لاشك أن حياتنا العربية الراهنة والمستقبلية في أمسّ الحاجة لعلم نفهم به الشباب، ونفسح برؤى هذا العلم المجال لتفعيل طاقاتهم، أو على الأقل ينبغي أن نتلمس خصائص هذه الفترة العمرية، ونسأل أنفسنا عمّا يحدث لها من منطلق مصلحة الأوطان والأمم. وهنا سنجد أمامنا مفارقة مذهلة، تنبئنا بأوضح صورة ممكنة أننا نفقد الكثير من طاقة شبابنا، ومن ثم نضيّع الأمل، أمل الحاضر، ووعد المستقبل. فأبسط مراجعة لخصائص الشباب يمكن أن تتلخص في كلمة واحدة هي «الخصوبة» ليس بالمعنى الجنسي الضيق لهذه الكلمة، ولكن بكل المعاني الواسعة، التي تستوعب التفجيرات الجسدية والنفسية والعاطفية والروحية لهذه الفترة الثمينة من فترات عمر الكائن البشري، والتي تتجلى في حيوية الطموح والمبادرة والمغامرة وحب الحياة وقبول التحديات، إنها باختصار: حيوية العطاء والاقتدار عليه، وهو عطاء فيّاض لو أحسن استثماره، لكن نظرة شاملة لواقع الحال العربية، كفيلة بأن تخبرنا بأننا لا نستثمر هذا الاقتدار على العطاء، بل نستسلم لنوع من الالتفاف على الشباب، لا يكتفي بتفريغ هذه الخصوبة من محتواها الخلاّق، بل يرمي بها في اتجاه العقم، والمقصود قطعًا ليس العقم بمعناه الجسدي الفردي، لكنه العقم الذي لا يمنح الحاضر طاقة الفعالية والاقتدار، ومن ثم يحرم المستقبل من الأمل. أما آليات هذا الالتفاف على الشباب، والتي تجهض خصوبة استعدادهم للعطاء، فهي بفعل فاعل مع سبق الإصرار والترصّد، محليًا وعالميًا، يرمي إلى هدف واحد هو امتصاص هذه الطاقة الشبابية بنوع من الإشباع الافتراضي لمداواة الإحباط والحرمان الواقعي، وهو إشباع سرابي يوهم بالحصول على «فرصة الإحساس بالمبادرة والقدرة والتفاعل واللقاء والعلاقات، ولو كانت افتراضية، بدلاً من الحياة الهزيلة الرتيبة التي يسيطر عليها الحظر والمنع، ويفرض عليها الخواء الوجودي». وأخطر ما في هذا الإشباع الافتراضي، بأبعاده العالمية العولمية، من خلال قواعد معلوماتها وإعلامها، يكمن في فقدان السلطات التقليدية «الأسرية والمدرسية والمجتمعية» لمرجعيتها، حيث لم يعد الكبار يشكّلون مرجعية فعلية للجيل الصاعد، على صعيد المعرفة على الأقل، الجيل الصاعد يعرف أكثر من الكبار، ويتقن التعامل مع تقنيات المعلومات وقواعدها، بل هو يعيش بها ولها أحيانًا، لدرجة أصبح معها هو المرجع للكبار حين تستعصي عليهم أسرار عملياتها التشغيلية. الجيل الجديد هو بصدد استبدال مرجعية الشبكة (www) بمرجعية الكبار، حيث أصبح يستغني عنهم، ويمت بشكل متزايد إلى أبوة «الدوت كوم» البديلة. وهنا تبرز ملامح أزمة في العلاقة مع الكبار، حيث تفقد سلطتهم مشروعيتها، بعد أن فقدت مرجعيتها. إلا أن هؤلاء الكبار مازالوا يتحكمون بزمام مصير جيل الشباب على مستوى الواقع. وهذا الوضع فيه من التناقض ما يضع الشباب في حال يمكن تسميتها «الشباب المعلق» بانتظار آمال متزايدة التباعد عن إمكان التحقيق. ومع هذا التهميش تتصاعد أزمات الحرمان من بناء مكانة وهوية منجزة، والقيام بالأدوار المنتجة، وانحسار فرص إشباع الحاجات العاطفية، وتفاقم مرارة العزوبية والعنوسة في أغلب البلاد العربية. وليس غريبًا إذن أن نكون بصدد احتقانات ما تنفك تتراكم لدى الشباب، مولدة الإحباط والغضب لديهم، في الآن عينه الذي تولد الشك والحذر منهم. ومع هذا المأزق يكاد المجتمع يتحول إلى مواطن وبؤر تفجير متنوعة الألوان: تطرَّف في كل الاتجاهات وأصوليات جامدة وعنف ووسائل تعويض غير متكيفة، أو تبلد واستسلام واجترار الكآبة والمرارة والجنوح باتجاه ألوان متنوعة من الإدمان الجسدي والعقلي، والتوجهات التدميرية التي تقع القيادة المتهورة للسيارات - على سبيل المثال - في طرف منها، وتقع الهجمات الإرهابية - مع التحفظ على المصطلح - في الطرف الآخر، فكلها سلوكيات التفافية على طاقة الشباب، تنتهي إلى تدمير الذات الفردية والذات الجماعية بعد ذلك.
ساحة النقاش