في خضم الأحداث الكبرى التي يشهدها العالم العربي على نحو عام، والحرب الدائرة في ليبيا، وعليها في الوقت نفسه، وفي خضم تفاعلات القضية الليبية والحجز على أموال الدولة الليبية تحت مختلف الذرائع والمسوغات، إضافة إلى البدء بسلسلة من العقوبات، تبدأ بمنع تصدير الأسلحة ولا نعرف أين ستنتهي، يكتسب هذا الكتاب الذي يبحث في العقوبات التي فرضت على العراق بعد احتلاله الكويت، ولم ترفع إلا أخيرا، وإن ليس على نحو كامل.
|
سوف تذرف بحار من الحبر حول هذا الموضوع مستقبلا، وستكشف الوثائق السرية التي سيفرج عنها أو ستسرب إلى الصحافة عن خلفيات حالة الحرب على ليبيا، من دون أن ينفي ذلك تضامننا المطلق مع شعوب أمتنا المقهورة ووقوفنا إلى جانب حركاتها الوطنية التي تطمح إلى تحقيق التطور الحر المستقل عن أي من القوى الاستعمارية الغاشمة التي ألحقت بأمتنا الدمار، ورمت بحكامنا التابعين لها في التهلكة، وحيث انتهى أمر من حلت نهايته منهم إلى الطرد المذل، نقول هذا للتذكير فحسب.
المحتوى
لقد كتب الكثير عن الحرب على العراق والعقوبات الجائرة وما ألحقته به من دمار، وعرضنا لجانب منها في مراجعة سابقة في هذا الموقع، ولذا فإن مراجعتنا لهذا المؤلف، الذي يكتسب أهمية قصوى ليس فقط من علميته الموثقة ومنهجيته بعيدا من الدعاية، حيث تشكل مراجعه الأولية نحو ثلث عدد الصفحات، وإنما أيضا لأنه صادر عن مركز يعد من أكثر المؤسسات الأكاديمية محافظة في الولايات المتحدة، ولن تعرض لتفاصيل "الحرب الخفية" تلك حيث صار العالم كله يعرف تفاصيلها، وإنما الحديث في دور الولايات المتحدة في صياغة بنيتها وأبعادها ومداها وكيفية تطبيقها.
مع ذلك، من المفيد إعلام القارئ بمحتوى البحث الذي أوصل المؤلف إلى استنتاجاته التي سنعرضها في نهاية هذا العرض.
ضم الكتاب مقدمة و12 فصلا، هي: 1- سياسة الاحتواء 2- أداء العقوبات 3- نفوذ الولايات المتحدة 4- مشكلة الاستمرار 5- مدى الكارثة 6- توتر في الأمم المتحدة 7- دور الحكومة العراقية 8- الكونغرس والعقوبات 9- فضيحة "النفط مقابل الغذاء" 10- خفايا سياسة الولايات المتحدة 12- المعضلات الأخلاقية والسياسية.
الكتاب
تلخص المؤلفة هدف الكتاب في التصدير وتقول إنه يسعى لدراسة السبل التي اتبعتها الولايات المتحدة لصياغة طبيعة العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة على العراق وفق القرار 661 الصادر في أغسطس/آب 1990 ومداها، حيث إنها هي من قرر ذلك على نحو كامل، وفرضته على بقية أعضاء مجلس الأمن الدولي وأعضاء الجمعية العمومية.
والكتاب يتضمن أيضا قصة البيروقراطيات والأذى البشري الهائل الذي ألحق بالعراق، والذي تتعرض المؤلفة له باختصار في الفصل الثاني، مع أنها تنفي أي خلفية لتلك العقوبات قائمة على الكراهية، وإنما برأيها عدم الاكتراث، إضافة إلى أمور أخرى.
" بقيت الولايات المتحدة تقاوم بعناد شديد محاولات الدول الأخرى التخفيف من الحصار ورفع الأذى عن السكان الأبرياء، إلا عندما حوصرت سياسيًا " |
والكتاب، الذي يغطي المرحلة الممتدة من العام 1990 إلى مايو/أيار 2003، يبحث، عبر فصوله المختلفة، في معرفة مسؤولية طرف في قرار اتخذ جماعيا أو سياسيا أو بيروقراطيا.
هدف المؤلفة من وضع الكتاب التركيز على دور الولايات المتحدة في فرض العقوبات على العراق، مع أن القرار اتخذ جماعيا في مجلس الأمن الدولي، هو فهم المدى الذي مارسته في كيفية تطبيقها ومداها.
السبب يتضح من حقيقة أنه عندما تبين الثمن الباهظ الذي ألحقته تلك العقوبات بالمجتمع والأبرياء والضعفاء (من ضمن ذلك وفاة 500.000 طفل عراقي)، ولم تؤثر في النظام، بقيت الولايات المتحدة تقاوم بعناد شديد محاولات الدول الأخرى التخفيف من الحصار ورفع الأذى عن السكان الأبرياء، لم تقبل أي مساومة إلا عندما حوصرت سياسيا، مع أنها عمدت إلى تخريبها من الباب الخلفي.
المؤلفة توضح هذه الجوانب من ذلك النقاش اعتمادا على الوثائق غير المنشورة، التي بقيت مجهولة لأن الحديث في العقوبات ومداها وكيفية تطبيقها كانت تدور خلف الأبواب المغلقة.
