وسلم، وما ذكره مِن تتابع الفتن، لَيَعلم صدقَ نبوته، وحرصَه على الخير لأمته، فما ترك خيرًا إلا دلَّنا عليه، ولا شرًّا إلا حذَّرنا منه.ويدل على هذا أحاديث ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، منها الآمر بالطاعة، ومنها الناهي عن المخالفة، ومن ذلك ما يلي:
1- الأمر بالطاعة وإن ظهر منهم معصية: ومما أرشد إليه في آخر الزمان، وعند تغير الأحوال: (التمسكُ بكتاب الله وسنته صلى الله عليه وسلم)، و(طاعةُ مَن ولاه الله عليكم في المعروف)، وإنْ حصل منهم تقصير، أو ظلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أَلَا مَنْ وَلِيَ عَلَيْهِ وَالٍ فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ»(2).
2- التحذير من خطر الخروج على الحاكم: كما يجدر التنبيه إلى أنه يجب أن يعتقد المسلم أن له إمامًا، وأن له أميرًا يَدِينُ الله له بالطاعة في غير معصية الله؛ فإنه مَن مات وليس له إمام، فإنه يموت ميتةً جاهلية والعياذ بالله. وقال: «مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»(3).
وهو عند الحاكم في المستدرك بلفظ: «من فارق الجماعة واستبدل الإمارة لقي الله ولا حجة له عنده»(4).
وكان السلف الصالح لا يخرجون على حكامهم، ولو كانوا على مذهب مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم. قال حنبل: «اجتمع فقهاء بغداد في عهد الواثق إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل – وقالوا له إن الأمر قد تفاقم وفشا – يعنون إظهار القول بخلق القرآن وغير ذلك – ولا نرضى بإمرته ولا سلطانه، فمنعهم الإمام أحمد من ذلك، وقال: «عليكم بالإنكار بقلوبكم، ولا تخلعوا يدا من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم، ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريح برٌ، أو يُستراح من فاجر، وقال ليس هذا بصواب، هذا خلاف الآثار».
وقال الطحاوي في عقيدته التي تلقتها الأمة بالقبول(5): «ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا، وإن جاروا، ولا ندعوا عليهم، ولا ننزع يدا من طاعتهم؛ فإن طاعتهم من طاعة الله عز وجل، فريضة ما لم نؤمر بمعصية، وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة».
3- أمر بأداء الواجبات نحوهم، وإن ظلموا، ومنعوا الناس حقوقهم: فليست طاعة الأمير مقصورة على العادل منهم فحسب، بل حتى ولو كان فيه شيء من الجور، والظلم وبخس شيء من الحقوق؛ فتجب طاعته في غير معصية الله، ودلَّ الشرع على طاعة هذا الصنف من الأمراء؛ لما فيها من المصلحة للمسلمين، فجوره، وظلمه، وفسقه على نفسه سيحاسب عليه، والأمة مسئولة عن واجبها نحوه، ومن ذلك الواجب: (الطاعة له)، السمع والطاعة هي للأمير الفاجر؛ كما هي للأمير التقي.
وقال صلَّى الله عليه وسلم: «سَتَكُونُ أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا» قالوا:يا رسول الله، كيف تأمر مَن أدرك منا ذلك؟ قال: «تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ»(6).
قال النووي(7): «وفيه الحث على السمع والطاعة، وإن كان المتولي ظالماً عسوفاً؛ فيُعطى حقه من الطاعة، ولا يخرج عليه، ولا يخلع، بل يتضرع إلى الله تعالى في كشف أذاه، ودفع شره وإصلاحه».
وقال الطيب(8): «أي لا تقاتلوهم باستيفاء حقكم، ولا تكافئوا استئثارهم باستئثاركم؛ بل وفروا إليهم حقهم من السمع والطاعة، وحقوق الدِّين، وسلُوا الله من فضله أن يُوصل إليكم حقكم من الغنيمة، والفيء، ونحوهما، وكلوا إلى الله تعالى أمركم، والله لا يضيع أجر المحسنين».
فالنبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى السمع والطاعة لمن ولاه الله أمر المسلمين، وعدم الإثارة عليهم، وما ذاك إلا لأن الخروج على الولاة يُسبِّب فسادًا كبيرًا، وشرًّا عظيمًا، فيختلّ به الأمن، وتضيع به الحقوق.
