الخيار الأسوأ: الدولة العلوية في سوريا

المحددات والتداعيات

د. عصام عبد الشافي

 مع استمرار الأزمة في سوريا، وعجز الأطراف المعنية عن تسويتها بما يضمن لسوريا وحدتها، برز بديل تقسيم سوريا، وتصاعد الجدل بشأنه، مع تعدد الأطروحات التي تنادي به وتدافع عنه، وتستند هذه الأطروحات إلى عجة اعتبارات، تسوقها للتسويق لاحتمال التقسيم، منها:

الاعتبار الأول: وجود تركز نسبي للطائفة العلوية التي يستند عليها النظام في منطقة الساحل والجبال (جبال العلويين الممتدة من عكار جنوبًا إلى طوروس شمالًا)؛ حيث مدن: اللاذقية، وطرطوس، والأرياف، والجبال المتاخمة لها، فضلًا عن وجود أعداد كبيرة من هذه الطائفة في ريف حمص وحماة:

الاعتبار الثاني: الظلم الذي تعرَّض له العلويون في مرحلة الحكم العثماني، ومحاولة فرنسا إقامة كيان لهم في بداية الانتداب على سوريا عندما منحتهم حكمًا ذاتيًّا عام 1923م، وإذا كان العلويون لم يكونوا استثناء في الظلم الذي أصابهم تحت الحكم العثماني، لكنَّ نصيبهم كان أكبرَ، وارتبط بتهميش أوسع، لأنَّهم كانوا الأقلية الوحيدة التي لم تحظ بحماية خارجية خلال هذه الفترة التاريخية التي هيمنت فيها القوى الاستعمارية على مقدرات دول المنطقة.

الاعتبار الثالث: الخبرة التاريخية: حيث حاولت فرنسا أثناء انتدابها على سوريا فرض النزعةِ الاستقلالية لدى العلويين، عبر إقامة "حكومة اللاذقية"، التي عُرفت باسم "دولة العلويين" عام 1923، وهذه التجربة التاريخية يعتبرها البعض مؤشرًا على وجود أساس لدولةٍ علوية، بينما يرى آخرون أنَّ قصر الفترة التي استمرت فيها (1923ـ1936م) يمكن أنْ يكون دليلًا على فشلها، واضطرار فرنسا للتراجع عنها تحت ضغط تيار الوحدة والاندماج في المنطقة آنذاك.

الاعتبار الرابع: وجود أغلبية علوية في منطقة الساحل والجبال على نحو يجعلها ملاذًا لأبناء الطائفة الذين سيفرون من باقي أنحاء سوريا؛ خوفًا من الانتقام في حال سقوط انتصار الثورة الشعبية في سوريا.

الاعتبار الخامس: احتمالات التوافق الدولي على بديل التقسيم، باعتباره "أفضل الممكن"، أو "أقل الخيارات سوءًا" في ظل شراسة العمليات العسكرية التى يشنها نظام الأسد ضد شعبه وعدم قدرة المجتمع الدولي على فرض تسوية سلمية للأزمة حتى الآن.

الاعتبار السادس: قدرة دول الجوار الجغرافي والقوى الإقليمية العربية والإسلامية على الحيلولة دون هذا التقسيم، لما يمكن أن يترتب عليه من تداعيات.

في حال قيام هذه الدولة، فإن هناك مجموعة من التداعيات التي يمكن أن تترتب عليها، وفي إطار هذه التداعيات يمكن التمييز بين ثلاث مستويات:

الأول: تداعيات على المستوي السوري: ومنها فتح الباب واسعاً أمام مزيد من التقسيم والتشرذم أمام وجود أقلية كردية في الشرق يمكن أن تسعي للانقسام.

