د. تيسير مشارقة*
أحدثت ثورة الديجيتال قفزة كبرى في عالم السينما الفلسطينية، فاستعاض كثير من السينمائيين عن الوسائل التقليدية (الشرائط) في أعمالهم السينمائية، بأقراص وشرائط صغيرة رقمية. باعتراف عدد من السينمائيين الشبان، فإنه لولا ثورة الديجيتال وتقنيات الفيديو لما تحققت لهم إمكانية إنجاز مشاريعهم وأهدافهم السينمائية القصيرة والمتوسطة، ولما أفلحوا بالوصول إلى الجمهور العريض، فقد اصبح الديجتال ملاذاً لمن استعصى عليه تحقيق سينما تقليدية باهظة الكلفة.
التحول نحو السينما والتلفزيون وحرب الفيديو، بدأ يأخذ مساراً شعبياً في فترة الانتفاضة الأولى(أواخر1987-1993) وبذلك أصبح الفيديو والسينما المرافقة أكثر دمقرطة مما سبق. فبات بإمكان كثير من الهواة والمهنيين تحقيق آمالهم بإنجاز أفلام قصيرة وتعميم رؤاهم بوسائط بسيطة.
وباندلاع الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى2000حتى 2002) والتطور الهائل على تكنولوجيا الاتصالات الحديثة، والقفزات الهائلة في كاميرات الديجيتال أصبح بالإمكان تحقيق الحلم الذي راود الكثيرين؛ واصبح بوسع ذوي الدخول البسيطة والمحدودة من المبدعين السينمائيين انجاز أفلام وثائقية وروائية متنوعة، وصل بعضها إلى دور العرض السينمائي، وصار الفيلم الديجيتالي بديلاً، أو بعيداً عن هاجس الانفاق المالي وعبئه، بوسائط تصوير رقمية منخفضة الثمن.
إن تحوّل فن السينما من فن نخبوي إلى شعبي دخل إلى المنازل وحياة العائلات، فأدخل عالم السينما إلى ما يسمى بـ" السينما المنزلية"، وأصبحت مشاهدة الفيلم في المنزل وعبر شاشات الكمبيوتر في ظل إغلاق دور السينما وتدميرها ليس عيباً ، وإنما حاجة انسانية ملحة. وبات الفيديو ديجيتال حلاً ممكناً وبديلا عن الأفلام (35 ملم و16 ملم) باهظة الثمن.
الثورة الرقمية أفادت الفلسطينيين في ظل الحصار. وبانهيار الطبقة الوسطى إنهارت معها "السينما الوسطى"، ولم يكن بالإمكان تحقيق سينما روائية تقليدية من العيار الثقيل بسبب الكلفة العالية ، وأصبح بمقدور شبان في العشرينات من فقراء السينمائيين صناعة سينما نوعية يمكنهم توزيعها على أشرطة فيديو منزلية، أواسطوانات مدمجة(دي في دي)بكل يسر وسهولة ومن خلال شبكات التواصل الاجتماعي مثل "الفيسبوك"وموقع "اليوتيوب". هذا الأمر أثار حفيظة برجوازيي السينما والصالات الفاخرة بأن صبوا نار حممهم على صناع سينما الفيديو والديجيتال.هذا الأمر الديجيتالي أو الرقمي حفّز العشرات من الشبان والشابات للدخول إلى عالم صناعة الأفلام الرحب. ولهذا تمتلىء السوق الفلسطينية حالياً بصناع الأفلام من مختلف الأعمار وقد نشطت حركة صناعة السينما بشكل ملحوظ.
لقد حقق كثير من السينمائيين حلمهم بسينما حديثة رقمية وفقيرة في آن. لم تعد السينما هي الأكثر كلفة ولا هي الفن النخبوي، وتحقق عصر"الديمقراطية السينمائية" على يد شبان طليعيين. إن انتقال السينما من النخبوية إلى الديمقراطية [ أي بمتناول عموم الشعب] تحقق في فلسطين نتيجة عوامل عديدة، منها : الحصار ، الفقر ، الحق والحقيقة الوطنية، وثورة الفيديو والديجيتال. فأصبح بامكان أي مواطن تصوير فيلم الذي يشاء لمدة ربع ساعة ولو عبر جهاز بيلفون نقّال متطور.
