عائشة بنت أبي بكر العالمة، العابدة، المتصدقة
الحمدُ لله ربِّ العالَمين، والصَّلاةُ والسلام على أشْرفِ المرسَلين، وعلى آله وصحْبه وسَلَّم.
فإنَّه لا يَخْفَى على أحد مِن المُنصفين الصادقين مبلغُ ما وصَل إليه مِنَ الرِّفعة الجيلُ المسلِم، الذي ربَّاه الرسولُ محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - ونَشَّأه على مكارمِ الأخلاق، وسموِّ الأعمال، وعظمةِ الأمجاد، فأيْقَظ الشرق، وهزَّ الغَرْب، وانطلق لإنقاذِ البشريَّة مِنَ الوثنيَّة والهمجيَّة والانحطاط، وسار بالمؤمنين والمؤمنات في طريقِ المجْد والعظمة، وكان مِن أهدافه:
إخراجُ الناس مِن عبادة العباد إلى عِبادة الله وحْدَه، ومِن جَوْر الأديان إلى عَدْل الإسلام، ومِن ضِيق الدنيا إلى سَعتِها.
وما أحْرانا - نحن المسلمين والمسلِمات - في هذا العصر الذي اضْمحلَّتْ فيه القِيَم، وفسدتِ الضمائر، أن نَتحدَّثَ عن عُظمائنا الأوَّلين الذين بَنَوا لنا هذا المجدَ التليد، والذِّكْرَ اللامع، والتاريخَ الناصِع؛ أملاً في الاعتبار والنهوض.
وإنْ كانتْ نماذجُ الرِّجال كثيرة، فنماذجُ النِّساء لا تقلُّ أهميَّةً من حيث الكَيْف، والمرأة المسلِمة في صَدْر الإسلام لم تكُن أقلَّ ثباتًا في دِينها من الرجال، ولا أقلَّ تضحيةً وبَذلاً في سبيل عقيدتها.
هذا مِن حيثُ الكيْف، أمَّا من حيثُ الكمُّ، فمعلومٌ أنَّ المرأة تُشكِّل نصف المجتمع، وهي التي تَلِدُ لنا النِّصف الآخَر.
لذا يجب على كلِّ مسلم عندَه حسٌّ مرهف، وإيمان صادِق، أن يَذودَ ويُدافع عن هذا الجيل، الذي ربَّاه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لا سيَّما زوجاتِه الأطهار، وأخصّ منهنَّ عائشة - رضي الله عنها وأرْضاها، ولَعْنةُ الله على مَن أبغضها وعاداها.
ولماذا الكلام عن عائشة - رضي الله عنها؟
لأنَّه اجتمع لها مِنَ الخصائص ما لم يجتمعْ لامرأة مثلها، وقدْ أجْمَلها العلاَّمة المحقِّق ابنُ القيم - رحمة الله - قائلاً:
ومِن خصائصها: أنَّها كانتْ أحبَّ أزواج رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إليه، كما ثبَت عنه ذلك في البخاريِّ وغيرِه وقد سُئِل: أيُّ الناس أحبُّ إليك؟ قال: ((عائِشة))، قيل: فمِن الرِّجال؟ قال: ((أبوها)).
ومِن خصائصها أيضًا: أنَّه لم يتزوَّجِ امرأةً بِكرًا غيرها.
ومِن خصائصها: أنَّه كان ينزل عليه الوحيُ وهو في لِحافها دون غيرِها.
ومِن خصائصها: أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - لَمَّا أنزل عليه آيةَ التخيير، بدأَ بها فخيَّرها فقال: ((ولا عليكِ أن لا تَعْجَلي حتى تستأمري أبويك))، فقالت: أفي هذا أستأمِر أبويَّ؟! فإني أُريد اللهَ ورسولَه والدارَ الآخِرة، فاستنَّ بها - أي: اقتدى - بقيةُ أزواجه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقُلْنَ كما قالت.
