الرغبة القاتلة في باليه المشنقة
العنوان المعجمي لهذا الباليه هو "الشاب والموت" Jeune Homm et la Mort (الشاب الفتي والموت) . وقولي باليه المشنقة تصرُّفٌ مني فى الترجمة للعنوان , أردت به أن اجعله ملائماً للعرض الخاص الذي رأيته عليه ؛ وإلا فالتعريف المعجمي للباليه يعود إلي تنفيذه الأول في 25 يونيو 1946م , عرضاً من فصلين وبأعلام سابقين في التصميم والأداء والمناظر علي نفس موسيقا. Bach,J.S. وسيظهر لنا صدق وصف المعجم "للعُرام الدرامي" بهذا الباليه حتي في هذا العرض المتأخر الذي نُمارس عليه نقدنا وتذوقنا , كما سيظهر صدق وصف معجم الباليه في اللغة الإنجليزية بأنه أي الباليه دراما لذاعة شديدة الوقع تتكشف أمامنا" ط ([1])An Intensely poignant Drama unfolds before us
ولكن قد يؤتي فن باليه من قبل الزي المستخدم فيه ؛ رغم أن المفروض فيه فحسب هو أن يوفر للمعبر مظهراً طيباً في حركته وفي راحته , وأن تنسجم ألوانه مع المناظر, وأن يساعد علي التعرف علي الشخصية . والباليهات التقليدية فقط هي التي ترتدي فيها المعبرة "نقبة" و "توتو" أو ثوب سفليد مع ثوب لاصق وردي وأحذية حريرية ؛ والمعبر قميصاً قصيراً وثوباً لاصقاً [2] والمتفق عليه إنما هو تجريد المعاني من المحسوسات . وهو صميم عمله. ولذلك كان مألوفاً أيضاً الاعتماد علي السرياليين في رسم المناظر. [3]
ولكن التجريد من الملابس قد يتم في الباليه بطريقة مباشرة هي بعينها التجريد الحسي , وهذا نفسه ضد منطق الباليه من التجريد . ومتي أزيل هذا التناقص من فن الباليه ؛ فقد زال بذلك تناقضه مع الأخلاق , أو الدين الذي يقضي في الأعمال بحسب النيات , أو إذا لم يُتذرع بها إلي الرذيلة , ذلك أن التجريد المطلوب في الفنون ليس هو التعرية , ويمكن لمصمم أزياء تنشق عنه تربة الفن أن يعيد النظر في هذه المسالة , لكي يصمم لنا زياً للباليه كاسياً , حيث يضمنه من الخطوط والألوان واللمسات ما يعطينا المعني التجريدي "للجسمان" (كذا) الإنساني , بحيث نفهم الجسم في معانيه الجمالية التي فطر عليها في أحسن تقويم , وما يتجرد عنهما من معاني الرقة والدماثة أو الفتنة والملاسة والنعومة وما إلي ذلك دون أن تلجأ الراقصة الفاتنة إلي أن تقدم ساقها لنا في تعبيرها المباشر عن هذه القيم الإنسانية , ولكن هذا يدخل في إطار بحث أخر عن "الأزياء" كفن من الفنون. والأهم أن الجمال الجسماني عند مستوي الباليه والرياضات القاسية بصفة عامة متعادل في نفس التفرج بكم العناء والانضباط السلوكي والتقنين الحياتي واليومي المستلزم له كما ألممنا قبل وكما في المصدر هنا [4]
ولنبين أن الأعمال الفنية الراقية تحوي مضموناً بناء بالضرورة نأتي بهذا المثال من فن الباليه ففي مشهد من أداء الراقص العالمي "نوريف" وزميلته "زيزي جومبر" يطالعنا كل منهما بمقومات جمالية (جسمانية) كاملة يتمتع فيها "نورييف" بحظ موفور من الجمال المذكر في جسمه المتناسق الصحيح ورأسه المستدير.
