خطبة الجمعة.. بين سمو الرسالة واستنكار "التسييس" ورفض التطويع

 

 

 كانت - وما زالت وستبقى - خطبة الجمعة تحتل مكانتها الكبيرة في الإسلام، وتُعَدّ إحدى أكثر الوسائل فعالية في التوجيه والدعوة والنشر والتنبيه؛ نظراً لما تحظى به من تأثير مستمَدّ من قدسية وعُمْق الدين في النفس البشرية. والخطبة في الإسلام لم تكن في يوم من الأيام خاضعة للاجتهاد أو التطويع للأهداف الشخصية، أو قابلة لاستخدامها أداة سياسة، بل كانت لها ضوابطها، واتسمت على مدار ذلك التاريخ بالحرص على أن تبقى في تلك الأُطر، بدءاً مما بدأت عليه من التركيز على الوعظ والتذكير بالله تعالى واليوم الآخر، وبالمعاني التي تحيى القلوب، والدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

 

 وصولاً إلى ما رآه العلماء المعتدّ بهم من جواز استخدامها لنشر الخير والتعامل مع مستجدات العصر بما يكفل بقاءها في الدائرة نفسها. وإذا كانت الخطبة بوصفها رسالة توعية أسبوعية يحضرها المسلم بتوجيه رباني فهي في العصر الحديث، وبفضل ذلك، لا يضاهيها أية وسيلة تربوية وتوجيهية. ومن هنا فهي يجب أن تبقى بمنأى عن استغلالها لأهداف بعيدة عن مفاهيم وقيم الإسلام، مثل تحويلها لأداة توظيف سياسي أو ترويج مذهبي. كل جمعة -

 

 وهذا من نعم الله - ينصت أبناء الإسلام إلى ملايين من الخطب، تحمل المعاني السامية، وتأتي خطبة المسجد الحرام والمسجد النبوي في مقدمة ما يتابعه الملايين - بخلاف المصلين - للتفقه في الدين من خلال العناية بسلامة العقيدة من الخرافات، وسلامة العبادة من المبتدعات، وسلامة الأخلاق والآداب من الشطط والانحراف، وصولاً إلى تصحيح المفاهيم الخاطئة عن الإسلام ورد الشبهات والأباطيل التي يثيرها خصومه لبلبلة الأذهان، وذلك بأسلوب مقنع حكيم، بعيدًا عن المهاترة والسباب ومواجهة الأفكار الهدامة بتقديم الإسلام الصحيح.  وتتجلى مهارة الخطيب في أمور عديدة، مثل ربط الخطبة بالحياة وبالواقع الذي يعيشه الناس، وعلاج أمراض المجتمع، وتقديم الحلول لمشكلاته على ضوء الشريعة الإسلامية الغراء، ومراعاة المناسبات الإسلامية كرمضان والحج والنوازل المختلفة وغيرها بما يشوق المستمعين إلى معرفة تنير لهم الطريق بشأنها،

 

ومحاربة النزعات والعصبيات العنصرية والمذهبية، وغيرها من الأمور التي تفرق وحدة الأمة، والتركيز على ما يربط المسلم فكريًا وشعوريًا بإخوانه المسلمين.  من هذا المنطلق تحتم المسؤولية الدينية والوطنية والاجتماعية على الخطيب أن يجهد نفسه لاختيار أمثلة رفيعة لموضوعات إسلامية متنوعة، والاعتماد على مصادر المعرفة الإسلامية الموثقة، والترفع عن الأحاديث الضعيفة والموضوعة والإسرائيليات المدسوسة والحكايات المكذوبة والمبالغات المذمومة وكل ما لا يقره نقل صحيح أو عقل صريح. -

 

