جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
|
لطائف السَّمر تحت ضوء القمر
|
|
الدكتورة شميسة خلوي
|
بسم الله والحمد لله الذي سخّر لنا الكون وأسبَغ علينا نعمه التي لا تُعدُّ ولا تحصى، وقال في محكم تنزيله: ﴿كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ﴾ [النحل: 81]، سبُحانه له الحمد والشكر في الدنيا والآخرة ملء الأرض والسَّماوات وملء ما بينهُما وملء ما شاء من شيء بعدهما من الكائنات.
لقد أودع الله جمالا في الكون يأسِرُ الألباب ويجذب النفوس ويمتّعها، ويحرِّك كَوامن القُلوب ويحييها، جمالٌ فائق رَائق، يجري وفق نظام دقيق لا يحيد، لا يتقدَّم ولا يتأخَّر.
سِفرٌ مفتوح حافل بكل حُسن بديع، يتلوَّن بتوالي الفُصول وتتابُعها، كل بسِماته الشائقة، انفرد بإبداعه ربُّ السَّماوات والأرض.
جمالٌ اختزلته ضحكات الرياض عن الزَّهر النديّ المتوَّج، وتغاريد الأطيار على أغصان الأيْك التي تُداعب وُريقاتها نسيم الصُّبح، جمالٌ في انسياب مياه الأنهار الدَّافقة والبِحار الزَّاخرة، جمالٌ اختصرَته سحائبُ خير أهدَت غيثا مُغيثا أعرسَت به الأرض مستقبلة زرعا وثمرا.
جمالٌ في الأفق الطَّلق الجميل، بين الكواكب والنجوم، في صُورة الشمس بعد انفلاق الصُّبح نهارا بضوئها الذي يعُمُّ الأفق، ويهدي كلّ غادٍ ورائح، واللَّيل وقد زانَه القمر بضوئه، ترنو إليه عُيون الناظرين، إنها أدلَّةٌ ناطقة على عظمة الخالق وقُدرته.
في ليلة قمراء استوقفني قمرُ السَّماء، فبدأت ذكرياتي معه تتالى أمامي في لحظات، رأيتُه في أوّل الشَّهر هلالاً، ثم تتبّعته كُل ليلةٍ لأراهُ يتكامل ويتنامى وهو يتصدَّر كبد السَّماء، حتى أصبح في هذه اللّحظات بدراً جميلاً بديعاً، فسُبحان من أحسَنَ كُلّ شيء خَلَقه!
وطيلة الوقت كنتُ أردّد قول أبي تمام:
إنّ الهلالَ إذا رأيتَ نُمُوَّهُ *** أَيقنتَ أن سيصيرُ بدراً كاملا
قلّبتُ كتبي، باحثةً عن القمر، فوجدتُه في رِحاب كتاب الله العظيم، وفي كلام نبيّه الكريم، وجدتُه في أساطير الأوَّلين، وعلى ألسنة حُكماء العرب، وفي سُطور الشُّعراء المحبِّين، وحتى في أخبار الحمقى والمغفّلين! فإليكم سجيَّة خاطري، من لطائف ما وجدتُ وبعض ما جمعت، مع الاعتذار عن قصر الباع وقلّة الاطِّلاع. القمر، آية مسخَّرة بأمرِ الله، يحقِّق منافع للناس لا تحصى ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(12)﴾ [النحل: 12]، يجري بحساب مُقَدَّرٍ له، لا يتحوّل ولا يتغيّر ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ(5)﴾ [الرحمن: 05]، فتبارك الله رَبُّ العالمين. قمرٌ منير أقسم ربُّ العِزَّة به إذا تبع الشمس وخَلَفها بسُطوع ضوئه: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2)﴾ [الشمس: (1-2)] قمرٌ قَدَّرَ له مُصرّف الكون منازل وبروجا، بمسيرِه تُعرف الشُّهُور وَالْأَعْوَام: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(5)﴾ [يونس: 05]، وفي قوله أيضا: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ [البقرة: 189]. قمرٌ يسجُد لله تعالى سجود انقياد وخضوع :﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ [الحج: 18]. فسُبحان من لا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء، وسبحان من أبدع الكون فأحكم إبداعه ! توقفتُ عند البيان الإلهي، فوجدتُ قول الحقِّ تبارك وتعالى بلسان عربيٍّ مُبين: وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ(39) [يس: 39]، في هذه الآية الكريمة، يُشبِّه عز وجل هيئة القمر في آخر ليالي الشَّهر بالعُرجون القديم، فالله قدَّر مسيرة القمر في منازل خلال كلِّ شهر، فإذا كان آخر ليلة من منازله دقَّ وانحنى واصفرَّ وتقوَّس وعاد كغصن النَّخل اليابس، فيا له من بيان يسحر الألباب، قُرْآنا عَرَبِيّا غَيْر ذِي عِوَجٍ! همسة: يُسَمَّى القمر لِلَيلتين من أول الشَّهر هِلَالًا، ولِلَلْيلتين من آخره، ليلة سِتٍّ وَعِشْرِينَ وليلة سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، هِلَالًا، ويُسمّى ما بين ذلك قَمَراً. [1] كرَّمك ربُّ العزَّة في قرآن يُتلى إلى يوم الدِّين: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ(1)﴾ [القمر: 1]، وكنتَ من المعجزات التي أيَّد الله بها نبيَّه محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بعد أن طالب كُفار مكة، يقودهم عِنادهم المعتاد، بمعجزة ماديّة تدُلُّ على صِدق نبوَّة حبيبنا المصطفى عليه الصَّلاة والسَّلام، عن عبدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِي اللَّهُ عنه، قال: «انْشَقَّ القَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِقَّتَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اشْهَدُوا»» [2] . موقف: يحكي الدكتور زغلول النجار فيقول: «كنت أحاضِر في جامعة (كارديف) في غرب بريطانيا، وكان الحُضور خليطا من المسلمين وغير المسلمين، وكان الحديث عن آية انشقاق القمر، وبعدما أتممتُ حديثي وقف شابٌّ مسلم بريطاني عرَّف بنفسه وقال: «أنا داوود موسى بيتكوك رئيس الحزب الإسلامي البريطاني»، ثم قال: «يا سيِّدي، هل تسمح لي بإضافة؟» قلتُ له: «تفضَّل» قال: «وأنا أبحثُ عن الأديان -قبل أن يُسلم- أهداني أحد الطلاب المسلمين ترجمة لمعاني القرآن الكريم، فشكرتُه عليها وأخذتها إلى البيت، وحين فتحتُ هذه الترجمة، كانت أوَّل سورة أطَّلع عليها سورة القمر، وقرأت:(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ)، فقلتُ: هل يُعقل هذا الكلام؟ هل يمكن للقمر أن ينشق ثم يلتحم؟ وأيُّ قوَّة تستطيع عمل ذلك؟ فصدَّتني هذه الآية عن مُواصلة القراءة، وانشغلتُ بأمور الحياة. لكن الله تعالى يعلمُ مدى إخلاصي في البحث عن الحقيقة، فتيسّر أن جلستُ يوما أمام التلفاز البريطاني وكان هناك حوارٌ يدور بين معلِّق بريطاني وثلاثة من علماء الفضاء الأمريكيين وكان هذا المذيع يُعاتب هؤلاء العلماء على الإنفاق الشَّديد على رحلات الفضاء، وفي خلال هذا الحوار جاء ذكرُ رحلة إنزال رجلٍ على سطح القمر باعتبار أنها أكثر رحلات الفضاء كلفة فقد كلَّفت أكثر من مائة ألف مليون دولار، فصرخ فيهم المذيع البريطاني وقال: أيّ سَفَهٍ هذا؟ مائة ألف مليون دولار لكي تضعوا العلم الأمريكي على سطح القمر؟ فقالوا: لا، لم يكن الهدف وضع العلم الأمريكي فوق سطح القمر كنا ندرسُ التركيب الداخلي للقمر، فوجدنا حقيقةً لو أنفقنا أضعاف هذا المال لإقناع الناس بها ما صدَّقنا أحد، فقال لهم: ما هذه الحقيقة ؟ قالوا: هذا القمر انشقَّ في يومٍ من الأيَّام ثم التحم، فقال لهم: كيف عرفتم ذلك ؟ قالوا: وجدنا حِزاما من الصُّخور المتحولة يقطع القمر من سطحه إلى جوفه إلى سطحه، فاستشرنا عُلماء الأرض وعلماء الجيولوجيا، فقالوا لا يمكن أن يكون هذا قد حدث إلا إذا كان هذا القمر قد انشق ثم التحم، فقفزتُ من الكرسي الذي أجلسُ عليه وقلت: معجزة تحدُث لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل ألف وأربعمائة سنة، يُسخر الله تعالى الأمريكان لإنفاق أكثر من مائة ألف مليون دولار لإثباتها للمُسلمين؟ لا بدَّ أن يكون هذا الدين حقًّا، يقول: فعُدتُ إلى المصحف، وتلوتُ سورة القمر، وكانت مدخلي لقبول الإسلام دينا» [3]. وتُذكّرنا يا قمر في طلَّتكَ بوجوه شبَّبهَها نبيُّنا الكريم بكَ، فزاد من شوقنا ولهفتنا إلى جنَّات عرضُها السَّموات والأرض، يذكر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوصاف زمرة ممن يدخلون الجنة فيقول: «يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي زُمْرَةٌ هُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا، تُضِيءُ وُجُوهُهُمْ إِضَاءَةَ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ» [4] إنه تصوير بديع لمن منَّ الله عليهم بدُخول الجِنان، وصورة كل واحد منهم كصورة القمر حين يكتمل، فطوبى لمن فاز بنعيم الجنَّة ولذَّاتها، أعدّها الرَّحمن لعباده المؤمنين نُزلا. معلومة: هل تعلم أن القمر ليس جِسما مُضيئا بذاته كالشَّمس أو النجوم ولكنَّه يعكسُ الضَّوء السَّاقط عليه من الشَّمس؟ وأقبل الشُّعراء يصفُونَك في مختلف أطوارِكَ بأسلوب سَلس جميل، يُطرب السَّمع، ومن بديع وصف الشُّعراء لكَ، قول أبي الفرج الوأواء:
والبدرُ أوَّل ما بدا متلثِّماً *** يبدي الضياءَ لنا بخدٍّ مُسْفِرِ فكأنما هو خوذةٌ من فضةٍ *** قد رُكِّبَتْ في هامةٍ مِنْ عنبرِ
ووصفَ ابن المعتز شكلك هِلالا، فقال:
وكأنَّ الهلالَ طوقُ عروسٍ *** بات يجلى على غلائلَ سود
ويقول الصلاح الصَّفدي في معنى بديع شائق:
كأنما الأغْصانُ في دَوحِها *** يلُوح لي منها سنا البدرِ تِرْسٌ من التِّبْرِ غدا لامعاً *** يقِيسُه أسْوَدُ بالشِّبْرِ
لفتة: تسمِّي العرب أول ليلة من الشَّهر ليلة البراء لتبرئ القمر من الشَّمس، ويسمُّونها النحيرة، لأن الهلال نحرَها، أي: رُؤِيَ في نحرها وأوَّلها[5]. وهذه الخنساء التي بكت شقيقها صخرا ولهجت بذكره وخلّدت ذكراه بمراثيها، مُشِيدة بمناقبه وفضائله، تستذكره تحت مظلَّة الفائت فتقول بكلمات مُرهفة الحسِّ شديدة الوقع مشبِّهة فقيدها بكَ:
كُنّا كَأَنجُمِ لَيلٍ وَسطَها قَمَرُ *** يَجلو الدُجى فَهَوى مِن بَينِنا القَمَرُ
وما أحسنَ قولها أيضا:
أَغَرُّ أَزهَرُ مِثلُ البَدرِ صورَتُهُ *** صافٍ عَتيقٌ فَما في وَجهِهِ نَدَبُ
