تَهَادُوا تَحَابُّوا

 

الهدية سنة نبوية، ومَظْهر حب، ومبعث أُنْس، تـُقرِّب البعيد، وتصل المقطوع، وتشق طريق الدعوة إلى النفوس، وتفتح مغاليق القلوب، وتبذر المحبة بين الناس، وقد حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على تشريع كل ما مِن شأنه أن يؤلف القلوب، فالهدية من هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي حض عليها حيث قال: ( تَهَادُوا تَحَابُّوا ) رواه البخاري في الأدب المفرد، ومالك، وصححه الألباني .

وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم ـ يهدي، ويقبل الهدية ـ القليل والكثير ـ، ويثيب عليها، ويرغب فيها، وكان يقول: ( لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ لأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِىَ إِلَىَّ ذِرَاعٌ أو كراع لَقَبِلْتُ ) رواه البخاري، والكراع: مستدق الساق من الغنم والبقر العاري من اللحم .
قال ابن بطال: " حض منه لأمته على المهاداة، والصلة، والتأليف، والتَحابِ، وإنما أخبر أنه لا يحقر شيئاً مما يُهدى إليه أو يدعى إليه، لئلا يمتنع الباعث من المهاداة لاحتقار المُهدى، وإنما أشار بالكُراع إلى المبالغة في قبول القليل من الهدية " .

وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية، ولا يأكل الصدقة ) رواه أبو داود .
قال الحافظ ابن حجر: " والأحاديث في ذلك شهيرة ".
ويقول ابن عبد البر: " رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يأكل الصدقة وكان يأكل الهدية، لما في الهدية من تآلف القلوب، والدعاء إلى المحبة والألفة، وجائز عليها الثواب، فترتفع المِنَّة، ولا يجوز ذلك في الصدقة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية ويثيب عليها خيراً منها، فترتفع المنة " .
وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الهدية من خير العمل عند الله، وأنها تعدل في أجرها عِتق الرقبة، فعن البرآء بن عازب ـ رضي الله عنه ـ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( من منح منيحة ورق (فضة)، أو منيحة لبن، أو هدى زقاقا (دلَّ على الطريق) كان له كعتق رقبة ) رواه أحمد .

هدية الكافر :

من المفاهيم الخاطئة عند البعض أن علاقة المسلم بالكافر هي علاقة عنف وغلظة بإطلاق، وهو خلاف هدي ـ النبي صلى الله عليه وسلم ـ في التعامل مع الكفار، فقد وضع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ آداباً وضوابط تقوم عليها العلاقة مع الكفار، وهي آداب وضوابط مبنية على البر والعدل وعدم الظلم، كما قال الله تعالى : { لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }(الممتحنة : 8 ) .
وإذا كانت الهدية مِفتاحاً من مفاتيح القلوب، فقد أهدى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبل هدية الكافر، فعن النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ قال: ( غزونا مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تبوكَ ، وأَهْدَى ملكُ أَيْلَةَ للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بغلةً بيضاءَ ، وكساهُ بُرْدًا ) رواه البخاري .
وجاء في المغني لابن قدامة: " فصل يجوز قبول هدية الكفار من أهل الحرب لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل هدية المقوقس صاحب مصر " .
وكما قبِل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هدايا بعض المشركين من أهل الكتاب، فإنه رد هدايا غيرهم، حين رأى ما يستوجب ردها، يقول: عِياض بنُ حمار: ( أهديت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ناقة فقال: أسلمتَ ؟!، فقلتُ: لا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إني نُهيت عن زبْد (هدايا وعطايا ) المشركين ) رواه أبو داود.
قال النووي: " قال القاضي : و إنما قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - هدايا كفار أهل الكتاب ممن كان على النصرانية، كالمقوقس وملوك الشام، فلا معارضة بينه وبين قوله - صلى الله عليه وسلم -: ( لا يقبلُ زبد المشركين )، وقد أبيح لنا ذبائح أهل الكتاب ومناكحتهم بخلاف المشركين عبدة الأوثان " . وقال: " قبِل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ممن طمع في إسلامه وتأليفه لمصلحةٍ يرجوها للمسلمين، وكافأ بعضهم، وردَّ هديةَ من لم يطمعْ في إسلامه ولم يكن في قَبولها مصلحة، لأن الهدية توجب المحبة والمودة " .

