تغيير الشيب بالسواد.. دراسة فقهية مقارنة
كَثُر الحديث في الآونة الأخيرة عن قضية تغيير الشيب بالسواد؛ فمن الناس من يرى الحرمة؛ ومنهم من يرى الكراهة؛ ومنهم من يرى الجواز؛ ومنهم من يرى أن بعض الطيبين توسعوا في صبغ الشيب بالسواد تاركين الأخذ بالسنة. وفي هذه الدراسة - المختصرة - سوف أدرسُ المسألة دراسةً فقهيةً مقارنةً، مع الترجيح لما توصلتُ إليه.
اختلف الفقهاء في حكم تغيير الشيب بالسواد على أربعة أقوال:
الأول: ذهب الشافعية في المذهب[1]، وهو اختيار جماعة منهم ورجحه النووي[2]، إلى حرمة صبغ شعر اللحية والرأس بالسواد، وإليك نصوصهم وأدلتهم: قال النووي في المجموع[3]: «اتفقوا على ذم خضاب الرأس أو اللحية بالسواد، ثم قال الغزالي في الإحياء والبغوي في التهذيب وآخرون من الأصحاب، هو مكروه؛ وظاهر عباراتهم أنه كراهة تنزيه؛ والصحيح، بل الصواب، أنه حرام، وممن صرح بتحريمه صاحب الحاوي[4].. وقال في آخر كتابه الأحكام السلطانية: يمنع المحتسب الناس من خضاب الشيب بالسواد إلا المجاهد...».
أدلتهم:
1- الدليل الأول: ما أخرجه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله، قال: أتي بأبي قحافة يوم فتح مكة، ورأسه ولحيته كالثغامة[5] بياضاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد»[6].
الحديث صحيح؛ لكن اختلف في قوله «وجنبوه السواد»؛ فقيل: إنها ليست من الحديث؛ لأن أبا الزبير أنكرها من رواية زهير بن معاوية عنه، ولم يذكرها عزرة بن ثابت عن أبي الزبير، وإذا اختلف في ثبوتها عن أبي الزبير فإن المرجع هو أبو الزبير، وقد صرح أنها ليست من الحديث.
ثم إن ابن جريج كان يصبغ بالسواد وهو ممن رووا الحديث عن أبي الزبير. ورد أنه قد رواه جملة من الرواة غير زهير بن معاوية بإثبات «وجنبوه السواد»؛ لكن قيل: إن أبا الزبير تارة يثبت «وجنبوه السواد» وتارة ينفيها، فهذا دليل على أنه لم يكن نسياناً..
لكن قيل: إن الإمام مسلماً أخرجها في صحيحه، وهو أصح كتاب بعد البخاري؛ قيل: لا يلزم من إيراد مسلم له في صحيحه أن يكون قد صحح هذه الزيادة.
أيضاً ورد في صحيح البخاري حديث أبي هريرة: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم»؛ فأمر بالصبغ وأطلق ولم يقيده بشيء.
ثم إن الحسن والحسين وسعد بن أبي وقاص قد صبغوا بالسواد؛ فلو كان حراماً لما فعلوه، وكذلك كانوا في زمان الصحابة - رضي الله عليهم -، فلو كان حراماً لأنكروا عليهم.
2- الدليل الثاني: ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يكون قوم في آخر الزمان يخضبون بهذا السواد. قال حسين: كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة»[7]. لكن أجيب عن هذا بما يلي:
أولاً: ضعف الحديث؛ لأن في إسناده اختلافاً.