ومِن خصائصها: أنَّ الله - سبحانه - برَّأها مما رماها به أهلُ الإفك، وأنزل في عُذرِها وبراءتِها وحيًا يُتْلَى في محاريبِ المسلمين وصلواتهم إلى يومِ القيامة، وشهد لها بأنَّها من الطيِّبات، ووَعَدها المغفرة والرِّزقَ الكريم، وأخبر - سبحانه - أنَّ ما قيل فيها مِن الإفك كان خيرًا لها، ولم يكن ذلك الذي قيل فيها شرًّا لها، ولا عائبًا لها، ولا خافضًا من شأنِها، بل رَفَعَها الله بذلك وأعْلى قدْرَها، وأعْظَم شأنها، وصار لها ذِكْرًا بالطيِّب والبراءة بيْن أهل الأرْض والسماء، فيا لها مِن منقبة ما أجَلَّها!
ومِن خصائصها - رضي الله عنها -: أنَّ الأكابر مِنَ الصحابة - رضي الله عنهم - كان إذا أَشْكَل عليهم أمرٌ مِن الدين، استفْتَوْها فيجدون عِلمَه عندها.
ومن خصائصها: أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - تُوفِّي في بيتها وفي يومها، وبيْن سَحْرها ونَحْرها، ودُفِن في بيتها.
ومِن خصائصها: أنَّ المَلَك أَرَى صورتَها للنبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قبلَ أن يتزوَّجها في سَرَقةِ حرير، فقال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنْ يكن هذا مِن عند الله يُمْضِه)).
ومِن خصائصها: أنَّ الناس كانوا يتحرَّون بهداياهم يومَها من رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - تقرُّبًا إلى الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيتحفونه بما يحبُّ في منزل أحبِّ نسائه إليه - صلَّى الله عليه وسلَّم - رضي الله عنهنَّ أجمعين؛ ا.هـ "جلاء الأفهام " (ص: 150- 152).
وعائِشة أوْلى نِساءِ المؤمنين بذِكْر طَرَف مِن فضائلها، ونُتف من مناقبها؛ حتى يعلمَ الجيل الحالي صفاتِ هذا الجيل الذي نَشأ على عيْن رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأيضًا حتى تُكمَّم أفواهُ الرافضة - قبَّحهم الله - الذين نالوا منها، ووثبوا على عِرْضها، فانتهكوه بالتكلُّمِ عليه بُشبهٍ أوْهى مِن خيوط العنكبوت.
وعائشةُ - رضي الله عنها - مُعلِّمة الرِّجال، ومربِّية الأجيال، وصانعةُ الأبطال، الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق، زَوْجة سيِّد ولد آدم، وأحبُّ نسائه إليه، وابنةُ أحبِّ الناس إليه، المبرَّأة مِن فوق سبع سموات، ومَن رماها بالفاحشة بعدَ آية النور، فقد كَفَر بإجماع المسلمين.
فأبوها أحبُّ الرِّجال إلى رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهي أفضلُ امرأة مِن أمَّته، فمَن أبْغض حبيبيةَ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فهو حرِيٌّ أن يكون بغيضًا إلى الله وإلى رسوله - كما ذكر الذهبيُّ في "السير" (2/142).
أثبتتْ للدنيا منذ أربعة عشر قرْنًا أنَّ المرأة يمكن أن تكونَ أعلمَ من الرجال، وأن تكون سياسيَّة، وأن تكونَ محاربة، ومجاهِدة.
وكان تزويجُه - صلَّى الله عليه وسلَّم - بها بأمْر من الله - عزَّ وجلَّ - روى البخاريُّ ومسلمٌ في صحيحيهما عن عائشةَ - رضي الله عنها - قالت: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أُُريتك في المنام ثلاثَ ليالٍ، جاء بكِ المَلَكُ في سَرَقَةٍ مِن حرير، فيقول: هذه امرأتُك، فأَكْشِف عن وجهك فإذا أنتِ فيه، فأقول: إنْ يك هذا مِن عند الله يُمضه)).
وكان ذلك إثرَ وفاة خديجة - رضي الله عنها - فتزوَّج بها وبسودة بنت زمعة - رضي الله عنها - في وقتٍ واحد، ولكنَّه دخل بسودة، وتفرَّد بها ثلاثة أعوام، حتى بنَى بعائشةَ في شوال بعد وقْعة بدر.
وفي بيْت الزوجيَّة غَدَتْ عائشة مُعلِّمةً لكلِّ امرأةٍ على مرِّ العصور، فكانتْ زوجةً تُؤنِس الزوج، وتُدخِل السُّرورَ على قلْبه، وتُزيل عنه ما يُكابِده خارجَ المنزل من مُصارعةِ الحياة، والدعوة إلى الله.
