صمتي إنشاد، أعبر به إلى عوالم مختلفة، لا تدركها إلّا الأرواح المترفّعة عن هذا المنفى، إلى الحقيقة المتجلّية كالشّمس. نراها من البعيد البعيد، تلفحنا نسائم أنوارها، نرتشف أشعّتها، ولكن، لا يمكننا لمسها أو الدّنو منها.
صمتي رقيّ الرّوح، أرتقي به إلى العلى، حيث تهيم الأرواح حرّة في سماء اللّاحدود. فأستغني عن البصر وأداته، وأعاين ما لا يُرى لا بعين الجسد، وإنما يُرى بالعين الثالثة. أراكِ يا ذاتي الاخرى، الكائنة في أقاصي الأرض، الحيّة في داخلي. في أعماق الأنا تسكن هانئةً، تنمو وتكبر، وترعاك نسمات روحي. وحين يتأوّه الجسد من شدّة الحنين ويخفق القلب حتّى الشّعور بفقدانه، تعزّيني روحك العذبة، تحمل ألمي بين يديها، وتبلسمه، وتسكب حنانها على قسوة الأنين. تخترق صمتي بموسيقاك العذبة، وتستقي من دموعي وتحفظها في قلبك. وإذا مرّ الليل الواجم، تحوّلها إلى أحجار مرصّعة كالماس، تقبّل بها وجه السّماء.
صمتي أنين عطشان إلى ينبوع الحبّ المتدفّق، إلى أنهار العشق الجارفة. صمتي فقير، يشحذ لمسة روح ملتصقة في أحشائه، وعاشق يتوق الى عناق الرّوح المتّحدة بكيانه. ومن يخاطب صمتي العميق سوى من وقفت وإيّاه تحت أشعّة الشمس، نستحمّ بأنوارها العطرة ونلتهم نارها الملتهبة حتّى ذوبان الواحد في الآخر. ومن يسمع أنيني سوى من وهبني روحه وكرّسها لي، فروى ظمأي من ماء الحياة، وأنا على شفير الموت في صحراء العالم.
صمتي تأمّل، أدخلني قدس أقداسك، أحيا فيه كاهنة إلى الأبد، أنعم بالرّاحة الأبديّة في ظلّ جناحيك. أتعبّد بصمت إلى إله الحبّ، ليفيض عليّ نعمة رؤياك، أيّها الحبيب الرّوح.
بصمتي أصغي إلى نبضات قلبك الذّهبيّ، تعلن سرّ الحبّ الخفيّ عن منطق العالم الفاني. وأسبح في بحرك الهادئ حتّى تتلاشى قواي، فيحتضنني حبّك الأبديّ ومن ضعفه يقوّيني ويعزّيني.
صمتي تهليل، يعزف على قيثارة حبّك، تراتيل العشق الملائكيّ، فأبكي من شدّة الفرح وأنا أعانقك صليباً، أُسمّر عليه كلّ لحظة. أعطش إلى حبّك، وأجوع الى عناقيده المقدّسة. أذرف الدّموع ليلاً نهاراً، حتّى يتعب الجسد وتتفتت عظامه، فيصرخ ألماً: "إلهي، إلهي، لماذا تركتني!" فيردّ الإله بصمت يهدر كالشّلال: من لامس سرّ الحبّ وعانق قدسه، لا يمكنه العودة إلى أرض الشّقاء وعالم الأموات".
أنا وأنت يا ذاتي الأخرى، مسمّريْن على صليب الحبّ، مرتفعيْن فوق العالم. ننظر إلى أسفل، فإذا بعالم الأموات يضجّ بالضحك الفارغ، وأجسادنا الفانية تتراقص ثملة أمام قبور مكلّسة تفتح أفواهها لابتلاع الحياة.
أنا وأنت متألّميْن على صليب الحبّ بصمت بليغ، يرهب الكلمات. ينصت إليه الكون وينحني لعظمته. فتندثر الجبال وتذوب السّهول وتتبدّل الأنهار سواقيَ، تتسرّب إلى أعماق الأرض. ألاقيك في الفضاء الواسع، ونسهر على ضوء القناديل السّماوية. عيوننا شاخصة الى العلاء، ترنو إلى صفحة المسكونة الزّرقاء، ترقب بلهفة ساعة الانتقال إلى حضن الحبّ الازلي...
فمتى تأتي السّاعة ونستلقي مرتاحيْن بعد عناء مرير في أبديّة الفرح الأبديّ... متى تتساقط النجوم وتتحوّل الشّمس إلى عناقيد نورانيّة تنسكب عطراً على العالم... متى نذوب في كيان اللّازمان ونسبح حرّيْن في الأثير الواسع... متى يهبط النّسر الإلهي ويخطف روحيْنا إلى مهد العليّ، حيث تزهر الأحلام فرحاً وحبوراً.
تعبتُ من الانتظار ولهيب الحبّ يحرق وجداني. وتعبتَ من حرقة النّظر إلى غروب لا يضمحل ولا ينتهي. تعبنا من عالم الفناء... كغريبين نسير فيه وثقل الخطى ارهقنا...
لكننا سننتظر، ونرقب حلول الساعة وندوس على الأيام لنرتفع متعانقين نحو العلى... وإلى أن يهبنا الحبّ الأزلي مجد الانتقال، اسقني من خمر قدسك، واشرب من عطري الّذي لا يعبق أريجه إلّا لبهائك. ولنغرق أكثر وأكثر في سرّ الحبّ، فكلّما أحببنا، اقتربت ساعة المجد.
ساحة النقاش