فهذا الحديث، وما في معناه يدل على وجوب الطاعة بالمعروف لولي الأمر، وإن منع بعض الحقوق، واستأثر ببعض الأموال، بل ولو تعدَّى ذلك إلى الضرر بالجسم، أو المال، ونحوه من الأمور الشخصية، فعلى المؤمن القيام بما أوجبه الله عليه مِن الطاعة، وأن يحتسب حقه عند الله عز وجل، وذلك سدًّا لباب الفتن، والمصائب على الأمة(9).
ولهذا كان من مذهبِ أهل السنة والجماعة أنهم: لا يرون الخروجَ على الأئمة، وقتالَهم بالسيف، وإن حصل منهم ظلم، أو تقصير؛ كما أنه ليس من منهج أهل السنة: (التشهيرُ بعيوب الولاة على المنابر)؛ لأن ذلك يُفضي إلى الفوضى، وعدم السمع والطاعة في المعروف، وكانت طريقة السلف النصيحة فيما بينهم، ويكفي إنكار المنكر، والمعاصي الحاصلة، والتحذير منها مِنْ غير أن يُذكَر فاعلها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية(10): «المشهور من مذهب أهل السنة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة، وقتالهم بالسيف، وإن كان فيهم ظلم؛ كما دلّت على ذلك الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الفساد في القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بظلمهم بدون قتال ولا فتنة، فلا يُدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، ولعله لا يكاد يُعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها مِن الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته. والله تعالى لم يأمر بقتال كل ظالم، وكل باغ كيفما كان، ولا أمر بقتال الباغين ابتداء، بل قال: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ﴾ [الحجرات:٩]، فلم يأمر بقتال الباغية ابتداء فكيف يأمر بقتال ولاة الأمر ابتداء. ا.هـ.
وقال البربهاري(11): «ليس من السنة قتال السلطان؛ فإن فيه فساد الدنيا والدين».
فلم يُرخص الشارع بالخروج عليهم إذا لم يسمعوا للنصيحة؛ بل أمر بالصبر عليهم، وأخبر أن الإثم عليهم، ومَنْ نصح لهم، وأنكر بالطريقة المشروعة؛ فهو بريء من الذنب.
4- النهي عن سب الحكام: ولا يجوز سب ولاة الأمر، وشتمهم، والتشهير بهم؛ فإن هذا خلاف النصوص، وما كان عليه السلف الصالح فَصحَّ عن أنس قال: «نهانا كبراؤنا مِن أصحاب محمد قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تَسبُّوا أُمراءكم ولا تغشوهم ولا تبغضوهم واتقوا الله واصبروا فإن الأمر قريب»(12)، وعن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَكْرَمَ سُلْطَانَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي الدُّنْيَا أَكْرَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ أَهَانَ سُلْطَانَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي الدُّنْيَا أَهَانَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(13).
وقال الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف -رحمه الله-(14): «وأما ما قد يقع من ولاة الأمور من المعاصي والمخالفات التي لا تُوجب الكفر والخروج عن الإسلام؛ فالواجب فيها مناصحتهم على الوجه الشرعي برفق، واتباع ما كان عليه السلف الصالح مِن عدم التشنيع عليهم في المجالس، ومجامع الناس، واعتقاد أن ذلك من إنكار المنكر الواجب إنكاره على العباد، وهذا غلط فاحش، وجهل ظاهر لا يعلم صاحبه ما يترتَّب عليه من المفاسد العظام في الدين والدنيا؛ كما يعرف ذلك من نوَّر الله قلبه، وعرف طريقة السلف الصالح وأئمة الدين».
ومِنْ ذلك أنه لا ينبغي إيغار الصدور عليه، ولا التحدُّث بعيوبه أمام الناس، بل ينبغي مناصحته، والدعاء له، لعل الله أن يهديه، إلا إذا رأينا منه كفرًا بواحًا عندنا فيه من الله برهان؛ فإنه يُزال، ويُستبدل بِمن هو خير منه، إذا كان هناك قوة ولا يترتَّب على ذلك شرٌّ، أو فسادٌ أكبر منه.