وكانتْ خير زوجة كريمة اليد: كريمة النَّفْس، صبرَتْ مع الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - على الفقرِ والجوع، حتى كانتْ تمرُّ عليها الأيَّام الطويلة، وما يُوقَد في بيت رسولِ الله نارٌ لخبز أو طبيخ، وإنَّما كانَا يعيشانِ على التمر والماء.
رضي الله عنها، لم يُزعجْها الفقر، ولم يُبطِرها الغِنَى، صانتْ عِزَّة نفسها، فهانَتْ عليها الدنيا، فما عادتْ تُبالي بإقبالها ولا إدْبارها.
عن عبدالله بن الزُّبَير - رضي الله عنهما - قال: "ما رأيتُ امراتَيْن قطُّ أجودَ من عائشة وأسماء، وجُودهما مختلف: أمَّا عائشة فكانتْ تَجْمَع الشيء حتى إذا اجتمع عِندَها قسمتْ، وأمَّا أسماء فكانتْ لا تُمسِك شيئًا لغدٍ"؛ "أحكام النساء" لابن الجوزي (ص: 125).
وعن عُروةَ بن الزُّبير، قال: "كانت عائشةُ - رضي الله عنها - لا تُمسِك شيئًا ممَّا جاءَها من رِزق الله - تعالى - إلاَّ تصدَّقتْ به"؛ "السمط الثمين" للطبري (ص: 88).
هذا جُودها وكَرَمها، وبذلها وتصدُّقها، وإنفاقها المال؛ ابتغاءَ مرضاةِ الله.
وأما عبادتها لربها:
فكما يقول القاسِم بن محمَّد عنها: "كانتْ عائشةُ تصوم الدهر"؛ أخرجه ابن سعد في "الطبقات"، والمعنى: أنها كانت تصوم غيرَ الأيام المنهي عنها كالعيدين، وأيام التشريق، والحَيْض.
وفي "السمط الثمين" لمحبِّ الدين الطبري عن عُروةَ بنِ الزبير قال: "كنتُ إذا غدوتُ أبدأ ببيت عائشة - رضي الله عنها - فأُسلِّم عليها، فغدوتُ يومًا، فإذا هي قائمةٌ تسبِّح، وتقرأ: ﴿ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ﴾ [الطور: 27]، وتدْعو، وتبكي، وتُردِّدها، فقمتُ حتى مللتُ القيام، فذهبتُ إلى السوق لحاجتي، ثم رجعتُ، فإذا هي قائمةٌ كما هي تُصلِّي وتبكي.
أما علمها، فقد سبقت النساء:
فهي بحرٌ لا يُدرك قعرُه، عُبابٌ لا تُكدِّره الدِّلاءُ، حتى صارتْ مُعلِّمة للأمَّة، ومرجعًا يُرجَع إليه في المسائل العويصة مِن العلم، هي مُعلِّمة الرجال والأجيال، حتى قيل: إنَّ ما نُقِل عنها هو ثُلُث الدِّين.
قال الذهبيُّ في "السير": "رَوَتْ عنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - عِلمًا كثيرًا، طيبًا مباركًا فيه، وعن أبيها، وعن عمر، وفاطمة، وسعد، وحمزة بن عمرو الأسلمي، وجُدَامَة بنتِ وهْب".
ملأتِ الدنيا علمًا، فهي في روايةِ الحديث نسيجُ وحدِها، وَعَتْ من أحاديثِ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما لم تعِه امرأةٌ من نسائه، ورَوتْ عنه ما لم يروِ مثلَه أحدٌ من الصحابة إلاَّ أبا هريرة وعبدالله بن عمرو - رضي الله عنهم أجمعين.
لقد كانتْ من أنفذِ الناس رأيًا في أصولِ الدين، ودقائق الكتاب المبين، وكانتِ الصحابة يَرْجعون إليها في كثيرٍ من المسائل، وكم استدركتْ - رضي الله عنها - على الصحابة، فإذا عَلِموا بذلك منها، رَجَعوا إلى قولها.
قال أبو موسى الأشعريُّ - رضي الله عنه -: "ما أَشْكَل علينا - أصحابَ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حديثٌ قطُّ، فسألْنا عائشة، إلاَّ وجدْنا عندها منه علمًا"؛ أخرَجه الترمذيُّ رقم (3883)، وقال: حسن صحيح.
