جيل اليوم يعمل بإمكانات أكبر وجهد أقل و«طريقه زحمة»
حياة الموظفين قديماً.. من «آلة كاتبة» إلى «حكومة إلكترونية»!
«الكشخة» للدوام بالمشلح لم ينقص منها المشي «حافياً»
ما زال الأبناء يحفظون حق آبائهم وربما أجدادهم الذين تبوأوا مسؤوليات ومناصب حكومية وأهلية ساهمت في بناء الدولة وتشييد البُنى التحتية للوطن، لا سيما وهم يدركون مدى المشاق والجهود التي بذلوها من أجل غدٍ أفضل لأجيالهم القادمة، لِمَ لا؟ وقد عايش ذلك الجيل عصر البدايات والتشييد وهو الذي عُرف بأمانته الوظيفية وجديته بالعمل، ناهيك عن تميزه ببلاغة الكتابة والتحرير ودقته في شرح الخطابات وإعداد التقارير، وحصانته العلمية وقدراته العلمية، يضاف إلى هذا جودة خطوطهم وجمال تعابيرهم وشروحاتهم، وهم يستيقظون لصلاة الفجر فيملأون الأزقة والشوارع مع بداية الشروق، حيث يسعى معظمهم لتأمين وجبة الإفطار لأبنائه من أقرب مخبز وفوال، وحينها تجد الناس طوابير أمام هذه المحال التي يحملون لها "فوطة" و"علاقية"، كما يسعون حين خروجهم من أعمالهم لشراء "الشريك" والخبز من مخابز "العرفج" و"العجاجي"، ويتزاحمون أمام ثلاجات "لبن المشيقح"، ويصطحبون ما جاد لهم به المدير من صحف ومجلات.
موظفون يقفون بسيارتهم أمام المحكمة القديمة - تمت إزالتها - وسط الرياض
الطريق إلى العمل
كان الطريق إلى مقر الوظيفة لا يتجاوز خمس إلى عشر كيلو مترات، وإن يكن أقل من ذلك بكثير، فقد كانت الرياض صغيرة ولم يبدأ حينها البنك العقاري بتوزيع القروض على المواطنين، وكانت معظم الدوائر الحكومية والوزارات وحتى المؤسسات والشركات والفنادق تقبع في شارعي المطار القديم "مطار الملك عبدالعزيز"، وشارعي البطحاء والخزان وما جاورهما، حدث ذلك بعد انتقال الوزارات من مدينة جدة إلى العاصمة الرياض أواخر سبعينيات القرن الهجري المنصرم، وللحقيقة فلم يكن حينها زحام ولا تكدس أمام الإشارات والميادين، بل قد تجد عسكري المرور في بعض الميادين ينتظر سيارة تمر بالطريق أو الدوار المُكلف بمتابعته، وليس ذلك إلاّ استئناساً بها وإحساساً بعزيمة العمل، وربما كان السبب في ذلك قلّة المركبات، بل وقلّة السكان حينها، إلاّ أن هذا لا ينفي وجود دبابات ودراجات هوائية كان الموظف يقتنيها وينهي من خلالها مشاوير العمل والمنزل في مجتمع لا يستنكف ركوبها ولا يعيب اقتناءها، وعليه فكثيراً ما تقابلك أسراب الدبابات والدراجات الهوائية غدواً ورواحاً نحو مقار الأعمال، ولطالما استطاب كبار المسؤولين منظر هذه الدبابات والدراجات الهوائية وهي مصطفة أمام هذه الدائرة أو تلك، وليس ذلك لالتزامها وتنظيمها بمرآب الدائرة، بقدر ما هي فرحة بانضباط الموظفين وتكامل حضورهم للدوام، كما أن ثمة عدد كبير من موظفي ذلك الزمان الذين وجدوا في ما وهبهم الله من الصحة معيناً لهم على السير إلى مقر العمل راجلة؛ يقطعون من خلالها الشوارع والأزقة في الصباح الباكر وسط زمهرير "يناير"، ولا بأس لديهم من العودة إلى منازلهم وسط لهيب قيظ شهر "آب اللهاب".
الموظف الحكومي يحظى بتقدير اهل الحارة
التأخر عن "الدوام"
كان الإحساس بالتأخر عن وقت الدوام يضطر أحدهم إلى الاستعانة بسيارة الأجرة التي كانت تنتشر في ذلك الوقت؛ يقف خلف مقودها رجل يزهو في الصباح الباكر بابتسامة مشرقة مع "سن الذهب" الذي يزين ثناياه، ويدير سيارة الأجرة "الفولفو" نحو كل من يؤشر أو يرفع يده حتى ولو كان يعبث بغترته أو شماغه، وعليه كان على هذا الموظف الذي استعجل الحضور إلى العمل أن يركب مع من يجدهم في قمرة السيارة بربع ريال، أو إن أراد مشواراً خاصاً أن يقول لصاحب الأجرة كلمة واحدة لا يزيد فيها ولا ينقص عن قوله "طلب" يرد عليه صاحب الأجرة بقوله "بريالين" وحينها يستقل الموظف سيارة الأجرة، وفي الصباح لا وقت معه للحديث مع السائق على غير العادة أثناء الخروج من الدوام، حيث تزيد الحميمية وتزدان "السوالف".