5- أداء الواجبات نحوهم، والدعاء بإصلاح حالهم: وقد أرشد صلى الله عليه وسلم إلى أن نسأل الله أن يهديهم حتى يُؤدُّوا الحق الذي عليهم، لذلك لما سأله سلَمة بن يزيد: فقال: يا رسول الله، أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألون حقَّهم، ويمنعونا حقَّنا، فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، ثم سأله فقال رسول الله: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ» (15).
6- طاعتهم، وإن اعتدوا على البدن والمال: وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه يكون في آخر الزمان ولاة لا يهتدون بهديه، ولا يسْتنّون بسنته، فقال حذيفة:كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: «تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلْأَمِيرِ وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ وَأُخِذَ مَالُكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ»(16).
7- الخروج عليهم مِنْ فعل الجاهلية: ولما اشتدَّ ذلك على الصحابة في أنه لابُدَّ من طاعة الولاة، وإن ظلموا وجاروا، قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنْ السُّلْطَانِ شِبْرًا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»(17).
قال ابن حجر في قوله صلى الله عليه وسلم: «مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»(18): «حالة الموت كموت أهل الجاهلية على ضلال، وليس له امام مطاع؛ لأنهم كانوا لا يعرفون ذلك، وليس المراد أنه يموت كافرا؛ بل يموت عاصياً، ويحتمل أن يكون التشبيه على ظاهره، ومعناه أنه يموت مثل موت الجاهلي، وإن لم يكن هو جاهليا، أو أن ذلك ورد مورد الزَّجر، والتنَّفير، وظاهره غير مراد، ويُؤيِّد أن المراد بالجاهلية التشبيه».
8- الاحتساب في طاعتهم ليوم القيامة: وقال صلى الله عليه وسلم: «اصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ»(19).
فاستبشر الصحابة بهذا الحديث الذي فيه أنّ مَن صبر على ظلم الولاة وتعدِّيهم؛ فإن جزاءه عند الله أن يُسقيه مِنْ حوض نبيه صلى الله عليه وسلم؛ وهذا الحوض يكون في يوم القيامة في مكان وزمان أحوج ما يكون الناس إليه؛ لأن الناس في ذلك اليوم يحصل لهم مِن الهمِّ، والغمِّ، والعرق، وشدة الحرّ ما يجعلهم في أشد الضرورة إليه؛ فالصبر على ظلم الولاة من أسباب الورود على الحوض والشرب منه. نسأل الله من فضله.
وعلى هذا السبيل كان صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، على رأسهم صاحباه سيدا كهول الجنة أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فَعن محمد بن سيرين قال: كان أبو بكر وعمر يُعلِّمان الرجل إذا دخل في الإسلام يقولان: «تعبد الله، ولا تشرك به شيئا، وتصلي الصلاة التي افترضها الله عز وجل عليك لميقاتها؛ فإن في تفريطها الهلكة، وتؤدي الزكاة طيبة بها نفسك، وتصوم رمضان، وتسمع وتطيع لمن ولاه الله الأمر. قال وقد قالا لرجل وتعمل لله، ولا تعمل للناس(20).
9- تضمين عقد البيعة مع النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بطاعتهم: فعَنْ عبادة بن الصامت قال: «دَعَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَبَايَعْنَاهُ فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةً عَلَيْنَا وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ»(21). ويدل على أهمية الطاعة في هذا الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم بايعهم على الطاعة في حال النشاط والكسل، وفي العسر واليسر، وأن الطاعة لا تتوقف على إيصالهم حقوقهم، بل حتى ولو منعوا ما لهم من الحقوق(22).
قال ابن بطال(23): «في الحديث حجة في ترك الخروج على السلطان ولو جار، وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلِّب، والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه؛ لما في ذلك من حقن الدماء، وتسكين الدهماء، وحجتهم هذا الخبر وغيره مما يساعده، ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح؛ فلا تجوز طاعته في ذلك بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها».
حدود الطاعة المطلوبة:
إن هذه الطاعة لهم ليست بالتسليم لهم في كل شيء، بل كما قال صلى الله عليه وسلم: «عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ إِلَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ»(24).