وقال مسروق: "رأيت مشيخةَ أصحاب محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - يسألونها عن الفرائض"؛ "الإجابة" للزركشي (ص: 58).
وقال عطاءُ بن أبي رَبَاح: "كانتْ عائشة من أفقهِ الناس، وأحسن الناس رأيا في العامَّة"؛ انظر: "السير" (2/185).
وقال الزهريُّ: "لو جُمِع عِلمُ الناس كلِّهم وأمهات المؤمنين، لكانتْ عائشةُ أوسعَهم علمًا"؛ رواه الحاكم في المستدرك (4/11).
وذكَرَها - رضي الله عنها - الشيخُ أبو إسحاق الشِّيرازي في طبقاته في جملة فقهاءِ الصحابة، وقدَّمها ابنُ حزم على سائرِ الصحابة لَمَّا ذكَر أسماء الذين رُويتْ عنهم الفتاوى في الأحكام؛ انظر: "عودة الحجاب" للمقدّم (2/574).
وقال الحاكم أبو عبدالله: "حُمِل عنها رُبُع الشريعة"؛ "الإجابة" للزركشي (ص: 59).
ولقد كانتْ - رضي الله عنها - من أفصحِ النِّساء، وما رأى الناسُ أفصحَ منها، وما سَمِعوا أبلغَ منها، ليس رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
وعن هشامٍ عن أبيه، قال: ربَّما روَتْ عائشةُ القصيدةَ ستِّين بيتًا وأكثر؛ "السير" (2/189).
وعن أبي الزناد، قال: ما رأيتُ أحدًا أرْوَى لشِعر مِن عُروة، فقيل له: "ما أرواك!"، فقال: ما رِوايتي في رواية عائشة؟! ما كان ينزل بها شيءٌ إلا أنشدَتْ فيه شِعرًا؛ "الإصابة" (8/18).
وعنِ الشَّعْبي: أنَّ عائشةَ - رضي الله عنها - قالت: رَوَيْتُ لِلَبِيدٍ نحوًا من ألْف بيت، وكان الشعبيُّ يذكُرها، فيتعجَّب من فقهها وعِلمها، ثم يقول: ما ظنُّكم بأدبِ النبوُّة؟!"السير" (2/197).
وذَكَر الحافظُ أبو عمر بن عبدالبر - رحمه الله -: "أنَّها كانتْ وحيدةَ عصرها في ثلاثة علوم: عِلم الفقه، وعِلم الطب، وعِلم الشِّعر"؛ "الاستيعاب" (4/1881).
روى الحاكمُ في المستدرك (4/11) بسنده عن ابن سيرين عن الأحنف، قال: "سمعتُ خُطبةَ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والخلفاء بعدَهم، فما سمعتُ الكلام من فمِ مخلوقٍ أفخمَ ولا أحسن منه مِن فِي عائشةَ".
وقد يتعجَّب بعضُ الناس، ويظنُّ أنَّ عائشة - رضي الله عنها - لا تعرِف إلا عِلمَ الشريعة فقط، هيهات هيهات! بل حتى عِلم الطب عَلِمتْ به، ولكن العجب يَنتهي عندما يقرأ مثلَ هذا الخبر: روى أحمد في "المسند" وغيرُه عن هشامِ بن عروة، قال: كان أبي يقول لعائشة - رضي الله عنها -: يا أُمَّتاه، لا أعجبُ من فِقهك؛ أقول: زوجةُ نبي الله، وابنة أبي بكر، وكان أعْلمَ الناس، ولكن أعجبُ مِن عِلمك بالطب: كيف هو؟! ومِن أين هو؟! - أو ما هو؟ - قال: فضربتْ على مَنكِبه، وقالت: أيْ عُرَيَّةُ، إنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يَسْقَم عندَ آخِر عمره - أو في آخِرِ عمره - وكانتْ تَقْدَم عليه وفودُ العرب من كلِّ وجه، فتنعت له الأنعات، وكُنتُ أُعالِجها له؛ فمِنْ ثَمَّ".