ثانياً: أن الوعيد الشديد ليس على الصبغ بالسواد؛ وإنما هو على معصية أخرى لم تذكر؛ ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد»، وقد عَرفتَ وجود طائفة قد خضبوا بالسواد في أول الزمان وبعده من الصحابة والتابعين وغيرهم، فظهر أن الوعيد المذكور ليس على الخضاب بالسواد؛ إذ لو كان الوعيد على الخضاب بالسواد لم يكن لذكر قوله «في آخر الزمان» فائدة؛ فالاستدلال بهذا الحديث على كراهة الخضاب بالسواد ليس بصحيح. قيل: قد يكون فائدة ذكر «آخر الزمان» أنه يكثر فيه وينتشر بخلاف ما وجد في العصر الأول؛ كان الصبغ من آحادهم؛ وهذا تأويل للنص وعلى المسلم أن يبعد عن التأويل.
ثالثاً: أن المراد بالخضب بالسواد في هذا الحديث به لغرض التلبيس والخداع، لا مطلقاً جمعاً بين الأحاديث المختلفة، وهو حرام بالاتفاق.
رابعاً: لقد صبغ جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالسواد.. أيكون الصبغ متوعَّداً عليه بأنه لا يريح برائحة الجنة، ثم هؤلاء يصبغون، ولا ينكر عليهم من قبل الصحابة وهم أكمل الأمة في النصح والعلم والقيام بالواجب ولا يخافون في الله لومة لائم.
ورُدَّ بأن العبرة بالنص لا بفعل الصحابة.
3- الدليل الثالث: ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبغض الشيخ الغربيب»[8]. قال أحمد: الذي يخضب بالسواد. لكن الحديث إسناده ضعيف وضعَّفه أحمد بن حنبل[9].
القول الثاني: وذهب الحنفية[10] وهو المذهب، والمالكية[11]، وقول في مذهب الشافعية[12]، والمشهور من مذهب الحنابلة[13]؛ إلى كراهة الخضاب بالسواد في غير الحرب، وإليك نصوصهم وأدلتهم:
جاء في حاشية ابن عابدين: «... وفصل في المحيط بين الخضاب بالسواد، قال عامة المشايخ أنه مكروه، وبعضهم جوزه، مروي عن أبي يوسف، أما بالحمرة فهو سنة الرجال وسيما المسلمين»[14].
أما المالكية، فقد قال ابن عبد البر في الاستذكار: «وأما قول مالك في الصبغ بالسواد أن غيره من الصبغ أحبُّ إليه، فهو كذلك؛ لأنه قد كره الصبغ بالسواد أهل العلم...»[15].
أما الشافعية، فقد سبق «أن الغزالي والبغوي وآخرين من الأصحاب - كما قال النووي - يرون الكراهة...»[16].
أم الحنابلة، فقد قال ابن قدامة في المغني: «ويكره الخضاب بالسواد. قيل لأبي عبد الله: تكره الخضاب بالسواد؟ قال: أي والله...»[17].. وأدلتهم هي:
1- جمعوا بين النهي عن الخضاب بالسواد وبين فعل الصحابة على أن النهي ليس للتحريم، ولو كان للتحريم لما خضب جمع من السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
2- ذكر ابن القيم ثمانية من الصحابة يصبغون: الحسن، والحسين، وسعد بن أبي وقاص، وعقبة بن عامر، والمغيرة بن شعبة، وجرير بن عبد الله، وعثمان بن عفان، وعمرو بن العاص.
3- قال ابن القيم: وأما الخضاب بالسواد فكرهه جماعة من أهل العلم، وهو الصواب بلا ريب[18] [19]».
4- قال أبو عشانة المعافري: «رأيت عقبة بن عامر يخضب بالسواد، ويقول: نسود أعلاها وتأبى أصولها...». المصنف وسنده صحيح[20].