 تحديات العصر:إن العصر الحديث يحتم على من يتولى أمانة الخطابة أن يدرك الأبعاد السياسية والاجتماعية لخطبة الجمعة، ومراعاة مستويات المصلين ودرجة فَهْمهم، ونوعية الإعلام الذي يتلقونه يومياً.  وإدراك أهمية خطبة الجمعة في تشكيل العقلية الإسلامية مهم جداً، خاصة أن المجتمع يفتقر إلى حصانة ثقافية إسلامية في ظل السيل العرم من التوجيه الإعلامي الذي يتعرض له المصلي ساعة فساعة، وهذا يدعمه ما تؤكده إحدى الدراسات التي أُجريت لمعرفة أثر خطبة الجمعة بأن 78% يتأثرون دائماً بقول الخطيب، فيما أشار 71% منهم إلى أنهم يلتزمون بقول الخطيب. 

 

 إن الخطيب يتولى أمانة عظيمة، تحتم عليه أن يكون قريباً إلى أحوال الناس وأوضاعهم، وأعمق وألصق بمشاكلهم وأحوالهم وشؤونهم، وهي معادلة تعتمد الثقة أساساً، وعليه أن يكون مُلمًّا بحركة المجتمع الذي يخطب فيه مستوعباً عائلاته وتركيبته الطبقية والعلمية والاجتماعية والسياسية.

  وعليه – كذلك – بوصفه خطيباً أن يترفق بالناس، ويبث فيهم روح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحرص على اللحمة الوطنية، ومساندة ولي الأمر في جهوده، وعدم بث ما يؤدي للفُرْقة والشتات. يقول الكاتب حمدي شهاب عن أبعاد غائبة في خطبة الجمعة: "هناك من الخطباء من يلجأ للسجع المتكلف، والروايات التاريخية والتراثية المشكوك فيها، ويركز على الأمور الخلافية بما يثير الشحناء والبغضاء والحساسية.. كل هذه مسامير في نعش حياة الخطيب الخطابية". -

 

 مسؤولية تعزيز الوسطية:إن أهمية الخطبة أنها تأتي بوصفها رسالة صادقة، يُقبل عليها المسلم وذهنه خالٍ من أن يعتريها أي تشويه مما يصيب الإعلام بكل أشكاله، وخصوصاً الإعلام المفتوح، وأيضاً "لما تتمتع به من خصوصية، من أبرزها خصوصية المكان (المسجد)، وخصوصية الوقت (عيد للمسلمين)، وخصوصية المهمة (شعيرة دينية)، وخصوصية الحال (الطهارة والخشوع والاجتماع)، وخصوصية الهدف (بيان الدين وتحويله في حياة الناس إلى واقع عملي)، وهذا ما لا يملكه أي مذيع أو مقدِّم برامج أو كاتب صحفي مهما كانت أهمية وسيلته الإعلامية". وفي قصص السلف ما نُقل عن أحد أشهر الوعاظ عندما قيل له: "مالك إذا وعظت الناس أخذهم البكاء، وإذا وعظهم غيرك لا يبكون؟". فقال: "يا بني، ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجَرَة".

 

 أيضاً في مستوى كبير من الأهمية تأتي مسؤولية "الخطبة" في تعزيز الوسطية والاعتدال؛ فالتزام الخطيب ينعكس إيجاباً على كلامه، والعكس صحيح؛ فإن لم يكن هو ملتزماً بالفضائل والأخلاق الكريمة، مجتنباً كل ما يدخل في سوء الأخلاق، فإن كلماته ستصب غالباً في خانة عدم القبول، بل سيكون فتنة للآخرين.

 

 تنقل كتب التراث عن الإمام الحسن البصري أنه ظل سنين لا يخطب عن الزكاة؛ لأنه لا يملك ما يزكيه، حتى إذا ملك زكّى، وصعد المنبر وخطب عن الزكاة.  وتبقى خطبة الجمعة من أنجع وسائل التأثير، ويكون دور الخطباء ببيان أهمية الوسطية والاعتدال في الدين، مع التفصيل في خطر الغلو والتفريط على الفرد والمجتمع بالأمثلة والقصص والشواهد الحياتية المعاصرة من البيئة التي يقوم بالوعظ فيها.