الثاني: تداعيات على المستوي الإقليمي: وترتبط هذه التداعيات باختلال التوازنات الإقليمية في المنطقة لصالح قوى غير عربية، فبعد خروج العراق من معادلة التوازن الإقليمي، وتصاعد الدور الذي تقوم به تركيا وإيران، فإن هذا الدور مرشح للتصاعد في حال تقسيم سوريا وظهور الدولة العلوية، لأن هذه الدولة ستكون بدرجة كبيرة حليفة لإيران على اعتبار أنها أهم حلفاء الأسد في الأزمة الراهنة، وهو ما من شأنه إثارة البعد المذهبي بين السنة والشيعة بمعدلات أكبر وأخطر. كما أن تركيا ستتحرك بحرية أكبر في شمال سوريا حيث الحدود المشتركة، وكذلك ستحاول إسرائيل الاستفادة من الوضع بتمديد نفوذها في الجولان المحتل، وفي جنوب لبنان، ومحاولة احتواء الدويلات الوليدة في سوريا وخاصة أنها ستكون دويلات حبيسة إذا سيطر العلويون على ساحل المتوسط.

الثالث: تداعيات على المستوي الدولي: وتربتط هذه التداعيات بنجاح الولايات المتحدة في فرض مخططاتها القائمة على "تقسيم المقسم" و"تجزئة المجزأ" فهذه المنطقة سبق تقسيمها في اتفاق سايكس بيكو 1916، فقد تم تقسيم منطقة الهلال الخصيب بموجب الاتفاق، وحصلت فرنسا على الجزء الأكبر من الجناح الغربي من الهلال (سوريا ولبنان) ومنطقة الموصل في العراق. أما بريطانيا فأمتدت مناطق سيطرتها من طرف بلاد الشام الجنوبي بالإتجاه شرقا لتضم بغداد والبصرة وجميع المناطق الواقعة بين الخليج العربي والمنطقة الفرنسية في سوريا. كما تقرر أن تقع فلسطين تحت إدارة دولية يتم الاتفاق عليها بالتشاور بين بريطانيا وفرنسا وروسيا. ولكن الاتفاق نص على منح بريطانيا مينائي حيفا وعكا على أن يكون لفرنسا حرية استخدام ميناء حيفا، ومنحت فرنسا لبريطانيا بالمقابل استخدام ميناء الاسكندرونة الذي كان سيقع في حوزتها.

ثم أكد مؤتمر سان ريمو عام 1920 على اتفاقية سايكس بيكو، واستكمالاً لمخطط تقسيم وإضعاف سورية، عقدت معاهدة لوزان عام 1923 وبموجبها تم التنازل عن الأقاليم السورية الشمالية لتركيا، وقسمت الاتفاقية سوريا الكبرى إلى دول وكيانات سياسية قزمية شملت العراق وسوريا، ولبنان، وفلسطين والأردن.

واليوم وبعد نحو 90 عاماً يعود الحديث مجدداً عن التقسيم، في وقت أصبح العراق مقسماً فعلياً لثلاث دويلات "كردية في الشمال، وعربية سنية في الوسط، وشيعية في الجنوب"، ثم يأتي دور سوريا لاستكمال مخططات التقسيم التي تساعد نظمنا السياسية في نجاحها بما تتمتع به من غباء سياسي متفرد.

ومع خطورة مثل هذه التداعيات، يبرز السؤال الأهم، حول الكيفية التي ستتعاطي بها القوى الإقليمية، حال أصبح خيار التقسيم أمراً واقعاً، وحقيقة قائمة؟ هنا يمكن القول أن ردود الفعل مرتبطة بحسابات المكسب والخسارة الخاصة بهذه القوى، ووفقاً لخريطة القوي الإقليمية نجد ما يلي:

1ـ تركيا: تواجه تركيا إشكالية كبرى، بين التخلص من خطر عدو كامن، ممثلاً في نظام الأسد في ظل علاقات تاريخية متوترة خلال العقود الأربعة الأخيرة، وما يمكن أن يفرزه خيار التقسيم من تفردها إقليمياً، هذا من ناحية، وبين التداعيات السلبية للتقسيم ومخاطر القضية الكردية، ومخاطر انتشار جماعات العنف السياسي، وخاصة أن لها مما حدث في العراق تجربة مريرة.