القول الثالث: وذهب الحنفية في قول[21]، وهو اختيار أبي يوسف ومحمد بن الحسن واختيار جماعة من التابعين؛ إلى أن صبغ اللحية والرأس بالسواد جائز بلا كراهة. جاء في الفتاوى الهندية ما نصه: «اتفق المشايخ - رحمهم الله - أن الخضاب في حق الرجال بالحمرة سنة وأنه من سيماء المسلمين وعلاماتهم، وأما الخاضب بالسواد فمن فعل ذلك من الغزاة ليكون أهيب في عين العدو فهو محمود منه.. اتفق عليه المشايخ، ومن فعل ذلك ليزين نفسه للنساء وليحبب نفسه إليهن، فذلك مكروه وعليه عامة المشايخ، وبعضهم جوز ذلك من غير كراهة، وروي عن أبي يوسف أنه قال: كما يعجبني أن تتزين لي يعجبها أن أتزين لها...»[22]. أما عن أدلتهم:
1- لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نهي في التحريم، والأصل في الأشياء الإباحة. قال يحيى: سمعت مالكاً يقول في صبغ الشعر بالسواد: لم أسمع في ذلك شيئاً معلوماً، وغير ذلك من الصبغ أحبُّ إليَّ، قال: وترك الصبغ كله واسع - إن شاء الله - ليس على الناس فيه ضيق[23]. وإمام بمثل مالك، وهو في المدينة، قد رأى فقهاء التابعين وأخذ منهم؛ يرى أنه لم يسمع في الصبغ بالسواد شيئاً؛ دليل على أن أحاديث النهي في الباب لا تصح؛ أو هو يرى أن رواية «وجنبوه السواد» لم تصح.
2- ما روي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم»[24].
فالحديث يقتضي الأمر بالصبغ ولم يقيد صبغاً دون صبغ؛ فبأيِّ شيء صبغ الرجل فقد امتثل الأمر.
3- ما رواه جابر قال: «أتي بأبي قحافة - أو جاء عام الفتح أو يوم الفتح ورأسه ولحيته مثل الثغام أو الثغامة فأمر أو فأمر به إلى نسائه، قال: غيروا هذا بشيء»[25]. فيصبغ بأي شيء. لكن ردَّ عليه بأنه مطلق بتغيير الشيب مقيد بالأحاديث التي تنهى عن السواد.
4- أن أبا بكر صبغ بالحناء والكتم، والحناء والكتم يعطي لوناً من اللون الأسود؛ وذلك لأن الأسود درجات منه الأسود الداكن، ومنه الأسود الفاتح، وبينهما درجات يسميها بعضهم باللغة المعاصرة البني الغامق، وهو لون من درجات اللون الأسود؛ فلما أذن في الحناء والكتم دل على إذنه بالأسود؛ لكن قد يكون الحناء له نفع للبشرة والشعر فخص بالنص، وهو دليل على جوازه بغير الحناء والكتم مما يعطي لونهما[26].
القول الرابع: وذهب الشافعية في قول بعضهم إلى أن الخضاب بالسواد يحرم على غير المتزوجة؛ وأما المتزوجة فيحرم عليها إذا لم يأذن به الزوج، وإن أذن فوجهان: الأول الجواز، والثاني التحريم. وبهذا يتبين أنه يجوز للمرأة المتزوجة خضب شعرها بالسواد إذا أذن لها زوجها به في وجه، وهو قول إسحاق بن راهويه، حيث رخص للمرأة المتزوجة أن تتزين به لزوجها؛ واستدلوا لذلك بأدلة المجيزين للخضاب بالسواد؛ إلا أنهم خصوها بالمرأة المتزوجة لتتمكن من التزين لزوجها[27].
الترجيح:
بعد عرض أقوال الفقهاء ونصوصهم وأدلتهم؛ يتبين لنا أن الأدلة متعارضة؛ فبعضها يمنع الصبغ بالسواد كحديث أبي قحافة في مسلم؛ وبعضها يجيزه... ومدار المسألة على لفظة «وجنبوه السواد»، فكثير من العلماء ينكر هذه الزيادة... ثم إن هناك أحاديث أجازت الصبغ بالكتم وهو صبغ أسود يسود الشعر.