 

  يقول الأستاذ الدكتور نور الدين عتر في بحث حول مسؤولية المنبر في الخطاب الإسلامي في مواجهة المستجدات: "... على الخطيب أن يهتم بعلاج القضايا المعاصرة، ومواجهة الثقافة الحديثة، وتصحيح التيارات المتطرفة في الغلو في الدين...".  إن هذا السياق في القيمة الكبرى للخطبة في الإسلام وأمانة الخطيب تستحضر هنا بعض ما ورد في بيان وزارة الداخلية الأخير، الذي رفضت فيه مقارنة ما يحدث في بعض قرى القطيف بما يحصل في دول مجاورة سفكت الدماء الحرام من غير وجه حق، مؤكدة "أنها مقارنة باطلة لا أصل لها"، وأن القطيف كما غيرها جزء أصيل وكريم لا يتجزأ من هذا البلد المعطاء. 

 

إن البيان الذي جاء على خلفية خطبة الجمعة لأحد مشايخ محافظة القطيف تطرَّق إلى ما يحصل من أحداث ومواجهات متفرقة بين رجال الأمن وقلة مغرَّر بها من سكان المحافظة، ويؤكد أن إقحام شعيرة إسلامية وتسييسها خروجٌ بها عن رسالتها السامية، بل هو مدخل لتجريم أسلوب واضح مدى فداحة الخطأ الذي ارتكبه

المصدر: بروفايل - سبق – خاص:
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 222 مشاهدة
نشرت فى 26 نوفمبر 2012 بواسطة MuhammadAshadaw

بحث

تسجيل الدخول

مالك المعرفه

MuhammadAshadaw
مكافحة اضرار المخدرات والتدخين ومقالات اسلامية وادبية وتاريخيه وعلمية »

عدد زيارات الموقع

923,656

المخدرات خطر ومواجهة

مازال تعاطي المخدرات والاتجار فيها من المشكلات الكبرى التي تجتاح العالم بصفة عامة والعالم العربي والإسلامي بصفة خاصة وتعتبر مشكلة المخدرات من أخطر المشاكل لما لها من آثار شنيعة على الفرد والأسرة والمجتمع باعتبارها آفة وخطراً يتحمل الجميع مسؤولية مكافحتها والحد من انتشارها ويجب التعاون على الجميع في مواجهتها والتصدي لها وآثارها المدمرة على الإنسانية والمجتمعات ليس على الوضع الأخلاقي والاقتصادي ولا على الأمن الاجتماعي والصحي فحسب بل لتأثيرها المباشر على عقل الإنسان فهي تفسد المزاج والتفكير في الفرد وتحدث فيه الدياثة والتعدي وغير ذلك من الفساد وتصده عن واجباته الدينية وعن ذكر الله والصلاة، وتسلب إرادته وقدراته البدنية والنفسية كعضو صالح في المجتمع فهي داخلة فيما حرم الله ورسوله بل أشد حرمة من الخمر وأخبث شراً من جهة انها تفقد العقل وتفسد الأخلاق والدين وتتلف الأموال وتخل بالأمن وتشيع الفساد وتسحق الكرامة وتقضي على القيم وتزهق جوهر الشرف، ومن الظواهر السلبية لهذا الخطر المحدق أن المتعاطي للمخدرات ينتهي غالباً بالإدمان عليها واذا سلم المدمن من الموت لقاء جرعة زائدة أو تأثير للسموم ونحوها فإن المدمن يعيش ذليلاً بائساً مصاباً بالوهن وشحوب الوجه وضمور الجسم وضعف الاعصاب وفي هذا الصدد تؤكد الفحوص الطبية لملفات المدمنين العلاجية أو المرفقة في قضايا المقبوض عليهم التلازم بين داء فيروس الوباء الكبدي الخطر وغيره من الأمراض والأوبئة الفتاكة بتعاطي المخدرات والادمان عليها.