الرحمة.. خط دعوي أصــيل
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسوله محمد النبي الأمين، أما بعد:
فالرحمة قيمة عليا ومعلم أصيل في دين الإسلام، فنجدها في صفات المولى الجليل وأفعاله كما نجدها في صفات الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك نجدها في تشريعات الإسلام كلها وفيما أمر الله به عباده بحيث تكون الرحمة الصفة الأبرز التي تحتوي في داخلها أو تهيمن على بقية الصفات الأخرى، قال الله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54]، وقال تعالى: {ووَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي سبقت غضبي، فهو مكتوب عنده فوق العرش»[1]، وبيَّن تعالى أنه لم يرسل رسوله محمداً إلى الخلق كافة إلا رحمة منه تعالى بالعالمين، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وفي أسمائه الحسنى اسم الرحمن واسم الرحيم.
وقد ندب الله تعالى عباده إلى الرحمة وأن يرحم بعضهم بعضاً ووعدهم على ذلك بالعطايا العظيمة، وحذرهم من فقدان الرحمة من نفوسهم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء»[2]، وقال: «لا تنزع الرحمة إلا من شقي»[3]، وقال: «من لا يرحم الناس لا يرحمه الله»[4]، وقال: «إنه من لا يَرحم لا يُرحم»[5]، وعندما كان إبراهيم بن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، قال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله؟ فقال: «يا ابن عوف إنها رحمة»[6]، وقد فاضت أيضاً عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يعالجه ولد من أولاد إحدى بناته - رضي الله تعالى عنهن - في الاحتضار، فقال له سعد: ما هذا؟ قال: «إنها رحمة، وضعها الله في قلوب من يشاء، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء»[7].
وسعة رحمة رب العالمين لا تتصور حدودها، ولهذا يقول الرسول الكريم: «جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً، وأنزل في الأرض جزءاً واحداً، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق، حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه»[8]، وفي رواية: «إن الله خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، فجعل منها في الأرض رحمة، فبها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة»[9]، وطباق ما بين السماء والأرض أي تملأ ما بين السماء والأرض، فكل ما نراه من مظاهر الرحمة في الأرض بين الخلق، سواء العقلاء أو الحيوان على اتساع العالم كله من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه وعلى مدى الزمن كله؛ لا يتجاوز جزءاً من مائة جزء، فلو علم الناس ما عند الله من الرحمة لطمع في رحمته تعالى كل أحد حتى الكافرين به كما ورد في الحديث: «فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة»[10].
ومن خلال الرحمة المقررة في النصوص السابقة يتبيَّن أن التشريعات كلها رحمة، وإن بدا من ظاهر بعضها عند من لا يعلمون أن فيها ما يعد شديداً أو قاسياً، فإنه ينطلق من الرحمة، إذ لا تستقيم الأمور إلا بذلك، وإن أكثر ما ينظر إليه البعض من غير المسلمين على أن فيه قسوة وشدة الحدود كالقتل للقاتل ورجم أو جلد الزاني وقطع السارق وجلد شارب الخمر؛ لكن هذا النظر نظر أعور؛ لأنه لم ينظر إلا بعين واحدة فرأى جانباً واحداً ولم يبصر الجانب الآخر، فإذا كان قد أبصر الأثر على مَن أقيم عليه الحد لكنه لم يبصر الجانب الآخر وهو أثر الجاني على المجني عليه أو على المجتمع، ولم يبصر الجانب الذي يوفره إقامة الحد للمجتمع من الأمن والأمان والاستقرار وما ينزع من الضغائن والأحقاد بين الناس عندما يشعر كل إنسان أنه قد أُخذ له بحقه فتسكن نفسه ويهدأ باله ويتوجه إلى أعماله ليكون عنصراً فعالاً منتجاً في مجتمعه.
وقد أبان أحد الشعراء أن القسوة لا تراد لذاتها وإنما تراد لما يترتب عليها من الآثار المحمودة، وهو بذلك يعبر عن النظرة الصحيحة لحكمة العقوبة، فقال:
فقسا ليزدجروا ومن يك حازماً
فليقس أحياناً على من يرحم
ومن خلال هذه الرحمة التي تسيطر على التشريعات الإسلامية جميعها، ينبغي أن يتحرك الدعاة بين الناس فيعلون من قيمة الرحمة في تعاملهم مع الآخرين وفي دعوتهم إلى التراحم وفي تغليب الرحمة على الغضب وتغليب التبشير على التنفير وتغليب التيسير على التعسير، ولا تكون الرحمة مجرد شعار يرفع أو مادة للتدريس فقط، بل ينبغي أن تكون مع ذلك سلوكاً أصيلاً في التصرفات مع البعيد والقريب والعدو والصديق، بل إن المسلم الحق ليجهد وينصب ويتحمل المشاق من رحمته بالناس، فما بذل النفس وإنفاق المال في الجهاد والخروج في طلب العلم وتعليمه لمن يجهله ويحتاج إليه؛ إلا أثراً من آثار الرحمة التي تغلف كيان المسلم كله، وقد كان رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم الذي أرسله ربه رحمة للعالمين يدخل الصلاة وهو يريد أن يطيلها فما هو إلا أن يسمع بكاء الطفل حتى يتجوز فيها رحمة بأم الطفل لما يعلم من وجدها عليه كما قال: «إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه»[11]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخل على أحد من النساء إلا على أزواجه، إلا أم سليم، فإنه كان يدخل عليها، فقيل له في ذلك، فقال: «إني أرحمها قتل أخوها معي»[12]، بل إن الرحمة في خلق المسلم قد تجاوزت الإنسان إلى الحيوان فقد قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا رسول الله إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها - أو قال: إني لأرحم الشاة أن أذبحها - فقال: «والشاة إن رحمتها رحمك الله»[13].
ولا تنافي بين الرحمة وبين الشدة والغلظة على المعاندين المحادين لله ورسوله، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْـمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73]، فالجهاد والغلظة عمل بالجوارح وهو ثمرة من ثمار الرحمة، فهو رحمة بهم كي تحملهم الغلظة على التوبة والأوبة إلى الحق كي لا يكونوا من أهل النار، ورحمة بالجماعة كي تكف الغلظة والشدة شر المعاندين المحادين لله ورسوله إن هم استمروا في عنادهم وعتوهم.. نسأل الله تعالى من فضله أن تشملنا رحمته وأن نكون ممن ينطبق عليهم قوله صلى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحمهم الرحمن».
:: مجلة البيان العدد 310 جمادى الآخرة 1434هـ، إبريل - مايو 2013م.
[1] أخرجه البخاري رقم 7554.
[2] أخرجه أحمد رقم 6494.
[3] أخرجه الترمذي رقم 1923 وحسنه الألباني.
[4] أخرجه الترمذي رقم 1922 وقال هذا حديث حسن صحيح وصححه الألباني.
[5] أخرجه الترمذي رقم 1911 وصححه الألباني.
[6] أخرجه البخاري رقم 1303.
[7] أخرجه أبو داود في سننه رقم 3125 وصححه الألباني.
[8] أخرجه البخاري رقم 6000 ومسلم رقم 2572.
[9] أخرجه مسلم رقم 2753.
[10] أخرجه البخاري رقم 6469.
[11] أخرجه البخاري رقم 709 ومسلم رقم 192.
[12] أخرجه البخاري رقم 4844 ومسلم 2455.
[13] أخرجه أحمد برقم 15592.