فإذا أمر وُلاة الأمر بما أمر الله به فهنا تجب طاعتهم، وكذلك إذا أمروا بشيء ليس فيه أمر ولا نهي؛ فتجب طاعتهم فيه كالأنظمة الحكومية التي لا تُخالف الشرع؛ فتجب الطاعة فيها؛ كأنظمة المرور، ونحوها. أما إن أمروا بمعصية فلا سمع ولا طاعة لهم.
وللحدِّ من الخلاف معهم، أو الخروج عليهم، قد جعل النبي صلى الله عليه وسلم إقامة الحكام للصلاة حَدًّا فاصلاً بين الحكم بوجوب طاعتهم، وجواز الخروج عليهم، يقول صلى الله عليه وسلم: «خِيَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ». قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيْفِ؟ فَقَالَ: «لَا مَا أَقَامُوا فِيكُمْ الصَّلَاةَ»(25). وذلك حتى لا يتأوَّل الناس معاصي الحكام بما يجيز لهم الخروج عليهم، حتى ولو كانوا يرتكبون الكبائر، وإنما جعل الإسلام إقامة الصلاة حَدًّا لذلك، حتى لا يثور كل من له رأي مخالف للحكام، أو مَنْ تُسوِّل له نفسه وهواه مِن الأمور ما يِستحلُّ به الثورة عليهم. فمهما بلغ الأمير والحاكم من الفسق والظلم فإنه يُناصح ولا يُنابذ.
قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله(26): «إنما الذي يستبيح الخروج على الدولة بالمعاصي هم الخوارج، الذين يُكفِّرون المسلمين بالذنوب، ويُقاتلون أهل الإسلام، ويتركون أهل الأوثان، وقد قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم: «يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ لَا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(27).
وقال الشيخ الألباني رحمه الله(28): «إذا عدنا إلى جماعة التكفير – أو مَنْ تفرَّع عنهم ، وإطلاقهم على الحكام، – وعلى من يعيشون تحت رايتهم بالأولى، وينتظمون تحت إمرتهم وتوظيفهم – الكفر والردة، فإن ذلك مبني على وجهة نظرهم الفاسدة، القائمة على أن هؤلاء ارتكبوا المعاصي فَكفرُوا بذلك.
والأحاديث في شأنهم كثيرة معلومة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى من أميره شيئًا من معصية لله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدًا من طاعة، فإن من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية»(29)، وقال عليه الصلاة والسلام في حديث الحارث الأشعري: «إِنَّ اللَّهَ عز وجل أَمَرَنِي أَنْ آمُرَكُمْ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ عَلَيْكُمْ بِالْجِهَادِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالْهِجْرَةِ فَمَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قَيْدَ قَوْسٍ لم تُقْبَلْ منه صَلاةٌ وَلا صِيَامٌ وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ»(30)، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة..
والنبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ويرضاه، فإن كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أكثر منكرًا، وأشد فسادًا منه؛ فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يُبغضه، ويمقت أهله، وهذا لا يعني الرضا والتسليم لهم، بل يجب نصحهم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر عما هو كائن في آخر الزمان فقال: «سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ قَالُوا أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ قَالَ لَا مَا صَلَّوْا»(31).
فأخبر أنه مَن استطاع أن يُغيِّر بيده، ولا يترتَّب عليه مفسدة فليفعل، وإن لم يستطع فيجب أن يُنكر ذلك بقلبه فإنه أسلم له، ومَن لم يفعل فقد رضي بما هم عليه، فعليه الوزر من الله.
واعلموا – رحمكم الله – أن في طاعة ولاة الأمور من المنافع والمصالح ما لا يُحصى؛ ففيه طاعة الله عز وجل، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي طاعة ولاة الأمور انتظام مصالح العباد في معاشهم بحصول الأمن والاستقرار.
قال الحسن في الأمراء: «هم يَلُونا من أمورنا خمسًا: الجمعة؛ والجماعة، والعيد؛ والثغور؛ والحدود، والله ما يستقيم الدين إلا بهم، وإن جاروا، أو ظلموا، والله ما يُصلح الله بهم أكثر مما يفسدون».
وفي الأثر: «ستون سنة مع إمام جائر خير من ليلة واحدة بلا إمام»(32).