وعن يمين المسرح يرفع الستار عن مهد السرير , مما يوحي إلي المشاهد بطبيعة المشهد القادم , وتبدأ الراقصة وعلي شفتها ابتسامة غامضة , قد لا يلتفت المشاهد إليها كثيراً أو قليلاً , وهو إزاء التعبير الصارخ المثير الذي تحاول به الراقصة تحريك غرائز الرجل , ويحتاج وصف صور الفتنة العارمة التي تستعرضها المعبرة في جسمها إلي متسع أكبر من هذا , ولكن المشاهد سرعان ما ينساق مع فتنة المعبرة الصارخة القاسية فى نفس التوليف الحركى والمشهدى والموسيقى كله إلي حالة من الرغبة المجنونة المقموعة بإعجاز, ويحاول من خلال المعبر الذي يمثله علي المسرح أن يحقق أو ينتقم مما أثارته فيه المرأة اللعوب ذات الابتسامة التي قد لا يلتفت إليها كثيراً بسبب شغله عنها بحركات السيقان الفضية وهي تتحدث بعشر لغات للإثارة.
ولكننا نري عجباً من أمر المرأة. أنها لا تستجيب لميل الرجل , إلا بالقدر الذي يلقي به تحت استحواذها . وحين يصبح الرجل جسدأ كله فإننا نفهم أن ما يحمل فوق جسده الجميل مجرد رأس مستعار لا أثر فيه للعقل علي الإطلاق ؛ إذ تبدأ المرأة الغريبة في ممارسة لون من الإذلال المتعمد للرجل , فهي تركله في وجهه , بينما هو في حالة من الضراعة الذليلة أمامها , وتضربه بالمقعد الذي أوهمته أنها تهيئه من أجله. ويلاحقها الرجل الذي يفقد اتزانه , فيقع ويتشنج ويدور حول الفراش خلف المرأة .
وتبدو المفارقة في المتوقع نفسه حين يبدو الفراش عن يمين الحجرة مشعثاً , وكأنه كان مسرحاً للحظات من المتعة ؛ ولكن المشاهد يدرك الآن سر الفوضي التي يبدو عليها الفراش , إنها من آثار سلوك هو أبعد ما يكون عن الاتصال الجنسي , أنه هكذا من أثار معركة رهيبة بين مخلوقين غريبين كأنهما ليسا من عالم الناس.
وتمعن هي في التمثيل به, فتظهر الترفق له ، ويُخدع للمرة الألف ؛ حتي ليتساءل المشاهد ما وظيفة هذا الرأس المستدير الذي يحمله المعبر فوق جسمه الرياضي الجميل هذا ؟ وأي قبح يتمثل في هذا الجسم الإنساني حين تنقصه حكمة العقل؟00 وحتي المرأة في هذه الحالة فإنها تبدو عدوة لكل متفرج رجل ، ولست أدري النظارة من النساء0
ولكن اللعبة الخطرة التي تمارسها المرأة مع الرجل تشد بتشويقها المشاهد ، حتي لأحس أنا كواحد من المشاهدين بازدياد نبضات القلب وخفقان الصدر في شىء يشبه اللهاث ، ونود أن نطلع علي نهاية كل هذا0
لكن المعبرة لا تبخل علينا بطلبتنا ، وتنصرف إلي عامود ، ثم تعقد الحبل المشدود عليه رسن مشنقة ، وتضع تحته مقعدا عاليا تهيئة00 ثم تتجه إلي المعبر الملقي علي الأرض في مهانته ، وتظهر له الرقة ، وترفعه ، وتحتضنه ، وتذيقه لحظة دفئا عاطفيا ما ، يذيب فيه كل ما عساه يكون قد تبقي من عقل الرجل ، ولكنها تجلسه علي المقعد ، والابتسامة التي تكاد الآن تفضح عن سرها الغامض تتسع ، وتزداد عيون الراقصة بريقا0
ولكن الراقص/ الجسد - الذي لم يرفع عينيه عن سيقان الراقصة العارية الصارخة الفتنة - لا يلتفت إلي الابتسامة الساخرة الهازئة الماكرة الخبيثة ، لا يلتفت أبدا إلي ذلك ، ولو لاحت منه التفاتة إليها لخدع نفسه عن معناها عمدا ، لأنه لا يحس إلا معني الرغبة الغبية0
وتعلم المرأة ما علمت منذ البداية هذا الغباء الرجالي، وتمعن في النكال به حتي النهاية ؛ فبعد أن أعدت حبل المشنقة وأعدت من تحته مقعد الموت المرتفع ، تلقن الرجل بطرق الإشارة الموحية كيف يتصرف بطريقة تريدها00 وهل تريد له الآن إلا الموت شنقا؟! ومن ثم تقيمه من فوق المقعد في صدر المسرح وتدفعه برجلها لكي تمثل له كيف يشنق نفسه في الوقت المناسب .
