محاسبة الرؤساء: التداعيات الإقليمية لمحاكمة مبارك

د. عصام عبد الشافي

 

بعد أن أصبح الخامس والعشرين من يناير 2011، يوما تاريخياً ليس فقط في حياة الشعب المصري، ولكن أيضاً في حياة العديد من الشعوب العربية، سيكون يوم الثالث من أغسطس 2011، يوما تاريخياً آخر في حياة هذه الشعوب، ففي هذا اليوم بدأت أولي جلسات محاكمة الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك، وعدد من أركان نظامه، في محاكمة هي الأولي من نوعها ـ وفقاً لطبيعتها وظرفها ـ في التاريخ المصري والعربي. محاكمة وطنية، جاءت نتيجة تطورات ومطالب شعبية، وليس نتيجة ضغوط وإملاءات خارجية، وبغض النظر عن ما يمكن أن تنتهي إليه هذه المحاكمة من أحكام أو إدانات، تبقي المحاكمة حدثاً تاريخياً، بكل المقاييس والمعايير السياسية والاجتماعية والثقافية، يزيد من أهميتها ما يمكن أن يترتب عليها من تداعيات إقليمية ودولية، وخاصة على النظم السياسية والقوي الشعبية في المنطقة العربية.

ويمكن تناول هذه التداعيات وفق عدة مستويات تحليلية ـ رئيسية وفرعية ـ وذلك على النحو التالي:

المستوي الأول: تداعيات المحاكمة على الدول العربية الثائرة:

تشهد عدة دول عربية ثورات مستمرة منذ عدة شهور، تحول بعضها إلى مستويات عالية من العنف والدموية، وصلت إلى تدخل القوات العسكرية الأجنبية، كما في الحالة اليمنية، والاستخدام المفرط للقوة، من جانب القوات الأمنية والعسكرية، كما في الحالة السورية، والحفاظ ـ بتحفظ ـ على الصراع السلمي كما في الحالة اليمنية، وفي الحالات الثلاث، وصلت النظم السياسية إلى مراحل متدنية من الشرعية، وغياب المصداقية وتراجع التأييد الداخلي والخارجي، وكانت البداية في ليبيا مع تشكيل مجلس وطني انتقالي وتزايد الاعتراف الدولي به، ثم جاء دور اليمن، مع رحيل الرئيس اليمني بدعوى تلقي العلاج، والآن تقترب سيناريوهات الرحيل من النظام السوري.

وفي إطار هذه المجموعة من الدول، يمكن التمييز بين مستويين فرعيين من مستويات تأثير محاكمة مبارك:

أولاً: مستوي النظام السياسي:

لقد وضعت محاكمة مبارك الحكام العرب في مأزق شديد أمام طموحات وتوقعات شعوبهم نحو الديمقراطية والليبرالية، ولم يعد أمام الكثير من هذه الأنظمة العربية سوى تقديم المزيد من التنازلات نحو مطالب شعوبهم هروباً من مصير النظام المصري، فالتجربة المصرية الفريدة في المحاكمة الداخلية، الذاتية، دون ضغوط أو تأثيرات خارجية، أعطت  الشعوب العربية الجرأة والشجاعة لتكرار ما حدث في مصر بعد إزالة حاجز الخوف الفاصل بين الحاكم والشعوب العربية، وبالتالي سيكون سقف المطالب أكبر.

إلا أنه في المقابل يمكن القول أن هذه المحاكمة ستزيد من صعوبة مهمة الثورات التي تناضل من أجل الحرية، فالثوار سيواجهون تمسكا أكبر للحكام بكرسي السلطة، وفي سبيل تحقيق ذلك سيفرطون في العنف تجاه الثوار، كما أن فكرة التنحي بعد مشهد مبارك أصبحت غير واردة على الإطلاق، لأن هؤلاء الحكام سيكون لديهم خوف أكبر من محاكمتهم كما حدث مع مبارك، يزيد من هذا الخوف، الغياب المؤسسي في هذه الدول مقارنة بمصر، بما يفتح الطريق أمام محاكمات قد يغلب عليها الانتقام والتشفي وضعف معايير الموضوعية والعدالة.