ولكن يجب أن يُعلم أن الناس كما يكونون يُولَّى عليهم، فإذا أساءوا فيما بينهم وبين الله؛ فإن الله يُسلِّط عليهم ولاتَهم. قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِيْنَ بَعْضًا بِمَا كَانُوْا يَكْسِبُوْنَ﴾ فاتقوا الله عباد الله، وأصلحوا أعمالكم فيما بينكم وبين الله، فإن الله لا يُغيِّر ما بقوم حتى يُغيِّروا ما بأنفسهم، وعليكم بلزوم الجماعة، وما كان عليه سلف هذه الأمة، ولا تتبعوا السبل فتفرَّق بكم، وإياكم ومحدثات الأمور.
وبينما هذه هي نظرة الإسلام لوجوب طاعة ولي الأمر إلا أننا نرى فريقًا مِن العاملين في المجال الديني يرون أن تغيير الوضع الحاضر للمسلمين لا يُمكن أن يتم إلا من خلال المواجهة العسكرية المسلحة مع الحكومات المعاصرة، ولابُدَّ من بث روح الجهاد في المسلمين؛ للخروج على الحكام المرتدين، وإعداد العدة لهذا الأمر، ويرى أن هذا هو أولى أولويات العمل الإسلامي، بل قد يذهب البعض إلى الحكم بأن كل ما سواه خيانة للدِّين.
فلا يجوز لأحد أن يَشقَّ العصى، أو أن يخرج عن بيعة ولاة الأمور، أو يدعو إلى ذلك؛ فإن هذا من أعظم المنكرات، ومن أعظم أسباب الفتنة والشحناء، والذي يدعو إلى ذلك هذا هذا هو دين الخوارج، إذا شاقق يُقتل، لأنه يُفرِّق الجماعة ويشق العصى.
والواجب الحذر مِنْ هذا غاية الحذر، والواجب على ولاة الأمور إن عرفوا مَنْ يدعو إلى هذا أن يأخذوا على يديه بالقوة حتى لا تقع الفتنة بين المسلمين.
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إثارة الفتن، وعن أسباب إثارتها، مهما كانت سهلة يسيرة، وأخبر أن الفتن لا تعود على الأمة بخير، بل إنه نهى عن حمل السلاح، وعن المشاركة فيها، لا سيما هذه الفتن التي تقوم من أجل الولايات والمناصب الدنيوية، عن المقداد بن الأسود؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنُ وَلَمَنْ ابتلى فَصَبَرَ فَوَاهًا»(33).
اللهم أصلح الراعي والرعية، ووفقهم لاتباع خير البرية، اللهم وفقهم لإزالة الملاهي والمنكرات، وحبّبْ إليهم فعل أنواع الخيرات. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
* * *
وهاك أخي عددا من فتاوى سماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله في الموضوع:
مقتضيات البيعة لولي الأمر(34)
السؤال: هل من مقتضى البيعة – حفظك الله – الدعاء لولي الأمر؟
الجواب: من مقتضى البيعة النصح لولي الأمر، ومن النصح: الدعاء له بالتوفيق، والهداية، وصلاح النية والعمل، وصلاح البطانة؛ لأن من أسباب صلاح الوالي، ومن أسباب توفيق الله له أن يكون له وزير صِدْق يعينه على الخير، ويُذكِّره إذا نسي، ويُعينه إذا ذكر، هذه من أسباب توفيق الله له. فالواجب على الرعية، وعلى أعيان الرعية التعاون مع ولي الأمر في الإصلاح؛ وإماتة الشر؛ والقضاء عليه، وإقامة الخير بالكلام الطيب، والأسلوب الحسن، والتوجيهات السديدة التي يُرجى من ورائها الخير دون الشر، وكل عمل يترتب عليه شر أكثر من المصلحة لا يجوز؛ لأن المقصود من الولايات كلها: تحقيق المصالح الشرعية، ودرء المفاسد، فأي عمل يعمله الإنسان يريد به الخير، ويترتب عليه ما هو أشر مما أراد إزالته، وما هو منكر لا يجوز له. وقد أوضح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذا المعنى إيضاحًا كاملاً في كتاب (الحسبة) فليراجع؛ لعظم الفائدة.