كما عمدت المؤلفة إلى توسيع بحثها عبر الاتصال بأفراد كانوا على علاقة بالموضوع، مع أنها لم تسافر إلى العراق، ولذا فإن وصفها للمواضيع ذات العلاقة، ومن ذلك الاقتصاد العراقي والضمان الصحي وما إلى ذلك اعتمد على مراجع مكتوبة وشهود عيان.
الحرب الخفية
" الحرب التي قادتها الولايات المتحدة، استهدفت القوات العراقية في الكويت عام 1991 وكذلك الاقتصاد العراقي نفسه, من خلال تدمير البنية التحتية الرئيسية " |
والهدف، حسب قائد القوات الأميركية الجوية الكولونيل جون واردن، "تدمير العقد الأساس الذي أهل العراق للعمل دولة متطورة صناعيا". وعلى هذا قامت القوات الجوية الأميركية (من دون نسيان دور بريطانيا الذيلي- بوصف المؤلفة) بتدمير محطات توليد الكهرباء ومراكز الاتصال ومصافي النفط ومعامل تكرير المياه والمجاري وكل مراكز البنية التحتية الرئيسة.
ومع أن هدف الأمم المتحدة من فرض العقوبات إجبار القوات العراقية على الخروج من الكويت، فإنها استمرت حيث استحال الهدف، حسب بوش الابن يوم 16 أبريل/نيسان 1991 "طرد صدام حسين من السلطة"، متجاوزا بذلك قرار مجلس الأمن المعلن.
رغم جوهر القرار، كان على العراق نيل موافقة رقابة العقوبات (لجنة 661) على أي مادة كان يود استيرادها، بما في ذلك الأدوية، وهو ما دفع دنيس هليداي منسق الأمم المتحدة للمسائل الإنسانية في العراق للاستقالة من منصبه احتجاجا على ما أسماه "نظام العقوبات الإبادي".
مع ذلك، فإن المساحة المحدودة لهذا العرض لا تسمح بالاسترسال في عرض الثمن المهول الذي دفعه العراق، أفرادا ومجتمعا واقتصادا بسب تلك الحرب الخفية.
الخلاصة
في الفصل الأخير من كتابها، كتبت المؤلفة أن هدف الكتاب كان مناقشة أخلاقيات العقوبات الاقتصادية، باستخدام العراق نموذجا، لكن تطور البحث والاطلاع على حقائق الأمر صار الكتاب عن العراق بحد ذاته.
البحث استحال حديثا في كيف عملت الولايات المتحدة على تمرير تأثيرها في المؤسسات الدولية بعد انتهاء الحرب الباردة عندما أضحى نفوذها فيها مطلقا، وكيف حاولت، بعد سنوات من العناد وبعدما اتضح للرأي العالم العالمي الدمار الذي ألحقته سياستها تلك بالعراق دولة ومجتمعا ومحاولات تنصلها من تلك السياسة.
وتبين للمؤلفة أن تطبيق القرار لم يكن دوليا وكيف قاومت كل محاولات كبح اندفاعها عبر استخدام حق النقض ضد أي محاولة لتخفيف العقوبات أكثر من أي دولة أخرى، بما في ذلك حليفها التابع بريطانيا، مبينة سيادتها على مجلس الأمن وقراراته بعيد انتهاء الحرب الباردة.
وهي تصر أيضا على أن تمسك الولايات المتحدة بسياستها تجاه العراق لم يكن وليد جهل أو خطأ في الحسابات، وإنما سياسة قصدية مخططة وممنهجة، بما يستدعي التأمل في القانون الدولي الذي "يجيز" ممارسات إبادية كهذه.
ومع أن المؤلفة تنفي تهمة الكراهية عن مخططي العقوبات الذين كانوا على علم تام بآثارها التدميرية والإبادية، أفضل من أي طرف آخر، فقد كانوا على علم تام بآثار ونتائج كل قرار اتخذوه، لكنهم حاولوا التنصل من مسؤولياتهم ذلك عبر سياسة الإنكار المعروفة.
" تمسك الولايات المتحدة بسياستها تجاه العراق لم يكن وليد جهل أو خطأ في الحسابات، وإنما سياسة قصدية مخططة وممنهجة " |
ملاحظة منا على الكتاب نوردها ختاما بأن المؤلفة تجاهلت دور الدول الأخرى الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، ونقصد بذلك الاتحاد السوفياتي والصين وفرنسا، في منع صدور قرار عام ترك فيه للولايات المتحدة صياغة أبعاده. فقد كان بإمكان تلك الدول فرض وضع تفاصيل للقرار وحيثيات وجدول زمني وما إلى ذلك من الضوابط الضرورية، ما يجعلها مشاركة في ما ألحقته قراراتها ذات العلاقة بالشعب العراقي من دمار، ولا يمكن تبرئتها منه.
هذا لا يعني إطلاقا أننا نؤيد قرار فرض العقوبات، بل إننا نعارضه بنفس الشدة التي عارضنا بها مغامرة صدام حسين التي أغرقت العرب في بحور المجهول والدمار، وما حالنا نحن العرب اليوم عموما وحال العراق تحديدا إلا إحدى تداعيات تلك السياسات الخرقاء والإجرامية، سواء الاحتلالية أو العقابية.