وتعلم هي مناسبة هذا الوقت . تعلم أنه لن يتردد في الانتحار إذا صدم صدمة أكبر من كل الصدمات التي تلقاها ، وذلك حين يكتشف بعد فوات الوقت أنه أتفه من أن يستحق الحياة ، وحين تطمعه فيها كل الطمع وتجعل أمله يتعلق بها تمام التعلق وعقله صفرا ، تفتح له ذراعيها ، ثم تتراجع وتتراجع ، وتولي من أمامه وتختفي.....
ويدور الرجل الذي يرفع بصره عن مستوي السيقان الغائبة لأول مرة ، ولا يري إلا رسن المشنقة فلا يتردد ، ويحزم أمره لأول مرة ويقرر، ويصعد ويعلق نفسه ، ويتأرجح .
ويختفي المشهد كله ، وتختفي جميع تفاصيلة ؛ ولكنه يبعث في المشاهد المشدوه صورة واحدة ، قد كانت خافتة باهته ، ولكنها تتكلم بلسان فصيح الصمت وتعبر عن السخرية المريرة ، وتلك هي صورة البسمة التي لم يحتفل أحد بها منذ البداية .
▲والقيم البناءة في هذا العمل العظيم تتمثل في هذه البسمة بأجل معانيها ؛ لقد قالت المعبرة كلاما بغيرا لسانها ، وقال المعبر شيئا ما رغم عِيِّه وإِعيائه ، وأوحت لنا به فيه المفارقة في خواء رأسه المستدير من العقل والحزم ، وأوحت لنا به في المرأة صور القسوة الكريهة التي تصدر عن جسدها الأنثوي العارم بالفتنة والجمال الذي وظفته في غير وظيفته0
* وهذا الباليه بإمكانياته الفنية الغنية دعوة بليغة إلي اكتشاف العقل ، وإعماله في مواجهة مغريات المادة ، هو دعوة تتضمن أخطر خصائص :مضمون الخطبة الأخلاقية والموعظة الدينية ، هو في ذاته موعظة أخلاقية ولكنها في قالب فني بليغ آخر غير الخطبة وغير المحاضرة وغير الإلقاء المباشر ، وإنها لتفيد أناسا كثيرين أكثر مما تفيدهم خطب المساجد أو عظات الكنائس أحيانا .
* وإلي جانب المقومات الفنية الكثيرة التي يغني بها العمل من فنون الإضاءة والموسيقا والإخراج ، وأساليب التعبير الرامزة المختلفة في العمل ، فإننا نقف علي سر من أسرار بلاغة هذا البالية ، وهو عنصر الصدق الفني ، فهو يكثف التجربة الإنسانية للجنس البشري تكثفا شديدا؛ فالمرأة علي المسرح هي جماع كل النساء علي مسرح الحياة الزوجية ، والرجل كذلك .
* واحتواء الرغبة علي العقل أو عدم احتوائها عليه أمر ملحوظ في تجارب كل رجل وكل امرأة ، بل ذلك هو المضمون الأخلاقي للحب والالتقاء بين الرجل والمرأة ، واقتران الحب بالكره أو امتزاجه به واقع في تركيب عاطفة الحب كما بيننا عن النفسانيين في بحث سابق[5] وحاجة الحياة إلي العقل أمر مسلم به في كل فكر بناء ، كما أن المرأة كتكوين جميل جانب متمنع واقع يحقق للإنسانية البقاء كما بينا من قبل وكذلك الإغراق في الشهوة وتعمد إغلاق العين عن الخطر الداهم المائل في البريق الكهربي الصاعق قمين أن يؤدي إلي هلكة محققة ، وتمثيل هذه الأمور علي المسرح إشارة تحذير للسائرين في ردهات معرض الحياة من تكرار نفس الخطأ، والصدق والصراحة في هذا الضرب من الفن الرفيع يجعله لا يفصل بين عنصر الإمتاع وعنصر التثقيف أو التعليم والتوجيه .