شذرة لغوية: تَدَخْدَخَ اللَّيْلُ، إِذا لَمْ يَكُنْ فِيهِ قَمَرٌ، وستر الغَيْمُ ضَوْءَ النُّجُومِ فيه. [6] وهناك من آثر أن تكونَ مُلهمَه ليرسم صورة الإنسان وهو يمر بهذه الدنيا، من نشأته إلى شبابه فشيخوخته، من القُوَّة والشِدَّة إلى الضُّعف والوهن، ﴿ وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ(68)﴾ [يس: 68]، كالهلال تماما يظهر ليؤدي مهمَّته ثم يتراجع ويتوارى عن الأنظار إذا انقضَت مدّته، ولسانُ حاله يقول: منتهى الكمال مبدئه النقصان! يقول لبيد بن ربيعة:
وما المرءُ إلا كَالهِلال وضَوئه *** يُوافي تمامَ الشَّهر ثم يغيبُ
وكم يرتاح الفؤاد للُطف صنعة أبي العتاهية وهو يقول:
المرءُ مِثْلُ هلالٍ حين تُبصرهُ *** يبدو ضئيلاً ضعيفاً ثم يَتَّسِقُ يَزدادُ حتّى إذا ما تَمَّ أعْقَبه *** كَرُّ الجديدين نقصاً ثم يَنْمَحِقُ
همسة: ما حال صحائفنا ونحن لا محالة راحلون؟ وهل فقِهنا أن اليوم عملٌ ولا حساب، وغدا حسابٌ ولا عمل! ولأنَّك تظهر بكلِّ موضع وتُرى بكل مكان، فقد كنتَ مَعينا للمادحين في تشبيهاتهم أيضا، فهذا المتنبي يقول مادحا ببديع بيانه المعتاد:
هَذا الَّذي أَبصَرتُ مِنهُ حاضِراً *** مِثلُ الَّذي أَبصَرتُ مِنهُ غائِبا كالبدرِ من حيثُ التَفَتَّ رَأَيتَه *** يُهدَي إلى عينيك نوراً ثاقبَا
معلومة: هل تعلم أن القمر يبعدُ عن الأرض بنحو 239000 ميلا؟ وهل تعلم أن متوسط طول الشَّهر القمري هو 29 يوما و12 ساعة و44 دقيقة و2.87 ثانية، مختلفا طوله على مرّ الشهور؟ [7] كنتَ يا قمر اللَّيل، إله عرب الجنوب وسُميَّت بأسمائهم وكذلك كنت عند عرب الشمال وكلب بدومة الجُندل وبنو عبد ودّ بنو عامر، ومن أسمائك المَقة وودّ[8]، وهو الذي يشير إليه الأعشى مادحا الأسود بن المنذر اللَّخمي في قوله:
أَريَحِيٌّ صَلتٌ يَظَلُّ لَهُ القَو ** مُ رُكوداً قِيامَهُم لِلهِلالِ
دعاء: الحمدُ لله على نِعمة الإسلام، الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ. وعندما تمر عبر ظلِّ الأرض ينقطعُ عنك ضوءُ الشَّمس ويحدث الخُسوف، هذه الظاهرة التي ارتبطتَ عند الجاهليين بالموت وفقد العزيز من عليِّة القوم، ويكأنَّك تُخسف لموت بشر أو تُحجب لرحيل راحل غيّبه الثرى! في إشارة لمثل هذا الموقف، يقول أوْس بن حجر وهو يرثي صاحبه فضالة:
أَلَم تُكسَفِ الشَمسُ وَالبَدرُ وَالـ *** كَواكِبُ لِلجَبَلِ الواجِبِ لِفَقدِ فضالَةَ لا تَستَوي الـ *** فُقودُ وَلا خَلَّةُ الذاهِبِ
فيالها من خزعبلات وخُرافات حيكت حولكَ! ونَسجت جهلا، مزّقه نور الإسلام وأبانه كلام ربّ الأرباب، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. تذكير: قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ لاَ يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا، فَصَلُّوا، وَادْعُوا حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِكُمْ» [9] يا قمرا مُطلًّا تغنى بجمالك الشعراء، وتفنّن بوصفك العُشَّاق، أنتَ للعاشق المحزون سلوة وللمُشتاق الولهان جلوة، وأجاد الرافعي في حديثه إليكَ حين قال: «بل أنا لا أحسب عاشِقًا من لا يُناجيك ومن لا يأتي بدُموعه وأحزانه وهواجسه وآلامه فينطرح في هذه اللُّجة التي ترسلُها من شعاعك...».