ثانياً: مستوي القوي الشعبية والجماعات الثورية:

من شأن هذه المحاكمة، وبالشكل الذي تمت به أن ترفع الروح المعنوية لهذه القوي وتلك الجماعات، وتضاعف من قوتها وإصرارها على تحقيق أهدافها، خاصة وهي تري قوة التأثير الشعبي على مسار الأحداث وتطوراتها في الحالة المصرية، وثقة هذه الشعوب في نفوسها، وفي أنها لا تقل عزيمة أو إصراراً عن الشعب المصري، وعن الملايين التي تخرج أسبوعياً في كل ميادين مصر، للحفاظ على ما تحقق من مكتسبات وتصحيح مسار الثورة.

المستوي الثاني: تداعيات المحاكمة على الدول العربية الكامنة:

في مقابل المجموعة الأولي من الدول الثائرة، توجد مجموعة أخرى من الدول التي تشهد ثورات كامنة، أو مؤشرات على ثورات قادمة، في ظل النيران الكثيرة الكامنة تحت رماد هذه النظم، وفي مقدمة هذه الدول الممالك العربية الأربعة (البحرين والسعودية والأردن والمغرب)، وكذلك الجزائر، ناهيك عن العراق وإيران لو قمنا بتوسيع دائرة التأثيرات الإقليمية.

ووفق هذا المستوي يمكن القول أن المحاكمة تشكل رسالة للنظم السياسية في دول الخليج التي تعتبر الأكثر تضررًا من محاكمة مبارك، لأنها تخشى من تحول المحاكمة لنموذج يحتذى به بعد ذلك ويشجع الشعوب للخروج على تلك الأنظمة هناك، ولذلك قامت مبادرة هذه الدول لإنهاء الأزمة في اليمن على أساس عدم محاكمة الرئيس على عبد الله صالح بعد تخليه عن السلطة.

ومن ناحية أخري فإن هذه المحاكمة تمثل رسالة لقادة هذه الدول، مفادها أن الولايات المتحدة، حليفهم الأكبر لن تقف إلى جانبهم، كما حدث مع مبارك، الذي كان الأقرب والأخلص لها من الكثيرين منهم، رسالة مفادها أنه حتى القائد الذي حكم بيد من حديد عشرات السنين، ليس فوق القانون، متى أراد الشعب ذلك، وهو أمر لم يعد بعيداً عن أية دولة أو أى نظام، وفقاً للشواهد الراهنة.

المستوي الثالث: تداعيات المحاكمة على الثقافة السياسية العربية:

وفق هذا المستوي تبرز عدة تداعيات، من بينها: أن مشهد المحاكمة أعطى نموذجًا بأن سيادة القانون فوق كل شيء، وليس سيادة مبدأ الانتقام والفوضى، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، أن المحاكمة ـ كما جاء في أولي جلساتها ـ تقدم صورة حضارية سامية، لأنها استوفت شروط الادعاء والدفاع، وحضور الشهود ليدلوا بأقوالهم، رغم الشحن الإعلامي الكبير ورغم طبيعتها السياسية وارتباطها بأشخاص كانوا في قمة النظام السياسي، بما يمكن أن يؤثر في مساراتها، وهي سابقة تعطي دلالة بأن القضاء يجب أن يتمتع باستقلاليته ونزاهته، والنهوض بدوره في الدفاع عن الحقوق والحريات ضد كل من ينتهكها أو يلتف عليها، مهما كانت سلطاته، ومهما كان موقعه، وبغض النظر عن انتماءاته السياسية أو الاجتماعية أو الفكرية أو الدينية أو العرقية.

ومن ناحية ثالثة، أن ظهور الرئيس المخلوع بالصورة التى كان عليها، من شأنها أن تفرز تغييراً كبيراً في نظرة القداسة التي تخلعها الشعوب العربية على حكامها، كما تشكل في الوقت نفسه آية لكل الرؤساء والحكام الذين يعيثون فسادا في شعوبهم، حتى يتأكدوا أنهم إلى ذات المصير إن هم احتقروا شعوبهم واستنزفوها فسادا ورشوة وعبثا بمقدراتها... آية لكل المتجبرين في الأرض أن يعيدوا النظر في النفوس التي ظلموها وفي الحقوق التى أخذوها بالباطل، وفي المقدسات التي انتهكوها دون وجه حق.

المستوي الرابع: بحثاً عن العدالة .. من التالي؟

في ظل التأثيرات والتداعيات السابق الإشارة إليها، يبرز سؤال مهم: حول من التالي من الرؤساء والقادة العرب الذي يمكن أن يخضع للمحاكمة، في إطار البحث عن العدالة؟.