2ـ إيران: إذا كان قيام دولة علوية حليفة لإيران يمثل مكسباً فإنه يبقي مكسب محدود على حساب سوريا الكبرى كحليف سابق، لأن الدولة الجديدة ستكون هامشية وغير مؤثرة وغير قادرة على إدارة التفاعلات الدولية والإقليمية.

3ـ إسرائيل: تظل دائما المستفيد الأكبر من كل المشكلات والتحديات التي تواجه الدول العربية والإسلامية، وستكون استفادتها أعظم حال تقسيم سوريا، لأن التقسيم يعني حسم ملف الجولان للأبد، وانتهاء الدعم السوري لجماعات المقاومة الفلسطينية، وكذا انتهاء الدعم السوري لحزب الله في لبنان، وكذا إمكانية احتواء الدويلات الوليدة في سوريا بعد التفتيت.

4ـ المملكة العربية السعودية: تمثل الطرف الخاسر في معادلة التقسيم، لأنه بعد تدمير بوابة العرب الشرقية ممثلة في العراق، بعد سقوط نظام صدام، وما جره عليها من تداعيات سلبية، يأتي تقسيم بوابة العرب الشمالية، ليفرض مزيداً من التداعيات السلبية، أبرزها: تكوين دولة، غالباً شيعية في سوريا مما يعني ترسيخ الوجود الإيراني، من ناحية، وخطر جماعات العنف على أمنها واستقرارها، من ناحية ثانية، وخسارة استثماراتها الاقتصادية الضخمة في سوريا من ناحية ثالثة، وتراجع مكانتها مقارنة بتركيا وإيران وإسرائيل، من ناحية رابعة.

5ـ مصر: تعاني مصر من تراجع إن لم يكن غياب دورها الإقليمي في السنوات العشرين الأخيرة، وتحديداً منذ انتهاء حرب الخليج الثانية 1991، ولكن مع محاولات استعادة هذا الدور بعد ثورة يناير 2011، تمثل الأزمة في سوريا اختباراً قوياً لمكانة مصر ونفوذها، فقدرة مصر على إنجاح مبادرتها الرباعية من شأنه تجنيب المنطقة من كل الأخطار التي يمكن أن يفرزها احتمال التقسيم في سوريا، والحفاظ على سوريا موحدة وقادرة على البقاء في مواجهة التحدى الوجودى الإسرائيلي.

وبعد ...

إن الحديث عن بديل تقسيم سوريا لا يعني الاعتراف بأنه قد أصبح واقعاً قائماً، ولكن الموضوعية تقتضي تحليل كل البدائل والسيناريوهات التي يمكن أن تسير في إطارها الأحداث في سوريا، حتى نقف على أبعادها، ونستطيع التعاطي بفاعلية مع تداعياتها.

ومع خطورة ما يمكن أن ينجم عن مثل هذا البديل من تداعيات خطيرة يبقي الأمل في أن يعي العقلاء من أبناء سوريا وقادتها أولاً ومن حكام الدول العربية والإسلامية ثانياً، أبعاد هذا الخطر ويبذلوا من الجهد ما تستحقه سوريا ووحدتها.

المصدر: د. عصام عبد الشافي
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 287 مشاهدة
نشرت فى 24 سبتمبر 2012 بواسطة ForeignPolicy

ساحة النقاش

ForeignPolicy
موقع بحثي فكري، يعني بالعلوم السياسية بصفة عامة، والعلاقات الدولية، بصفة خاصة، وفي القلب منها قضايا العالمين العربي والإسلامي، سعياً نحو مزيد من التواصل الفعال، وبناء رؤي فكرية جادة وموضوعية، حول هذه القضايا، وبما يفيد الباحثين والمعنيين بالأمن والسلام والاستقرار العالمي. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

105,059

ترحيب

يرحب الموقع بنشر المساهمات الجادة، التى من شأنها النهوض بالفكر السياسي، وتطوير الوعي بقضايانا الفكرية والإستراتيجية، وخاصة في  العلوم السياسية والعلاقات الدولية