*****
مِن الجهل، وعدم البصيرة عدم الدعاء لولي الأمر(35)
السؤال: ومَنْ يمتنع عن الدعاء لولي الأمر – حفظك الله -؟
الجواب: هذا مِنْ جهله، وعدم بصيرته؛ لأن الدعاء لولي الأمر من أعظم القربات، ومن أفضل الطاعات، ومن النصيحة لله، ولعباده، والنبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: إن دوسًا عصت وهم كفار قال: «اللهم اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ»(36)؛ فهداهم الله وأتوه مسلمين. فالمؤمن يدعو للناس بالخير، والسلطان أولى مَنْ يُدعى له؛ لأن صلاحه صلاح للأمة، فالدعاء له من أهم الدعاء، ومِن أهم النصح أن يُوفَّق للحق، وأن يُعان عليه، وأن يُصلح الله له البطانة، وأن يَكفيه الله شر نفسه، وشر جلساء السوء، فالدعاء له بالتوفيق، والهداية، وبصلاح القلب والعمل، وصلاح البطانة من أهم المهمات، ومن أفضل القربات، وقد رُوي عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: «لو أعلم أن لي دعوة مستجابة لصرفتها للسلطان»، ويُروى ذلك عن الفضيل بن عياض رحمه الله.
*****
حكم الخروج على الأنظمة العامة التي يضعها ولي الأمر(37)
السؤال: هناك مَنْ يرى – حفظك الله – أن له الحق في الخروج على الأنظمة العامة التي يضعها ولي الأمر، كالمرور والجمارك والجوازات.. الخ، باعتبار أنها ليست على أساس شرعي، فما قولكم؟ – حفظكم الله -.
الجواب: هذا باطل ومنكر، وقد تقدَّم أنه لا يجوز الخروج، ولا التغيير باليد، بل يجب السمع والطاعة في هذه الأمور التي ليس فيها منكر، بل نظّمها ولي الأمر لمصالح المسلمين، فيجب الخضوع لذلك، والسمع والطاعة في ذلك؛ لأن هذا من المعروف الذي ينفع المسلمين، وأما الشيء الذي هو منكر؛ كالضريبة التي يرى ولي الأمر أنها جائزة؛ فهذه يُراجع فيها ولي الأمر؛ للنصيحة والدعوة إلى الله، وبالتوجيه إلى الخير، لا بيده يضرب هذا، أو يسفك دم هذا، أو يعاقب هذا بدون حجة ولا برهان، بل لابُدَّ أن يكون عنده سلطان من ولي الأمر يتَصرَّف به حسب الأوامر التي لديه، وإلا فحسبه النصيحة والتوجيه(38)، إلا فِيمنْ هو تحت يده من أولاد وزوجات، ونحو ذلك ممن له السلطة عليهم.
*****
حول طاعة الأمير(39)
السؤال: ورد أكثر من سؤال حول قول سماحتكم: (طاعة الأمير واجبة ومن أطاع الأمير فقد أطاعني) ولكن هل نطيع الأمير في كل شيء؟
الجواب: هذا حديث رواه الشيخان في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أطاع الأمير فقد أطاعني ومن عصى الأمير فقد عصاني»(40) والله يقول في كتابه العظيم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 59] الآية. لكن هذا مطلق قَيَّدته السنة، فالسنة والقرآن يُقيِّد بعضهما بعضًا، فالمطلق في كتاب الله تُقيِّده السنة، وهكذا المطلق في السنة يُقيِّده القرآن والسنة، وهذا من المواضع التي قُيِّدت بالسنة فالله قال: ﴿وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ وجاء في السنة الصحيحة: «إنما الطاعة في المعروف»(41) فلا يُطاع ولاة الأمور إلا في المعروف، وهكذا الوالد، والزوج، وغيرهما لا يُطاعون إلا في المعروف، وهكذا شيخ القبيلة لا يطاع إلا في المعروف، للحديث المذكور، ولقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»(42)، ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابة رضي الله عنهم: «إنه سيلي عليكم أمراء تعرفون منهم وتنكرون»، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ أفلا نُنابذهم بالسيف؟ قال: «لا، أدوا إليهم حقهم واسألوا الله الذي لكم»(43)، وفي اللفظ الآخر قال: «فُوا لهم بما عليكم واسألوا الله الذي لكم»، وفي اللفظ الآخر قال: «لا، إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان»(44)، وفي اللفظ الآخر قال: «ما أقاموا فيكم الصلاة»، فالسمع والطاعة لولاة الأمور مقيدة في الأحاديث الصحيحة بالمعروف.