إن رؤساء الدول يتمتعون بحصانات قانونية داخلية ودولية، كما أن محاكماتهم تخضع لتوازنات دولية ومصالح سياسية، فالرئيس السوداني عمر البشير صدرت ضده مذكرة توقيف من المحكمة الجنائية الدولية ولم ينفذ القرار حتى الآن، وهو ما تكرر مع العقيد الليبي معمر القذافى الذى صدرت ضده مذكرة توقيف من المحكمة الجنائية الدولية في السابع والعشرين من يونيو الماضي، وعلى الرغم من صدور هذه المذكرة فإننا أمام احتمالين، الأول أن تتم محاكمة القذافى، من خلال حلف الناتو بعد أن يتم القبض عليه وتقديمه للمحكمة الجنائية الدولية، والثاني، أن يتم القبض على القذافي عن طريق المجلس الانتقالى الليبى والثوار الليبيين، ثم نجاحهم فى الاستيلاء على الحكم وتقديم القذافي لمحاكمة داخلية على غرار ما حدث في مصر.

وفيما يتعلق بالرئيس السوري، بشار الأسد، فالحالة شديدة التعقيد، وخاصة مع زيادة عدد القتلي والجرحي، والاستخدام المفرط للقوة من جانب قوات الأسد، دون وجود أى تدخل دولى أو وجود قوات دوليه تحد مما يقوم به بشار، وعلى الرغم من تهديد كل من روسيا والصين باستخدام حق الفيتو لمنع إصدار أى قرار من مجلس الأمن بالتدخل فى سوريا، فإن تفاقم الأوضاع الإنسانية في سوريا، ومع تغير مواقف بعض الدول، وفي ظل الاعتبارات الإقليمية، التي تقوم في جانب منها على تصوير الصراع في سوريا على أنه يتم بدعم إيراني لنظام بشار، فإن ذلك يمكن أن يشكل دعما للثوار في سوريا، ويزيد من إصرارهم وتماسكهم، ويقود في نهاية المطاف لصدور مذكرة توقيف دولية بحق بشار، كمقدمة لمحاكمته، بما يتفق والتوازنات الإقليمية والدولية.

وقد بدأت بالفعل عدة مراكز ومؤسسات حقوقية التحرك في هذا الإطار، من خلال إعداد مذكرات جنائية ضد الرئيس السورى، وتقديمها إلى المحكمة الجنائية الدولية، تطالب فيها بضرورة إصدار قرار فورى بتوقيف الأسد واعتقاله، تمهيداً لمحاكمته عن تلك الجرائم بصفة المسؤول عن تابعيه، بالإضافة إلى مخاطبة مجلس الأمن الدولى، لحثه على اتخاذ إجراءات عاجلة تجاه السلطات السورية، وصولاً لمحاسبتها على ممارستها القمعية تجاه مواطنيها.

وأياً كانت السيناريوهات المحتملة، تبقي الاعتبارات السياسية، حاضرة وبقوة في هذه المحاكمات، فالدول في سياساتها الخارجية، بل وحتي في كثير من سياساتها الداخلية، نحت القيم والمبادئ الأخلاقية جانباً، وأصبحت المصالح هي الأداة التي تتحكم في تحديد المسارات ورسم السياسات، ومن هنا، وحفظاً للحقوق الدنيا من هذه القيم وتلك المبادئ، وحتى لا تكون هذه المحاكمات مقدمة لحمامات من الدماء تحت نزعة التشفي والرغبة في الانتقام، وحتى لا تكون هذه المحاكمات مقدمة، لمزيد من التفتيت والانقسامات في الدول العربية، فإن سيناريو المحاكمات الدولية، هو البديل الأنسب وإن كان ليس الأفضل، في مثل هذه الظروف الاستثنائية، التي تمر بها منطقتنا العربية.

 

  • Currently 1550/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
516 تصويتات / 571 مشاهدة

ساحة النقاش

ForeignPolicy
موقع بحثي فكري، يعني بالعلوم السياسية بصفة عامة، والعلاقات الدولية، بصفة خاصة، وفي القلب منها قضايا العالمين العربي والإسلامي، سعياً نحو مزيد من التواصل الفعال، وبناء رؤي فكرية جادة وموضوعية، حول هذه القضايا، وبما يفيد الباحثين والمعنيين بالأمن والسلام والاستقرار العالمي. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

104,880

ترحيب

يرحب الموقع بنشر المساهمات الجادة، التى من شأنها النهوض بالفكر السياسي، وتطوير الوعي بقضايانا الفكرية والإستراتيجية، وخاصة في  العلوم السياسية والعلاقات الدولية