جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
الرأي العام
-----------
الرأي العام كالريح يعصف أحياناً فإذا هو قوة هائلة يجد الإنسان نفسه مندفعاً في تيارها أو مكافحاً ضد ذلك التيار . ولكن الرأي العام في حد ذاته شيء خفي يرتفع فجأة مدوياً متفجراً ثم يتلاشى ويختفي بصورة تبعث على الحيرة . فإذا تساءلنا ما هو الر أي العام نجد أن عبارة " الرأي العام " ذاتها بالنسبة إلى حرفية الفلسفة ، خرافية ، ذلك لأن " العام " ليس كائناً حياً يميز بشعور وعقل يستطيع بهما أن يكّون آراء في مواضيع معينة بعيدة المدى . إن ما يقصد به هو أن رأياً كان خاصاً ذات مرة واتخذ شكلاً من الكلمات ثم انتشر بين الجمهور ، ولكنه اقتضى أكثر من ذلك . فثمة ألف رأي شفهي يهيمن عادة على المجتمع يتعلق بالجو مثلاً أو بالمال ، دون أن ُيندرج واحد منها في قائمة الرأي العام ، فكل إنسان يشعر بأن هذه الآراء تنبع عفوياً من قرارة نفسه باقتناع من شعوره أو خواطره ، ويبدو له أن شعور الناس بما يشعر به هو نفسه ، لا يمت إلى الرأي العام بصلة وإنما هو نتيجة لانتظام في تكوين البشر كأن يكون للإنسان ساقان مثلاً .
ولذا فإن الرأي العام لا يعني مجرد رأي شخصي يهيمن على الجمهور بل يعني تلك الآراء التي تتناول مسائل تتعلق بنزاع عام أو تنشأ عن عدوى أو انتقال شعور معين لم يتكون عفوياً بين الناس بل فرض عليهم بالخطابة والإعلام أو التكرار . أنها آراء ببغاوية . ومع ذلك فبالعدوى تمكنت البشرية أن تتثقف بسهولة وعلى نحو جذري تام . بالعدوى نتعلم اللغة الأم ونطور أعمق أحاسيسنا . عدوى القدوة ، هذه هي أعظم نعمة حين تكون القدوة خيرّة صالحة . وهذا يعني أننا في إتباعها ننمي طاقاتنا دون إخضاع أنفسنا إلى أية هيمنة غريبة .
قد يكون الرأي العام إذاً مهيمناً ، وقد يكون متعصباً متشدداً ، دون استبداد ودون طغيان ، إذا هو استبق كما هي الحال بالنسبة إلى المعلومات الصادقة ، ما كان سيكشفه المرء لنفسه في النهاية ولكن بمشقة وصعوبة . ففي توفير ذلك للفرد وتجنيبه السير وراء رائحة مضللة أو شائعات كاذبة تحرر هذه الثقافة طاقاته ، إذا كان لديه طاقات ، فيتقدم مستقبلاً متخطياً الرأي العام في المسالك المنتقاة ذاتها ، وإذا افتقد الطاقة فإن هذه الطاقة ذاتها تصقله وتؤهله على نحو مبهج ليحيا في موطنه الروحي الخاص . أما إلى أي مدى سيكون الإجماع في مجتمع معين طبيعياً وإلى أي مدى مصطنعاً ، فتلك قضية حياتية تتم الإجابة عنها في كل حالة بمفردها وبالنسبة إلى ظروفها الخاصة . غير أن بإمكاننا القول إن الإجماع لا يمكن أن يكون مطلقاً فالصرخة العامة تمثل ألف شعور مختلف وتثير قلوباً صامتة عديدة ، وحتى تدفن موجة من العاطفة كل الاختلافات الشخصية كما تفعل غالباً للحظة ما ، فعند انحسارها تعود الخلافات إلى الظهور من جديد ويبدأ ذلك الإجماع بالقياس إلى السابق إجماعاً مخموراً مُخزياً . أما الزعماء الذين يبدو لهم أن الشعور المسيطر طبيعي وباطني فيلجئون إلى الدعاية أو الوعظ الدائم في حلقات خاصة بينما ينصرف الجمهور اللامبالي إلى الاهتمام بشؤونه الخاصة بابتسامة أو سخرية أو بتكلف احترام تقليدي . وعندها حتى لو بدا أن الإعراب عن العام إجماعي في الدين أو الخلفيات السياسية فإنه لن يكون عندئذ أجماعياً حقاً ، وقد لا يكون ثمة وجود للإجماع إطلاقاً إذا لم يدلّ الإعراب عنه على لا شيء غير انسجام سافر أو متبصر مع العادة من أجل راحة ملائمة أو من أجل مصالح قصوى . ففي مجتمع مُركب حيث تتراكم تقاليد مختلفة وتتعايش معاً يقوم أحياناً تعايش غريب بين رأيين عاميين مختلفين في موضوع واحد كما في حالة المبارزة : كل شخص متدين يندد بممارستها وكل صاحب كرامة يحبذها ويعمل وفقها . واعتقد إن كثيراً من هذا يحدث بالنسبة إلى الفسق فجميع الديانات- وكل شخص تقريباً يقبل شكلاً من أشكال الدين – يؤكد وجوده .
وأنا أعتقد ، على كل ، أن التقلب والتلون أقل فائدة وتقديراً في الرأي العام منه في العقل الفردي، فالعقل الفردي يبدأ دون أية خبرة وفي سلامة تامة بطرح جميع أنواع الأسئلة . وهو بارع جداً حين ينضج بالأفكار والمستكشفات الأصلية .ولكن الرأي العام يتحرك دون ذاكرة أو أسلوب مؤهل على خلفية من التحيزات المضادة للخداع . وعضويات الرأي العام هي العادة والشائعة والإعلام ، ثلاثة أشياء لا تفضي إلى أي تقدم . إلا أن للعادة ، رغم أنها محافظة وغير عقلانية في حد ذاتها ، مبرراً عادة لوجودها . فهي على الأقل لا يمكن أن تكون منافية للعقل إلى حد تبرهن فيه أنها انتحارية . وترتكز عادات كثيرة على غرائز أولية وضرورات اجتماعية ، كما ترتكز اللغة والوجدان ، وهكذا إذا ما أصر الرأي العام عليها فهو على حق في الحرص على بقائه محافظاً . ففي هذا الموقف يتسم الرأي العام بالحكمة أكثر مما لو أتخذ موقفاً معارضاً لها . والإعلام مع أنه يسمم الخواطر ، يستمد قوته أيضاً من حوافز منطقية ومطامح مستترة في الطبيعة الإنسانية فتثيرها وتبرزها فجأة . وقد توحي لأكثر الأعمال حماقة ومع ذلك فهو يوحي وتلهم .
إن هيمنة الشائعة وحدها ، الشائعة السوقية المبتذلة غير المسئولة ، الخالية من كل معتقد أو إعلام هي التي تؤدي بالرأي العام إلى البؤس والضعف وتجعله متقلباً خطراً دون أية أصالة ، ومخرباً عابثاً دون تفهم لما يخرب . ويلعب النسيان الذي لا يرحم لعبته ويوجه سخطه على الأشياء الغريبة أو الماضية وبذلك ينزع كل احتمال لوجود الحكمة في العمل السياسي .
ساحة النقاش