الدوام بـ»سيكل» ضروري لمن يبعد منزله عن مقر عمله عدة كيلوات
مكتب المدير
لا يخلو مكتب المدير العام في ذلك الزمان من "تقويم أم القرى" و"التقويم القطري"، كما لا يخلو من أدوات المكتب التقليدية كالخرامة والدباسة وسلّة الصادر والوارد ومخزن "الدبابيس"، كما كان للقلم الرصاص تواجد ملحوظ حينها لا يزاحمه إلاّ قلم الحبر والمحبرة الذي كان ضرورة من ضرورات الوظيفة ولَزمة من لزمات العمل المكتبي، ناهيك عن المسطرة والآلة الكاتبة من نوع "أولومبيا" في مكتب السكرتير أو الناسخ الذي لا يغيب عن مكتبه لزمة انقرضت في زمننا هذا أو تكاد، حيث يقبع بين أكوام المعاملات والأضابير ورق "الكربون" بلونيه الأزرق -وهو الأشهر والأكثر- أو الرمادي حيث تُنسخ الخطابات مُكررة عبر هذا "الكربون" الذي اختزل ما نسميه الآن "عدد النسخ"، كما تزدان غرفة مكتب المدير العام بصورة لخارطة المملكة والعالم العربي، فقد يتوشح سطح مكتبه الخشبي شريحة من الزجاج تستقر على قطيفة من المخمل الأخضر يضع المدير بينها جدول أعماله أمام ناظريه، وربما وضع صورته التي التقطها له مصور "يماني" حاذق يقبع محله في شارع الخزان، وعليه فقد كانت صورة مكتب المدير العام لا تخلو بأي حال من الأحوال من الهاتف الأخضر وربما الأحمر من نوع "أبو قرص"، وإن علت به الرتب أكثر فقد يضطر إلى أن يترك مساحة للمذياع "الراديو" الذي لن يسمع فيه لإذاعة "طامي" أو "صوت العرب" بقدر ما يجعله يتقدم سطح مكتبه، وإن كان يستقبل مراجعين بكثرة، وضع عبارات تتضمن أحاديث وحكم وأشعار تحث على الصبر والأمانة والإحساس بالمسؤولية مثل "الصبر مفتاح الفرج" أو "الحلم سيد الأخلاق" أو "من ترك معاملته تُرك"، وتقبع بجوارها لوحة باسم صاحب المكتب، أما إن كان مديراً لمدرسة فحينها سوف يكون لمجسم الكرة الأرضية مكان واسع يأنس بها المراجع ويفاخر بها المدير.
«الغترة البيضاء» و«النص كم» كانت موضة «الزكرتية» حتى في دورات العمل
لباس الموظفين
كانت أزياء الموظفين كما هي الآن، إلاّ أن ظروف الزمان والتغيّر الاجتماعي كفيلة بتجديد وتلطيف ما لم يتغيّر، فقد كانت الغترة البيضاء "وارد العطار" قبل خمسين عاماً لباس السواد الأعظم من المواطنين، بل قد لا تجد من يلبس الغترة الحمراء في الدائرة الحكومية إلاّ فيما ندر، هذا قبل ارتداء "الشماغ الأحمر" في التسعينيات الهجرية لا سيما "شماغ العقل" و"شماغ البسام" وقبلها "وارد نصر".
كان الموظف وغيره يزهو بثوب "الدوبلين" و"أبو غزالين" و"التترو"، كما كانت "الكبكات" علامة من علامات الترف لا يوازيها إلاّ لبس طاقية الجنيهات لأبناء "الكبارية" الذين يلبسون الدقلة وتخلو ثيابهم من "كتفة الأكمام" التي لا تخلو منها ثياب وملابس أبناء ذلك الجيل الذي عرف "نظارة البشاوري" بسماكة إطارها وثقل حجمها وعدستها الخضراء "ريبان" أو العسلية، وعقال ال"تك" الذي كان من لباس "الكباريَّة" أو "الزكرت" في حين كان لباس ال"الكوت" بنفس لون الثوب علامة من علامات الأناقة وحُسن الهندام، لا سيما "كوت الكاروهات" ذو التطريز المربع الذي لا يعني بأي حال من الأحوال أنه وارد ماركة "بيري بري"، لا سيما إذا ازدان بأربعة أو خمسة أقلام في جيبه العلوي والتي ترمز حينها على الثقافة وعلو الكعب في الدراسة وطلب العلم، وكان لها مع الحبر المنساب حكاية، ومع القلم السائل حكايات ومآسٍ، وكان المدير العام حينها يضع مشجباً للمشلح خلف مكتبه، وإن كان في إحدي القرى أو المحافظات الصغيرة سوف يكتفي بتعليق مشلحة بمسمار صلب في عرض الحائط القابع خلف مكتبه، كما كان للأستاذ "سراج بكر" مدير المالية زي وهندام لا يختلف كثيراً عن زي وهندام المدير العام "أبو عبدالعزيز"، إلاّ أن الأزرّة الملونة وثوب القيطان والغترة البيضاء المشجرة تميزه عن بعض زملائه الذين يجدون في بعض وقتهم فسحة من خلو المكتب من المراجعين ليتبادلوا فيها أشعار "الهزاني" و"ابن لعبون" ويهيجنوا بقصائد "القاضي" و"ابن ريفه"، كما يجدون متعة في الحديث عن الزواج والتعدد وطرق الأسفار والمكاشيت.