ومنهم من قال: إن الصبغ بالسواد يحرم إذا كان فيه تدليس؛ كصبغ المرأة الكبيرة بالسواد لتغر به الزوج، وصبغ الشيخ الكبير بالسواد ليغر به المرأة... أيضاً ثبت بأسانيد صحاح أن كثيراً من الصحابة والتابعين ومن بعدهم كانوا يصبغون بالسواد، فلو كان حراماً لما فعلوه.
وبناءً عليه: فإنني أرجحُ كراهية تغيير الشيب بالسواد؛ لفعل الصحابة والتابعين واتفاق كلمة المذاهب الفقهية - في الجملة - على الكراهية؛ قال الإمام أحمد - رحمه الله -: «أكره الخضاب بالسواد؛ عندما سُئلَ: هل تكره الخضاب بالسواد؟ قال إيْ والله»[28].
بل إن ابن القيم ذهب إلى أكثر من ذلك حين قال: «... أما إذا لم يتضمن الخضاب بالسواد تدليساً ولا خداعاً فلا بأس؛ فقد صحَّ عن الحسن والحسين - رضي الله عنهما - أنهما كانا يخضبان بالسواد»[29].. والله أعلم.
:: مجلة البيان العدد 310 جمادى الآخرة 1434هـ، إبريل - مايو 2013م.
[1] جاء في الحاوي الكبير للماوردي، 2/257، ما نصه: «وأما خضاب الشعر فمباح بالحناء والكتم ومحظور بالسواد، إلا أن يكون في جهاد العدو».
[2] المجموع، 1/294.
[3] المرجع السابق.
[4] الحاوي، المرجع السابق، 2/257.
[5] الثغامة: نبات له ثمر أبيض، فالشعر الأبيض يشبه هذا النبات، أو كما قال النووي في شرحه لمسلم: نبت أبيض الزهر والثمر شُبّه بياض الشيب به (شرح النووي على مسلم، طبع بيت الأفكار الدولية، ص 1328).
[6] أخرجه مسلم في كتاب اللباس والزينة، باب نهي الرجل عن التزعفر، حديث رقم 2102.
[7] أخرجه أحمد في مسنده، 1/273.
[8] أخرجه ابن عدي في الكامل، 3/156.
[9] راجع في كل ما سبق: موسوعة أحكام الطهارة، دبيان الدبيان، 3/409 وما بعدها؛ ودراسات فقهية في قضايا طبية معاصرة، مجموعة مؤلفين، 1/382.
[10] حاشية ابن عابدين، 5/481-482.
[11] انظر: مدونة الفقه المالكي وأدلته، د. الصادق الغرياني، 1/94.
[12] المجموع للنووي، 1/294.
[13] المغني لابن قدامة، 1/125، تحقيق د. عبد المحسن التركي ود. عبد الفتاح الحلو.
[14] حاشية ابن عابدين، 5/481-482.
[15] الاستذكار، 27/85.
[16] المجموع، 1/294.
[17] المغني، سبق ذكره؛ وراجع: الإنصاف للمرداوي، 1/123، وفيه: «ويكره بسواد - أي الخضاب - نُص عليه».
[18] تهذيب السنن، 6/104.
[19] موسوعة أحكام الطهارة، دبيان الدبيان، 1/450.
[20] المصنف، 5/184 رقم (25025) نقلاً عن المرجع السابق.
[21] المغني، سبق ذكره؛ وراجع: الإنصاف للمرداوي، 1/123 وفيه: «ويكره بسواد - أي الخضاب - نُص عليه».
[22] الفتاوى الهندية، 5/359.
[23] الموطأ، 2/949.
[24] أخرجه البخاري (3462) ومسلم (2103).
[25] أخرجه مسلم (2102).
[26] موسوعة أحكام الطهارة، 3/459.
[27] انظر: دراسات فقهية في قضايا طبية معاصرة، 1/387.
[28] المغني، 1/127، تحقيق د. عبد الله التركي ود. عبد الفتاح الحلو.
[29] تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، 5/442.