السياسة الأمريكية وعلاقات مصر ودول حوض النيل
بعد ثورة يناير (3)
د. عصام عبد الشافي
من المقولات المهمة في إطار تفسير أنماط العلاقات الدولية، أن القوى الكبري تلجأ إليى غرس محفزات الصراع في الأقاليم التي تخضع لنفوذها، كما تغرس محفزات الاستقرار، حتى تكون محفزات الصراع جاهزة للاستخدام، والاستثارة متي شذت ـ أو حاولت ـ دولة أو أكثر من دول هذا الإقليم عن السياسة الأمريكية، وحاولت تبني سياسة معارضة للمصالح الأمريكية.
وفي هذا الإطار يمكن رصد عدة احتمالات لطبيعة تأثير السياسة الأمريكية على العلاقات بين مصر ودول حوض النيل بعد ثورة يناير، وذلك على النحو التالي:
الأول: تحفيز الصراع:
يمكن القول أن سيناريو إثارة الصراع في منطقة حوض النيل، بدعم أمريكي، قابل للتحقيق في حالة توفر عدة شروط منها:
1ـ قيام إسرائيل ـ كطرف فاعل في المنطقة ـ بممارسة دورها في الضغط على السياسة الأمريكية، وتوجيهها بما يتفق ومصالحها، والتي تتعارض في كثير من الحالات مع المصالح المصرية.
2ـ تبني مصر ـ بعد الثورة ـ سياسة خارجية تتعارض مع توجهات ومصالح الولايات المتحدة الأمريكية، وخاصة في القضايا ذات الاهتمام الأمريكي الرئيسي في المنطقة، وفي مقدمتها ـ بطبيعة الحال ـ قضية الصراع العربي الإسرائيلي.
3ـ نزوع مصر ـ بعد الثورة ـ لتبني دور إقليمي نشط، يتعارض والتوجهات الأمريكية، التي لا تريد أن تبرز قوى تنافسها السيادة والهيمنة على مقدرات القوى والثروة والنفوذ في المناطق ذات الأهمية المحورية في السياسة الأمريكية، ومنها منطقة حوض النيل، والقرن الأفريقي.
4ـ الضغوط التي ستمارسها بعض القوي الإقليمية، على الولايات المتحدة الأمريكية، لتحجيم نفوذ مصر، واحتواء ثورتها، وتقييد حرية حركتها، في ظل المواقف الواضحة ـ المضادة ـ للثورة المصرية، وما حققته من نجاحات.
5ـ طبيعة النظام السياسي المصري، بعد الثورة، وتركيبته السياسية، وما يقوم عليه من توجهات، ومدى تعارض هذه التوجهات مع المصالح والسياسات الأمريكية.
الثاني: تحفيز التعاون:
سيناريو تحفيز التعاون بين مصر ودول حوض النيل، بدعم أمريكي، قابل للتحقيق في حالة توفر عدة شروط منها:
1ـ وجود الولايات المتحدة كطرف فاعل في مشروعات التعاون التي تتبناها هذه الدول أو تعلن عن تبنيها، سواء فنياً أو اقتصادياً أو إستراتيجياً، أو إشرافياً.
2ـ فتح المجال في هذه المشروعات أمام القوى الإقليمية، المتنافسة أو المعارضة، للدخول فيها مستقبلاً، والتأكيد على أن هذه المشروعات لا تتعارض وما تتبناه هذه القوى من مشروعات، وأنها يمكن أن تتم في إطار من التنسيق والتعاون المشترك، وخاصة أن الجانب الأكبر منها سيتم في إطار منظمات إقليمية قائمة بالفعل، وكل الأطراف المعنية، أعضاء في هذه المنظمات بشكل أو بآخر.
3ـ عدم قيام النظام السياسي المصري ـ بعد الثورة ـ بتبني سياسات أو توجهات معارضة للولايات المتحدة، أو العمل على استثارتها، وخاصة في القضايا محل الاهتمام الرئيس.
4ـ وصول بعض النخب أو التيارات السياسية، ذات الارتباط بالتوجهات والقيم الأمريكية إلى قمة النظام السياسي في مصر، وسعي الولايات المتحدة لدعمها، داخلياً وخارجياً.
5ـ وجود بعض الملفات الأكثر إلحاحا لدى الولايات المتحدة، والتي تسعي لقيام مصر بدور مهم فيها، فتتراجع في ضغوطها في ملف حوض النيل لصالح هذه الملفات، ولو بشكل جزئي أو مؤقت.
الثالث: تجميد الوضع:
سيناريو تجميد الوضع الراهن بين مصر ودول حوض النيل، بدعم أمريكي، قابل للتحقيق في حالة توفر عدة شروط منها:
1ـ عدم وضوح الرؤية فيما يتعلق بالمرحلة الانتقالية في مصر بعد الثورة، وخاصة في القضايا ذات الصلة بالمصالح الأمريكية.
2ـ إظهار نوع من الدعم لبعض دول حوض النيل التى ترتبط معها بعلاقات قوية، مثل إثيوبيا، وخاصة في ظل توترات الأوضاع في منطقة البحر الأحمر والقرن الأفريقي، والحاجة للدور الإثيوبي في إدارة هذه الأوضاع.
3ـ التحكم ببعض أوراق المساومة فى مواجهة كل الأطراف، وتحريكها في الوقت المناسب بما يتفق وتطورات الأوضاع في المنطقة، التي تمر بمرحلة حاسمة، قد تقود لتحولات ضخمة، تعجز الولايات المتحدة عن إدراتها بما يتفق ومصالحها.
4ـ الرغبة في تجاوز مرحلة الثورات الشعبية التي تجتاح المنطقة العربية، والتي يمكن أن تنال من كل النظم السياسية، المعروفة بولائها وتبعيتها للسياسة الأمريكية، ويدفع بالإدارة الأمريكية إلى إعادة النظر في كل توجهاتها وسياساتها الخارجية، عربياً وإفريقياً.
5ـ استهلاك الوقت في قضايا هامشية، وفرعية، حتى تكتمل بعض الملفات التي تتبناها الولايات المتحدة، كاستقرار الوضع بالنسبة لدولة جنوب السودان الجديدة، واستكمال مخطط تفتيت السودان، وترويض النظام في ليبيا، واليمن وسوريا وإيران، حتى لا يتم تفتيت القوي والجهود، لصالح قضايا، قد لا تكون أكثر إلحاحاً الآن.
من واقع هذه السيناريوهات، تأني أهمية التأكيد على أن التمييز بينها، جاء لاعتبارات تحليلة فقط، فالقوى الكبري ذات التوجهات العالمية، والساعية نحو التفرد والهيمنة، لا تتبني في توجهاتها وسياساتها، سيناريوهات أحادية، أو بدائل محددة، ولكنها تجمع بين العديد من السناريوهات والبدائل، الجاهزة والقابلة للتتنفيذ والتعديل وفقاً لمصالحها وأولويات اهتماماتها، ووفقاً لتحولات الأوضاع في المناطق محل الاهتمام، وفي القضايا ذات المحورية الرئيسية، وهو ما يجب مراعاته من جانب القائمين على صنع السياسة الخارجية المصرية، في مرحلة ما بعد الثورة، وخاصة ما يتعلق منها بالبعد الأفريقي، في ظل أهميته المحورية، سياسياً وإستراتيجياً واقتصادياً.
ساحة النقاش