«الحكومة الإلكترونية» و«الخدمة الذاتية» اختصرت كثيراً من المسافات لأبناء جيل اليوم
مراسل الإدارة
كان ل"أبوعلي" -فرّاش الإدارة- و"أبو صالح" -مراسل المدير- دور كبير في تخفيف أعباء العمل وضغط المراجعين، كما كان من ضروريات العمل عند أبناء ذلك الجيل، لا سيما المسؤولين ومدراء العموم وجود وحضور الدلة "المهيّلة" مع الصباح وبعد صلاة الظهر، وكان ل"أبوعلي" وهو يحمل الدلة "البغدادية" وإبريق "الفخار" منظراً جميلاًً إذ لا توجد آنذاك عمالة شرقية أو غربية؛ إنما يكثر الموظفين العرب بين إخوانهم المواطنين ولا بأس حينها أن تشاهد مكتب "راشد" و"مانع" و"عايض" بجوار مكتب "دسوقي" و"شكري" و"بسطويسي" على أن المزاح وتقليب "الكلام" لا يظهر جلياً إلاّ حين دخول "أبو صالح" إلى غرفة المكتب؛ الذي من خلاله يستطيع أن يتحدث بحرية تامة عن مغامراته مع الزواج والسفر ومعاركه بصحبة الملك المؤسس، وكان الجميع ينصت له ويصغي لحديثه لا سيما إن هو أحضر أكواب "الغجر" -الكركدية-، أو الشاي بالحبق، والنعناع المدني، وحينها يُترك العنان ل"أبو صالح" وطرائفه الشعرية ونوادره القصصية التي لا تقطعها قهقهة موظف الصادر "سعيد"، أو موظف مراقبة المخزون المحاسب "تاج السر" الذي كان يبادل أبو صالح الشعر العامي بالشعر الفصيح؛ ولأنه لم يكن ثمة مصاعد كهربائية فقد يقفز "أبو صالح" مع دوي جرس المدير الذي ينبه إلى موعد نقل المعاملات إلى الصادر العام، كما يؤشر إلى موعد "الدلة" و"القدوع".
موظفون بانتظار «سيارة أجرة» تنقلهم إلى مقر انتدابهم
ولأن أبو صالح "موظف سنع" كما يسمع ذلك من مديره المباشر، فهو أيضاً مسؤول عن إنهاء بعض معاملات المراجعين في حال تعثرها، أو في حال غياب الموظفين الذين تقافزوا من مكاتبهم بعد أن تعطلت مروحة المكتب ولم ينفع فتح نوافذ الغرف والمكاتب -بسبب شدة الحر-، كما كان ل"أبو صالح" وهو الرجل المسن نشاط يساعده على صعود ونزول الدرج، وإن لم يجد ما يشغله فسيضطر إلى تلقيح "النخل" المترامي في جوانب فناء مبنى الدائرة التي يعمل بها بعد أن يُصلي ركعات الضحى بعيداً عن أعين الموظفين.
موظفون اليوم يتمتعون بإمكانات أكبر سهّلت من مهمة أعمالهم
حكومة إلكترونية
في زمننا الحالي أصبحت الطرود الثقال والمعاملات الطوال لا تتجاوز في حملها وتحميلها من كبسة زر على "إدخال" في لوحة مفاتيح جهاز الكمبيوتر، حيث يستطيع من خلال برامج الحكومة الإلكترونية والدائرة الحاسوبية من اختصار الزمن والجهد، كما يختصر ويختزل "بروتوكولات" و"بيروقراطية" حفظ المعاملة وسرية ما تحويه من شروحات، ناهيك عن استقبالها لعرائض وخطابات وملاحظات المواطنين والجمهور من خلال مواقعها الإلكترونية، بل إنها اختصرت للمراجع في بعض الدوائر الفاعلة عناء السفر وشد الرحال لمقر الدائرة من خلال تجاوبها مع موقعها الإلكتروني وتحديثه أولاً بأول، وهذا كله لا يدلل على انحسار سير المعاملات التقليدي والعمل بما كان يعمل به الأباء من خلال قلم الحبر وشريحة "الكربون" إلاّ أنه يظل مؤشراً واضحاً لمستقبل العملية الإدارية التي تتطلب منا جميعاً ضرورة مواكبتها والعمل معها لمستقبل أفضل للأحفاد، كما كان يفعل من أجلنا الآباء والأجداد.
موظف في السبعينيات هجرية يحرر خطابات العمل على الآلة الكاتبة
«وزارة الداخلية» عام 1925م على طريق المطار قديماً بمدينة الرياض حيث استوعبت معظم الموظفين