[10] شاهد المحبُّ حبيبته في طلْعتك مع تفاصيل ضِيائك وجمالكَ، فخلا إليكَ يُسامركَ بين خيوط الظَّلام، فكثيرا ما شُبِّهت المحبوبة في حُسنها بكَ، بل أسرفَ الشُّعراء في ذلك وتفنَّنوا في إبراز الشَّبه. يُشبه الشاعر ابن غلبون الصوري نساء بالبدور والأهلَّة، بطريقة حسنة لطيفة الصَّنعة، فيقول:
سَفَرنَ بدوراً وانتَقَبنَ أهلَّةً *** ومسنَ غُصوناً والتفَتنَ جآذِرا
وماذا لو أصبح القمر قمرين والحُسن حُسنين في تجربة شِعريّة شُعوريَّة! يقول المتنبي:
وَاِستَقبَلَت قَمَرَ السَماءِ بِوَجهِها *** فَأَرَتنِيَ القَمَرَينِ في وَقتٍ مَعا رُدّي الوِصالَ سَقى طُلولَكِ عارِضٌ *** لَو كانَ وَصلُكِ مِثلَهُ ما أَقشَعا
وحين يُصبح اللِّقاء تسْويفا، يستنجد الشاعر بكَ أيضا، ليَبُثَّك شوقه أقصاه وأدناه، ويُناجيك في ليل الهوى علّك تُخبر المحبوبة بما فعل الوَجْدُ! فيعلِّق الشاعر المحبُّ ذكرى محبوبته بالقمر وكلَّما جال ناظره في السَّماء تذكَّر وتألم، ردَّد المعري:
مَعَ القَمَرِ الساري تَعَلَّقَ وُدُّها *** فَما بَذَلَت لِلخِلِّ إِلّا قِمارَها وَخَيرُ النِساءِ الحامِياتُ نُفوسَها *** مِنَ العارِ قَبلَ الخَيلِ تَحمي ذِمارَها
وجرت دموع العشاق ونطقت أبياتا لتُسجّل لوعة الفراق وتَصفُ صدرا مليئا بالحنين لريعان العُمر المختزَل في لقاء إلْف أو موافاة حبيبٍ، يقول متيّم ولاّدة رابطا نظره إليكَ بتداعي الذكريات:
ما جالَ بَعدَكِ لَحظي في سَنا القَمَرِ *** إِلّا ذَكَرتُكِ ذِكرَ العَينِ بِالأَثَرِ
همسة: سُبحان من عدَّد حال اليقظى في عتمة الليل وسُكونه! سُبحان من جعل سعادة المؤمن حين يخلو بربه، إذا ما جنَّ الليل وأقبلت نسائم السَّحر تداعب السُّكون، وتُسطِّر حُروفا من نور على درب دأب الصالحين، تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ لا رغبة في عبد بل إرضاء لربّ العباد! وما أقساهُ من ليل في درْب تائه أحاله العِشق لدُمية يحرِّكها الهوى ويقذفُ بها في بحار الشَّوق اللامتناهية! نسأل الله الاستعاذة من داء العشق. ولم تُستثن يا أيُّها القمر المُطلُّ من وصف الحُسن والجمال نثرا، جاء في لباب الأدب في ما وُصف من محاسنِ الجواري: «هي روضةُ الحُسْنِ، وصورةُ الشمس، وبَحْرُ الأرضِ، كأنّها فلقةُ قَمَرٍ، على بُرجِ فِضةٍ» [11]. فائدة: كان للزبرقان بن بدر ثلاثة أسماء: القَمر، والزِّبرقان، والحصين [12] واستترتَ خلفَ كلمات الملغزين، أنشد اليازجيّ ملغزاً في القمر بين أسطر المقامة اللُّغزيّة على لسان سُهيل بن عباد:
ومَوْلُودٌ بِدُونِ أبٍ وأمّ *** بِلا قُوتٍ يعيشُ ولا يموت له وجهٌ وليسَ له لسانٌ *** فيخبرنا ويلزمه السُّكوت [13]