*****
حكم مَنْ عقد بيعة لغير ولاة الأمور(45)
السؤال: بعض الفرق المعاصرة تعقد البيعة لأمرائها الذين يختارونهم من أنفسهم، ويرون وجوب السمع والطاعة لهم، وعدم نقض بيعتهم، وهم تحت ولاة الأمراء الشرعيين الذين بايعهم عموم المسلمين. هل يجوز ذلك؟ أي بمعنى أن يكون في عنق الفرد أكثر من بيعة، وما مدى صحة هذه البيعات؟
الجواب: هذه البيعة باطلة، ولا يجوز فعلها؛ لأنها تُفضي إلى شق العصا، ووجود الفتن الكثيرة، والخروج على ولاة الأمور بغير وجه شرعي. وقد صَحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة»(46).
وصَحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ إِلَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ«(47).
وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما الطـاعة في المعروف»(48). وقال صلى الله عليه وسلم: «من رأى من أميره شيئًا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينـزعنّ يدًا من طاعة»(49).
والأحاديث في ذلك كثيرة جدًا، كلها دالة على وجوب السمع والطاعة لولاة الأمر في المعروف، وعدم جواز الخروج عليهم، إلا أن يأتوا كفرًا بواحًا عند الخارجين عليهم فيه مِن الله برهان.
ولا شك أن وجود البيعة لبعض الناس يُفضي إلى شق العصا، والخروج على ولي الأمر العام؛ فوجب تركه، وحَرُم فعله، ثم إنه يجب على من رأى مَنْ أميره كفرًا بواحًا أن يناصحه حتى يدع ذلك، ولا يجوز الخروج عليه، إذا كان الخروج يترتَّب عليه شر أكثر؛ لأن المنكر لا يُزال بأنكر منه، كما نَصَّ على ذلك أهل العلم رحمهم الله؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم رحمة الله عليهما، والله ولي التوفيق.
حكم الخروج على الحكام الذين يقترفون المعاصي والكبائر(50).
السؤال: سماحة الشيخ: هناك مَنْ يرى أن اقتراف بعض الحكام للمعاصي والكبائر مُوجبٌ للخروج عليهم، ومحاولة التغيير، وإن ترتَّب عليه ضرر للمسلمين في البلد، والأحداث التي يُعاني منها عالمنا الإسلامي كثيرة، فما رأي سماحتكم؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فقد قال الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ [النساء: 59]، فهذه الآية نَصٌّ في وجوب طاعة أولي الأمر، وهم الأمراء والعلماء، وقد جاءت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تُبيِّن أن هذه الطاعة لازمة، وهي فريضة في المعروف. والنصوص مِن السنة تُبيِّن المعنى، وتُقيِّد إطلاق الآية بأن المراد طاعتهم في المعروف، ويجب على المسلمين طاعة ولاة الأمور في المعروف، لا في المعاصي، فإذا أمروا بالمعصية فلا يُطاعون في المعصية، لكن لا يجوز الخروج عليهم بأسبابها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «أَلَا مَنْ وَلِيَ عَلَيْهِ وَالٍ فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ»(51)، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتةً جاهليةً»(52)، وقال صلى الله عليه وسلم: «عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ إِلَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ»(53)، وقال: «سَتَكُونُ أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا» قالوا: يا رسول الله، كيف تأمر مَن أدرك منا ذلك؟ قال: «تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ»(54)، قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله، وقال: «إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان»(53)، فهذا يدلُّ على أنه لا يجوز لهم منازعة ولاة الأمور، ولا الخروج عليهم إلا أن يروا كفرًا بواحًا عندهم من الله فيه برهان؛ وما ذاك إلا؛ لأن الخروج على ولاة الأمور يُسبِّب فسادًا كبيرًا، وشرًا عظيمًا؛ فيختل به الأمن، وتضيع الحقوق، ولا يتيسر ردع الظالم، ولا نصر المظلوم، وتختل السبل، ولا تأمن، فيترتَّب على الخروج على ولاة الأمور فساد عظيم وشر كثير، إلا إذا رأى المسلمون كفرًا بواحًا عندهم من الله فيه برهان، فلا بأس أن يخرجوا على هذا السلطان لإزالته إذا كان عندهم قدرة، أما إذا لم يكن عندهم قدرة؛ فلا يخرجوا، أو كان الخروج يُسبِّب شرًا أكثر فليس لهم الخروج رعاية للمصالح العامة.