هدايا منهي عنها :

وهي الهدايا التي نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها لما فيها من التعدي على حقوق الآخرين، أو الإضرار بهم، ومنها هدية بعض الأبناء دون البعض، وإيثارهم بشيء من المال دون إخوانهم، فهذا وإن كان نوعاً من التحبب للمُهْدَى إليه، إلا أنه يوقع بين الأبناء الشحناء، ويورثُ العقوق للآباء، فعن النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ قال: ( إن أباه أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: إني نحلت (أعطيت) ابني هذا غلاما كان لي، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أَكُل ولدك نحلته مثل هذا؟، قال: لا، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: فأرجعه ) رواه البخاري . وفي رواية مسلم : ( أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟، قال: بلى، قال: فلا إذن ) .

ومن الهدايا المنهي عنها:

ما يناله الموظفون من هدايا بعضِ المتعاملين معهم، فحين استعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن الأُتَبيَّة الأزدي على الصدقة، قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: هذا لكم، وهذا أهدي لي. فكره النبي - صلى الله عليه وسلم - مقالته، وقال: ( فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه، فينظر يُهدى له أم لا، والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منه شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيراً له رُغاءٌ، أو بقرةً لها خُوار، أو شاةَ تيعَر، ثم رفع - صلى الله عليه وسلم - بيده حتى رأينا عُفرة إبطيه: اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ ) رواه البخاري .
قال ابن بطال: " يلحق بهدية العامل الهدية لمن له دَيْن ممن عليه الدين، ولكن له أن يحاسب بذلك من دينه، وفيه إبطال كل طريق يتوصل بها من يأخذ المال إلى محاباة المأخوذ منه والانفراد بالمأخوذ ".

ومن الهدايا التي نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنها : هدية من قضى له بعض أموره وحوائجه، ومن شفع بشفاعة أو توسط بأمر من الخير، فمثل هذا من المعروف ينبغي أن يكون قربة وعملاً خالصاً لوجه الله، مجرداً من طمع الدنيا وحظوظ النفس، فعن أبي أمامة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( من شفع لأخيه بشفاعة فأهدى له هدية عليها، فقبلها، فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا ) رواه أبو داود ، ومحل المنع إذا كانت الهدية مقابل الشفاعة .
قال صاحب عون المعبود في شرح سنن أبي داود : " لأن الشفاعة الحسنة مندوب إليها، وقد تكون واجبة، فأخذ الهدية عليها يضيع أجرها، كما أن الربا يضيع الحلال ".
يقول الشيخ الألباني : " وقد يتبادر لبعض الأذهان أن الحديث مخالف لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ( من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تستطيعوا أن تكافئوه، فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه ) رواه أبو داود، فأقول: لا مخالفة، وذلك بأن يُحمل هذا على ما ليس فيه شفاعة، أو على ما ليس بواجب من الحاجة . والله أعلم " .

وأيضاً من الهدايا التي تُرد ولا تقبل الهدايا المحرمة كالخمر، أو الهدايا التي يحرم الانتفاع بها، وقد فعل النبي - صلى الله عليه وسلم ـ ذلك فلم يقبل هدية الصعب بن جَثامة حين كان مُحْرِماً، فقد صاد له الصعب بن جَثامة - رضي الله عنه - حماراً وحشياً، وأهداه إليه، فرده عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما رأى ما في وجهه ( أي من الحزن لرد هديته ) قال - صلى الله عليه وسلم -: ( أما إنا لم نرده عليك إلا أنا حُرُم ) رواه البخاري .
قال ابن حجر: " وأما حديث الصعب فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيَّن العلة في عدم قبوله هديته لكونه كان محرِماً، والمحرم لا يأكل ما صِيد لأجله، واستنبط منه المهلَب ردَّ هدية من كان ماله حراماً أو عُرف بالظلم " .

المكافأة على الهدية :

أرشدنا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مكافأة المُهْدِي، فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية، ويثيب عليها ) رواه البخاري .
وعن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( من سألكم بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن أهدى لكم فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له ) رواه أحمد . 