طرفة: من ضمن ما ذكر في أخبار من ضُرب المثل بحمقه وتغفيله: أن أحدا سمع قائلاً يقول ما أحسن القمر! فقال: إي والله خاصّة في الليل! [14] ولكَ في أمثال العرب حظٌّ[15]، فيُضرب بكَ المثل في اغتنام الفُرْصة، فيُقال: «سِرْ وَقَمرٌ لَكَ»، أي اغتنم العمَلَ ما دام القمر لكَ طالعا، ويُقال: «إنَّ الَّليْلَ طَوِيلٌ وَأنْتَ مُقْمِر»، ويُضرب عند الأمر بالصَّبر والتأنيّ في طلب الحاجة، ويُقال أيضا: «هَلْ يَخْفَى عَلَى النَّاسِ القَمَرُ»؟ ويُضرب للأمر المشهور، قَالَ ذو الرمة:
وقَدْ بَهَرْتَ فَمَا تَخْفَى عَلَى أحَدٍ *** إلاَ عَلَى أحدٍ لاَ يَعْرِفُ القَمَرَا
فائدة: ليلة البُهْرِ هي الليلة التي يَغلبُ فيها ضوءُ القمر النجومَ، وَالثَّلَاثُ البُهْرُ هي: اللَّيْلَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّامِنَةُ وَالتَّاسِعَةُ. [16] وكنتَ موطن مدح وإعجاب، وعند آخرين محلَّ سُخرية وذمٍّ أيضا، يُروى أن أعرابياً نامَ عن جملِه، ثم انتبَه ففقدَه، فلمَّا طلع البدر وجَده، فرفع يديه وقال: أشهد أنَّك أعليْته، وجعلتَ السَّماء بيته، ثم نظر إلى القمر فقال: الله تعالى صورَّك ونوَّرك، وعلى البُروج دوَّرك، إذا شاء نوَّرك، وإذا شاء كوَّرك، ولا أعلمُ مزيداً أسألُه لكَ، ولئن أهديتَ إلي سُروراً، فلقد أهدى الله إليك نُوراً. [17] ولم تسْلم يا قمر من الهِجاء، هجا بعضُهم القمر فقال: «يهدِم العمر ويوجبُ أجرة المنزل ويشجب الألوان، ويقرض الكتَّان، ويضل السَّاري ويُعين السَّارق ويفضح العاشق». [18] وكان العرب يقولون عند رؤية الهلال: «لا مرحبا باللجين مقرّب أجل ومحل». [19] تذكير: كَانَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَأَى الهِلَالَ قَالَ: «اللَّهُمَّ أَهْلِلْهُ عَلَيْنَا بِاليُمْنِ وَالإِيمَانِ وَالسَّلَامَةِ وَالإِسْلَامِ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ» .[20] ولكَ يا قمر مع التراث الشعبي قصّة تُروى، فلا زلتَ تُذكر حين يُستحضر المخزون التراثي باللَّهجة العاميّة، عاكسا بيئة ونمط تفكير الأفراد والجماعات، فكنت مَلمَحا لجمال المرأة وحُسنها وتألُّقها، فقِيل: «تقول للقمر قُوم أنا أقعد مَطْرحك» (مثل مصري ولبناني). وشُبِّهَت بكَ مكانة كل غال عزيز جميل بين وُشاة وحُسَّاد وعُذول، فقيل: «إذا حَبَّك القمر في كمالو، وَاشْ عندك في النجوم إذا مالوا» (مثل جزائري). وضُرب بكَ المثل في الحُصول على منتهى الشَّيء إذا كان لا بُدَّ من التَّعب من أجل الحُصول عليه، فقيل: «إذا عشِقت اعشق قمر وإذا ركبت اركب جمل» (مثل مصري). وتُذكر بذكر أهميَّة حُضور الزَّوج بجنب زوجته وقُدرتها على فعل ما لا تستطيع فعله في غيابه، فيُقال: «يَلِّي زوجها معها بتطال القمر بأصبعها» (مثل لبناني)، وقد يُعمَّم على الشخص الأهم في حياتنا، فيُقال: «طول ما القمر معي بعدّ النجوم بإصبعي» (مثل سوري). وقفة: هل فكَّرت يوما أن تُنزل القمر من عليائه؟! يحكى أن قيس بن عاصم شرب ذات ليلة خمرة، فجعل يتناول القمر ويقول والله لا أبرح حتى أنزله، ثم يثب الوثبة بعد الوثبة ويقعُ على وجهه ! فلما أصبح وأفاق قال: مالي هكذا؟ فأخبروه بالقصَّة، فقال: والله لا أشرب الخمرة أبدا... [21] لم أنتبه يا قمر لمرور السُويعات وأنا أقلِّب أوراقي باحثة عنك، عُذرا فالوقت أعجلني وما وفيتك حقَّك مِعشارا، فلقد بات الفجر قريبا وحال بيني وبين تتمَّة الكلام، كما يحجب البدر الغمام... ! وانجلى دُجى الليل مع تباشير غُرَّة الصَّباح، وتعالى النّداء: حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، وبدأت خُيوط الشَّمس الذهبية تُزيح ما تبقَّى من نورِ القمر، وبعد لحظات، ازداد بريقُ الشمس عُلوّا، فاكتحلت العين بروعة الشُّروق وعنّ لي أن أروي حكاية جديدة، يكون فيها المشهد بتفاصيل مُشرقة، عنوانها: وتسلّل دِفْئُ الشَّمْسِ إلى رُوحِي! ------------------ [1] لسان العرب، مادة(قمر). [2] متفق عليه: صحيح البخاري، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة ط1، 1422هـ، 4/206 وصحيح مسلم، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، 4/2158. [3]الموقع الرسمي للدكتور زغلول النجار، في موضوع معنون بـ:( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ): هل فيها إعجاز قرآني علمي؟-بتصرف-. [4]صحيح البخاري،8/113، صحيح مسلم، 1/197. [5]أبو بكر بن يحيى الصولي، أدب الكاتب، نسخه وعني بتصحيحه وتعليق حواشيه محمد بهجة الأثري، المكتبة السليفية، القاهرة، مصر، 1341هـ، 184. [6]لسان العرب، مادة(قمر). [7]عبد الحميد محمود سماحة، مقدمة في علم الفلك، ط1، مطبعة دار الشرق، القاهرة، 83 و79 و82، على التوالي. [8] محمد عجينة، موسوعة أساطير العرب عن الجاهلية ودلالاتها، دار الفارابي، بيروت، لبنان، ط1، 1994، 195-196. [9] صحيح البخاري، 2/33. [10] مصطفى صادق الرافعي، حديث القمر، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، 99. [11] أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي، تحقيق: أحمد حسن لبج، لباب الآداب، دار الكتب العلمية، ط1، بيروت، لبنان، 1417 هـ - 1997 م، 90. [12] الجاحظ، البيان والتبيين، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1423 هـ، 1 / 251. [13]ناصيف اليازجي، مجمع البحرين لليازجي، المطبعة الأدبية، بيروت، الطبعة: 4، 1302 هـ / 1885 م، 204. [14] أبو الفرج الجوزي، أخبار الحمقى والمغفلين، شرحه: عبد الأمير مهنا دار الفكر اللبناني، ط1، 1410 هـ - 1990 م، 49. [15] ينظر: الميداني، مجمع الأمثال، تحقيق: محمد محيى الدين عبد الحميد، دار المعرفة - بيروت، لبنان، 1/335،و1/30،و2/404 على التوالي. [16]لسان العرب، مادة(قمر) [17] أبو منصور الثعالبي، من غاب عنه المطرب، المطبعة الأدبية، بيروت، 1309 هـ، 60-61. [18] الأبشيهي، المستطرف في كل فن مستظرف، ط1، عالم الكتب، بيروت، 1419 هـ، 253. [19] ضياء الدين بن الأثير، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، تحقيق: أحمد الحوفي، بدوي طبانة، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2/78. [20]الترمذي، سنن الترمذي، تحقيق وتعليق: أحمد محمد شاكر وإبراهيم عطوة عوض المدرس في الأزهر الشريف، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، ط2 ،1395 هـ، 1975م، 5/504 (صحّحه الشيخ الألباني). [21] الأبشيهي، المستطرف في كل فن مستظرف، 467.
|
المصدر: صيد الفوائد