في هذه الغضون نشأت مؤسسات سينمائية عديدة تعمل على تأهيل وتدريب العشرات من الشبان على صناعة الأفلام بأدوات بسيطة، مما نشّط الحراك السينمائي باتجاهات متفرقة ما بين التجريبية والفيديو آرت والتسجيلية والوثائقية والروائية. ويمكن ملاحظة شركات إنتاج صعدت في 2005 مثلا، والآن هي من كبريات الشركات الإنتاجية ومنها "آيديومز فيلم". وفي فلسطين حالياً ما يزيد عن مائة صانع أفلام وعشرات الشركات المنتجة مع غزارة في الإنتاج. ولكن وللأسف بغير حركة نقابية فاعلة ولا مؤسسات مهنية تضبط ايقاع عمل تللك المؤسسات أو هؤلاء الصنّاع ، كما تفتقد الحركة النقدية والنقد السينمائي الى النضج الذي يواكب التطوّر البصري هناك.
من بين الشبان الذين على خط الانتاج الفيديو – ديجتالي، في مجال صناعة الأفلام الوثائقية والروائية القصيرة والطويلة والدراما: عماد أحمد ، مهند يعقوبي، صبحي الزبيدي ، نصري حجاج، على قليبو، عمر نزال، وليانه بدر، وآخرون.
المخرج صبحي الزبيدي ـ مثلاً ـ من الطليعيين في محاكاة أ (مدرسة/ تيار) "الدوغما الاسكندنافي"(السويدي) في تجربته السينمائية، فهو يعمل على أفلام مذكرات ويوميات شخصية حيث لا إنارة صناعية ولا ديكورات معمولة، بل كاميرا رقمية متحركة رخيصة تسجل كل التفاصيل.
مع ذلك هناك جدل وصخب وزوابع نقدية يثيرها بعض السينمائيين والنقاد، حول جدوى "الإنفلات السينمائي والبصري" في فلسطين. فلمخرج الزبيدي كتب ذات مرّة يقول إن المشهد "مليء بأشباه السينمائيين وغير المدربين والفاقدين للمهنية". وذات مرّة أخرى قام المخرج مصطفى أبو علي(توفي عام 2009) بصب نار حممه على المخرج الشاب مازن سعادة، واتّهمه بالنصب السينمائي (إثر خلاف على جائزة تخص فيلم لمازن سعادة كان أبو علي ينوي إخراجه وتنكّر له سعادة لأسباب فنية) ولأنه قام بإخراج و إنتاج أفلام حديثة صارخة وتسلق السلم السينمائي العالي بسرعة فائقة وبقدرة قادر، في حين يرى سعادة بأن الجيل القديم من السينمائيين أوصلوا السينما الفلسطينية إلى الحائط المسدود، وأضاعوا الذاكرة وصنعوا أفلاما دعائية بائسة (أفلام بروباغاندا) وليست أفلاماً وثائقية بالمعنى العلمي، ولم ينجزوا فيلماً روائياً يصلح تذكّر اسمه.
كانت سينما الثورة الفلسطينية (السينما النضالية) لاقت اهتماماً من لدن النقاد والمهتمين بتراث الشعب الفلسطيني البصري، وهناك ما يقارب العشرين فيلماً روائياً طويلاً، تعتبر الآن من الأعمال العربية ذائعة الصيت وأثارت صدى عالمياً هائلاً : فيلم "عرس الجليل" للمخرج ميشيل خليفي(رائد السينما ا المستقلة) وفيلم المخرج هاني أبو أسعد بعنوان" الجنة الآن" أو فيلم "الجبل" للمخرج حنا لطيف الياس، أو فيلم "يد إلهية" للمخرج إليا سليمان، أو فيلم "حتى إشعار آخر" أو فيلم "عيد ميلاد ليلى" للمخرج النشط رشيد مشهراوي.