* بل إننا نقول إن تجريد مثل هذا العمل من قيمة التثقيف أو التوجيه والعظة لا يبقي للمتفرج إلا ألما لاذعا وتنغيصا شديد الوطأة0 إن تجريد الفن من قيمه الأخلاقية يجرده من عنصر الإمتاع الجمالي نفسه ، كما أن تجريد هذا الباليه من هذه القيمة يجعله شوكة تغز شعورالمتفرج وتؤزه أزّاً ، وتجعله يهرب من المشهد ؛ إذ لم يجد فيه إلا مشاهد إيذاء الشعور من الركل بالأقدام والإجهاد العقيم والانتحار العدمي ، وهي مشاهد لا يليق بالذوق الراقي فعلها أو مشاهدتها في غير هذا العرض ، ومثل هذه المشاهد قمينة أن تجعل الناس يفَْرَقون منها ولا يشاهدونها ويتجنبون ذكرها لأنها فى هذه الحالة تكون جريمة بشعة فى عرض الطريق أو شجارا بذيئا مبتذلا .
▲ولقد قلت إن صور الباليه بعد إطفاء ضوء المسرح وإنزال الستار قد اختفت أو بهتت معالمها ولم يبق إلا البسمة البليغة الباقية الآمرة بالتعقل من طريق السُّخْر بالشهوة ؛ ومعنى هذا أنه يبقى للمتفرج من العمل الفنى الجيد حظ طيب من المتعة لا يزول أو يتناهى بتناهى العمل الفنى نفسه . وهى متعة كان من أول أسباب بقائها أنها بنَّاءة نافعة ومُلِذَّة فى ذاتها متى كانت غير متكلفة .
hakim.eg.vg
[email protected]
[email protected]
+20189063054
* * * *
مصادر الفُصْلة ومراجعها ووثائقها [6]
- ج . ب . ل ويلسون, ترجمة محمود خليل النحاس واحمد رضا محمد رضا / معجم الباليه, تأليف, دار الكاتب العربي للطباعة والنشر, القاهرة (غير مؤرخة) .-
- عبد الحكيم العبد / الجهود البلاغية عند أحمد حسن الزيات, ماجيستير بأداب الاسكندرية- 1976م
- القناه الثانية بالتليفزيون المصري / عروض : 16/4/74, الساعة 10.30 مساءاً - 29/1/1999 من 10-11م. الخ
- مصطفي سويف / " أفات عند الجذور" مجلة الهلال, مايو 1999م
- هنري وسيمون ترجمة د. محمود أحمد المفتي / أشهر الأوبيرات,
An Iintroduction to Ballet, Compiled by Craig Dodd… -
Dictionary of Modern Ballet, Tudot Pulishig comp. NewYork-
Swan Lake , Thames Gold Collection -
مصادر عربية خاصة
القرآن الكريم (سورة ق - يوسف )
القاموس المحيط للفيروزأبادى
[1] Dictionary of Modern Ballet, Tudor publishing Company, New York,p.187,188
- معجم الباليه, تأليف ج.ب.ل ويلسون, ترجمة محمود خليل النحاس واحمد رضا محمد رضا, دار الكاتب العربي للطباعة والنشر, القاهرة, ص265,264.
[2] - معجم الباليه....., ص131,130- واستخدامنا لفظ "معبر" و "معبرة" باعتباراً المضمون المفترض فنياً, وكما في الاستعمال الانجليزي Interpreted ، كما أو مأنا,
[3] - نفسه – دالي, سلفادور ص 141.
[4] - An Introduction to Ballet, Compiled by Craig Dodd… p.7, introduction
-[5] الباحث/ الجهود البلاغية عند أحمد حسن الزيات, ماجيستير بأداب الاسكندرية- 1976م, الفصل الثالث (نظرية الزيات في الجما والفن)
[6] - الفصلة من كتابنا / القيمة فى المسرح والفنون : توصيف وعروض حية وتاريخية ، وتناول نقدى تذوقى قيمى فى الثقافة والمسرح والرسم والباليه والميثولوجيا .. مع ملحق فى التصوير الإسلامى والتغذيات الراجعة ، ط 2 ، معدة 2004م – 1425هـ {86 – 96}
- ونشراً بجريدة عمان, مسقط في 16/11/89 العدد 3103
ساحة النقاش