وأمَّا رجوع الناس إلى العمل بقولها، فانظرْ إلى ما رواه الإمام أحمدُ في مسنده من طريق منصور، عن مجاهد، عن أبي بكر بن عبدالرحمن، قال: قال أبو هريرة: مَن أصْبح جُنبًا فلا صومَ له، فأرسل مرْوان أبا بكر بن عبدالرحمن إلى عائشةَ يسألها، فقال لها: إنَّ أبا هريرة يقول: مَن أصبح جُنبًا فلا صومَ له؟ فقالت عائشة: قد كان رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُجنِب، ثم يتمُّ صومَه، فأرسل إلى أبي هريرة، فأخبَرَه أنَّ عائشة قالت: "إنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يُجنِب ثم يُتمُّ صومَه"، فكفَّ أبو هريرة.
فانظر إلى حافظِ الصحابة أبي هريرة؛ إلى كفِّه عن الحديث، وهو الذي ما امْتَنع عن حديثِ الناس، ولكن لَمَّا أخبرتْه عائشة توقَّف! وفي بعضِ الروايات قال: هي أعلمُ منِّي برسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
قال عُروة - كما في السير للذهبي -: "فلئن ذهَبَ عِلمُها، لم أسأل عنه - رضي الله عنها"؛ السير (2/183).
وأمَّا جهادُها، فقد كانتْ تشارك فيه كأيِّ امرأةٍ دون تمييز، وذلك ضمنَ الحدود التي وضَعَها الشرع؛ مِن سقاية الماء، ومداواة الجرْحى، وإعداد الطعام، ولا يَخْفَى علينا دورُها وهي بنت صغيرة في حادثِ الهجرة، حتى إنَّ أبا بكر جَنَّد أهلَ بيته لخدمة دِين الله.
وفي غزوة أُحُد كانت عائشةُ - رضي الله عنها - تشارك في حمْل الماء على عاتِقِها لسقاية المجاهدين، وكانتْ ما تزال صغيرةَ السِّنِّ، ولكنَّها شاركتْ للمرة الأولى في هذه الغزوة.
رَوَى الشيخانِ عن أنس: "ولقدْ رأيتُ عائشة بنت أبي بكر، وأمَّ سليم، وإنَّهما لمشمرتان، أرَى خَدَم - خلخال - سُوقِهما، تنقلان القِرَب على متونهما، ثم تُفرغانِه في أفواههم، ثم تَرجعانِ فتملآنها، ثم تَجيئان تُفرغانه في أفواه القَوْم.
وفي غزوة الخَنْدق، كان لها شَجاعةٌ نادرة، وجُرأة مشهورة، حتى إنَّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنكر جُرْأتها لَمَّا رآها تقترب من الصفوف الأُولى للمجاهدين!
روى الإمامُ أحمد في مسنده عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "خرجتُ يومَ الخندق أقْفو الناسَ، فسمعتُ وئيدَ الأرض ورائي، فإذا أنا بسعدِ بن معاذ، ومعه ابنُ أخيه الحارث بن أوْس، يَحْمل مِجَنَّه، قالت: فجلستُ إلى الأرض، فمرَّ سعد وعليه دِرْع من حديد قد خرجتْ منها أطرافُه، فأنا أتخوَّف على أطرافِ سعْد، قالت: وكان سعدٌ من أعظمِ الناس وأطولهم، فمرَّ وهو يَرْتَجِز، ويقول:
لَبِثَ قَلِيلاً يُدْرِكُ الهَيْجَا جَمَلْ *** مَا أَحْسَنَ المَوْتَ إِذَا حانَ الأَجَلْ
قالت: فقمتُ فاقتحمت حديقةً، فإذا نفرٌ من المسلمين، فإذا فيها عمرُ بن الخطَّاب، وفيهم رجلٌ عليه سبغةٌ له - تعني: المِغفر - فقال عمر: ما جاء بكِ؟! والله إنَّك لجريئة، وما يُؤمِّنك أن يكون بلاءٌ أو يكون تحوُّز، فما زال يلومني حتى تمنيتُ أنَّ الأرض فُتِحت ساعتئذٍ فدخلتُ فيها، فرَفَع الرجلُ السبغةَ عن وجهه، فإذا هو طلحةُ بن عُبَيدالله، فقال: يا عمرُ، ويحَك! إنَّك قد أكثرتَ منذ اليوم، وأين التحوُّزُ أو الفرار إلاَّ إلى الله - عزَّ وجلَّ"؛ ا.هـ.
وصلَّى الله وسلَّم وبارَك على نبينا محمَّد، وعلى آله وصحْبه وسلَّم.
ساحة النقاش