والقاعدة الشرعية المجمع عليها: «أنه لا يجوز إزالة الشر بما هو أشر منه، بل يجب درء الشر بما يزيله أو يخففه»، أما درء الشر بشر أكثر؛ فلا يجوز بإجماع المسلمين، فإذا كانت هذه الطائفة التي تُريد إزالة هذا السلطان الذي فعل كفرًا بواحًا عندها قدرة تُزيله بها، وتضع إمامًا صالحًا طيبًا من دون أن يترتَّب على هذا فساد كبير على المسلمين، وشر أعظم من شر هذا السلطان فلا بأس، أما إذا كان الخروج يتَرتَّب عليه فساد كبير، واختلال الأمن، وظلم الناس، واغتيال مَنْ لا يستحق الاغتيال… إلى غير هذا من الفساد العظيم، فهذا لا يجوز، بل يجب الصبر، والسمع والطاعة في المعروف، ومناصحة ولاة الأمور، والدعوة لهم بالخير، والاجتهاد في تخفيف الشر وتقليله، وتكثير الخير. هذا هو الطريق السوي الذي يجب أن يُسلك؛ لأن في ذلك مصالح للمسلمين عامة، ولأن في ذلك تقليل الشر، وتكثير الخير، ولأن في ذلك حفظ الأمن، وسلامة المسلمين من شر أكثر، نسأل الله للجميع التوفيق والهداية.

 

المصدر: اطاعة ولي الامر
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 1412 مشاهدة
نشرت فى 24 يونيو 2014 بواسطة MuhammadAshadaw

بحث

تسجيل الدخول

مالك المعرفه

MuhammadAshadaw
مكافحة اضرار المخدرات والتدخين ومقالات اسلامية وادبية وتاريخيه وعلمية »

عدد زيارات الموقع

902,062

المخدرات خطر ومواجهة

مازال تعاطي المخدرات والاتجار فيها من المشكلات الكبرى التي تجتاح العالم بصفة عامة والعالم العربي والإسلامي بصفة خاصة وتعتبر مشكلة المخدرات من أخطر المشاكل لما لها من آثار شنيعة على الفرد والأسرة والمجتمع باعتبارها آفة وخطراً يتحمل الجميع مسؤولية مكافحتها والحد من انتشارها ويجب التعاون على الجميع في مواجهتها والتصدي لها وآثارها المدمرة على الإنسانية والمجتمعات ليس على الوضع الأخلاقي والاقتصادي ولا على الأمن الاجتماعي والصحي فحسب بل لتأثيرها المباشر على عقل الإنسان فهي تفسد المزاج والتفكير في الفرد وتحدث فيه الدياثة والتعدي وغير ذلك من الفساد وتصده عن واجباته الدينية وعن ذكر الله والصلاة، وتسلب إرادته وقدراته البدنية والنفسية كعضو صالح في المجتمع فهي داخلة فيما حرم الله ورسوله بل أشد حرمة من الخمر وأخبث شراً من جهة انها تفقد العقل وتفسد الأخلاق والدين وتتلف الأموال وتخل بالأمن وتشيع الفساد وتسحق الكرامة وتقضي على القيم وتزهق جوهر الشرف، ومن الظواهر السلبية لهذا الخطر المحدق أن المتعاطي للمخدرات ينتهي غالباً بالإدمان عليها واذا سلم المدمن من الموت لقاء جرعة زائدة أو تأثير للسموم ونحوها فإن المدمن يعيش ذليلاً بائساً مصاباً بالوهن وشحوب الوجه وضمور الجسم وضعف الاعصاب وفي هذا الصدد تؤكد الفحوص الطبية لملفات المدمنين العلاجية أو المرفقة في قضايا المقبوض عليهم التلازم بين داء فيروس الوباء الكبدي الخطر وغيره من الأمراض والأوبئة الفتاكة بتعاطي المخدرات والادمان عليها.