يدعو الناقد السينمائي اللبناني ابراهيم العريس إلى الاحتكام لمبدأ "الانتخاب الطبيعي" لداروين في معالجة المسألة حين يختلط " الجيد بالسيئ والموهوب بالمتطفل " ويدافع عن رأيه كالتالي:" كما في إمكان أي شخص ان يكتب، اليوم، قصيدة أو يرسم لوحة بالحد الأدنى من الكلفة، من دون ان يُشترط هذا بأن يُنظر الى عمله بصفته تحفة فنية تستأهل كبير الاستقبال، من المؤكد أن الإمكان نفسه سيتاح سينمائياً، بحيث تظل للأعمال الكبيرة قيمتها ". ويضيف العريس: " المحصلة في نهاية الأمر أن التجارب كلها إن لم تجعل من كل الممارسين سينمائياً كباراً، فإنها على الأقل ستجعل منهم متفرجين متميزين". وفلسطينياً هناك حاجة إلى متفرجين متميزين. ومكمن العلة في الفقر إلى هؤلاء (المتفرجين المميّزين ) الأذكياء واليقظين، على حد تعبير العريس.
يمكن في فلسطين رصد ظاهرة ثقافية تستحق الانتباه، وهي تحول كثير من الكتاب والإعلاميين إلى حقل السينما، وذلك مع سطوة وقوة البصري وأهميته في عصرنا ، عصر ثورة الملتيميديا والديجيتال. وهو ما يعني أن المثقفين يستشعرون بسرعة فائقة أين تتجه الريح في ظل العولمة الاتصالية والإعلامية . من الكتاب الذين توجّهوا إلى حقل السينما وكتابة السيناريو: الروائية ليانه بدر التي أنتجت وأخرجت خمسة أفلام وثائقية هامة ، هي: فدوى:حكاية شاعرة من فلسطين 1999، زيتونات 2000، الطير الأخضر 2002 ، حصار 2004، وفيلم مغلق مفتوح 2006. وهناك مازن سعادة الكاتب الذي أخرج الأفلام الوثائقية ويجهز لفيلم روائي طويل بعنوان "شارع ركب" عن سيناريو رواية له بالعنوان نفسه.
باختصار، فإن السينما الفلسطينية الصاعدة بحاجة لانتباهة كبرى.. وقد أشار إلى ذلك متحدثون في الحلقة الأولى من حوارية "على بلاطة" في مسرح القصبة في القدس ؛ حين طالب محمد البطراوي (توفي في العام2011 ) بوضع آليات لاختيار الأفلام والفرق الفنية ووجود لجان للإختيار، وتوخي القيمة الفنية وتفعيل اعتماد صياغة قانون خاص بالجوائز (الذي مازال في أروقة المجلس التشريعي). ونفى البطراوي في حينه (عام 2005) صفة "الزاعق والشعاراتية" عن الأعمال التي منحت الجوائز والأوسمة. أما المنتج السينمائي جورج خليفي فدعا إلى استحداث مهرجانات سينما محلية وطنية تنتخب الأفلام الجيدة ، بحيث يُمنح "اوسكار محلي" لكل عمل سينمائي قيّم. ولاحظ خليفي أن الأفلام تشارك بشكل فردي في المهرجانات ويفوز المخرجون كأفراد وليس بكونهم فلسطينيين. ونوه خليفي إلى فيلم "يد إلهية" للمخرج ايليا سليمان الذي لم يمثـّل فلسطين بشكل رسمي في مهرجان عالمي، ولكنه من انتاج فرنسي – فلسطيني رُشّحَ رسمياً للأوسكار ولكنه لم يفـُزْ.
*باحث وأكاديمي من الأردن
ساحة النقاش