لا ريب أن الهدية الحسنة هي الهدية التي يدفعها المُهدِي لا ليقابَل بمثلِها، بل يرجو ثوابها من الله فحسب، مثل ما كان يهديه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال: ( كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فاشترى مني بعيراً، فجعل لي ظهره حتى أقدُم المدينة، فلما قدمت أتيته بالبعير، فدفعته إليه، وأمر لي بالثمن، ثم انصرفت، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد لحقني فقلت: قد بدا له (أي غير رأيه )، قال فلما أتيته دفع إلي البعير وقال: هو لك، قال جابر: فمررت برجل من اليهود فأخبرتُه، فجعل يعجب، ويقول: اشترى منك البعير ودفع إليك الثمن ووهبه لك؟!، فقلت: نعم ) رواه أحمد .

الرجوع في الهدية :

نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الرجوع في الهدية، فعن عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( العائد في هبته كالعائد في قيئه ) رواه البخاري ..
والذي يجوز له أن يرجع في هبته الوالد إذا أهدى لولده شيئاً، لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( لا يحل لأحد أن يعطي عطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده ) رواه الترمذي .

الهدية من أعظم الأسباب التي تحبب المؤمنين بعضهم إلى بعض، وهي سببٌ عظيمٌ للتآلف بين القلوب، وشيوع المودة والألفة والترابط بين أفراد المجتمع المسلم

    هدايا الناس بعضهمُ لبعضٍ      تولد في قلوبهـم الوصالا
    وتزرع في الضميرهواًووداً     وتكسوهُ إذا حضروا جمالا

وهي قبل ذلك وبعده شعيرةٌ إسلامية وسنة نبوية، كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( تَهَادُوا تَحَابُّوا ) .

المصدر: اسلام ويب
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 96 مشاهدة
نشرت فى 28 إبريل 2013 بواسطة MuhammadAshadaw

بحث

تسجيل الدخول

مالك المعرفه

MuhammadAshadaw
مكافحة اضرار المخدرات والتدخين ومقالات اسلامية وادبية وتاريخيه وعلمية »

عدد زيارات الموقع

938,369

المخدرات خطر ومواجهة

مازال تعاطي المخدرات والاتجار فيها من المشكلات الكبرى التي تجتاح العالم بصفة عامة والعالم العربي والإسلامي بصفة خاصة وتعتبر مشكلة المخدرات من أخطر المشاكل لما لها من آثار شنيعة على الفرد والأسرة والمجتمع باعتبارها آفة وخطراً يتحمل الجميع مسؤولية مكافحتها والحد من انتشارها ويجب التعاون على الجميع في مواجهتها والتصدي لها وآثارها المدمرة على الإنسانية والمجتمعات ليس على الوضع الأخلاقي والاقتصادي ولا على الأمن الاجتماعي والصحي فحسب بل لتأثيرها المباشر على عقل الإنسان فهي تفسد المزاج والتفكير في الفرد وتحدث فيه الدياثة والتعدي وغير ذلك من الفساد وتصده عن واجباته الدينية وعن ذكر الله والصلاة، وتسلب إرادته وقدراته البدنية والنفسية كعضو صالح في المجتمع فهي داخلة فيما حرم الله ورسوله بل أشد حرمة من الخمر وأخبث شراً من جهة انها تفقد العقل وتفسد الأخلاق والدين وتتلف الأموال وتخل بالأمن وتشيع الفساد وتسحق الكرامة وتقضي على القيم وتزهق جوهر الشرف، ومن الظواهر السلبية لهذا الخطر المحدق أن المتعاطي للمخدرات ينتهي غالباً بالإدمان عليها واذا سلم المدمن من الموت لقاء جرعة زائدة أو تأثير للسموم ونحوها فإن المدمن يعيش ذليلاً بائساً مصاباً بالوهن وشحوب الوجه وضمور الجسم وضعف الاعصاب وفي هذا الصدد تؤكد الفحوص الطبية لملفات المدمنين العلاجية أو المرفقة في قضايا المقبوض عليهم التلازم بين داء فيروس الوباء الكبدي الخطر وغيره من الأمراض والأوبئة الفتاكة بتعاطي المخدرات والادمان عليها.