الأرصدة السمكية في جميع أنحاء العالم على وشك الانهيار بسبب التأثيرات المزدوجة المتمثلة في تغير المناخ وصيد الأسماك الجائر، ويحذر العلماء من أن يؤدي ذلك إلى انتشار سوء التغذية على نطاق واسع في جميع البلدان الأكثر فقراً في المناخات المدارية.
استوعبت المحيطات أكثر من 93 بالمائة من الحرارة الناتجة عن النشاط البشري منذ سبعينيات القرن الماضي، وفقاً لتقرير نُشر هذا الشهر من قبل الاتحاد العالمي للحفاظ على الطبيعة ومواردها.
ويشير التقرير إلى أن زيادة "مذهلة حقاً" في درجة الحرارة قد تسببت في فوضى في البحار حيث تتكاثر الميكروبات الخطرة والبكتيريا التي تحمل الكوليرا في المياه الدافئة، جنباً إلى جنب مع الطحالب السامة التي يمكن أن تسمم الأسماك والبشر الذين يقتاتون عليها. كما أن الشعاب المرجانية التي توفر موئلاً لربع الأنواع البيولوجية البحرية في العالم تموت وتُجبر أنواع من بينها السلاحف والطيور البحرية والأسماك على الانتقال إلى المياه الباردة باتجاه القطبين.
ويرى الخبراء الذين يجرون أبحاثاً حول مصائد الأسماك في العالم أن تقرير الاتحاد العالمي للحفاظ على الطبيعة ومواردها، الذي جمعه 80 عالماً في 12 دولة، سقط بصوت مكتوم على كومة متزايدة من الدراسات الخاصة بهم، التي تبين أن صيد الأسماك الجائر يفتك بالفعل بالأرصدة السمكية في جميع أنحاء العالم.
وقال ديرك زيلر، المدير التنفيذي لمعهد أبحاث البحر من حولنا في جامعة فانكوفر في مقاطعة كولومبيا البريطانية، أنه من الصعب محاولة إقناع الدول بتقليص الصيد إلى معدلات مستدامة. وكما هو الحال مع صيد الأسماك الجائر، فإن البحار التي تعاني من الاحترار لن تؤثر على الجميع بنفس القدر.
وتساءل خلال مقابلة في مكتبه بجامعة كولومبيا البريطانية: "من هم الذين سيدفعون الثمن حقاً؟ البلدان الفقيرة النامية في المنطقة المدارية".
وبعد أكثر من عشر سنوات من البحث، نشر زيلر وزميله دانيال بولي أدلة دامغة في وقت سابق من هذا العام عن الحجم الحقيقي للصيد الجائر على المستوى العالمي. وأشارا إلى أن الكثير من الناس في البلدان النامية يعتمدون على الأسماك كمصدر للبروتين وللمغذيات الدقيقة التي لا غنى عنها للصحة. وغالباً ما تكون الأسماك التي يتم صيدها محلياً هي المصدر الوحيد لتلك المغذيات الدقيقة، لأن هؤلاء الناس ليست لديهم إمكانية الحصول على المغذيات الدقيقة من اللحوم والبيض والفيتامينات التكميلية والأسماك المستوردة.
وقد لفت هذا انتباه بعض الباحثين في جامعة هارفارد، الذين كانوا يدرسون أهمية مصائد الأسماك للتغذية. وتواصلوا معاً ونُشرت النتائج الأولية لأبحاثهم المشتركة في مقال بمجلة الطبيعة في شهر يونيو الماضي. حذر المقال من أن نحو 11 بالمائة من سكان الأرض يمكن أن يخسروا المغذيات الدقيقة الأساسية لأن الأسماك التي يعتمدون عليها بدأت تختفي.
"لقد كانت إدارة مصائد الأسماك دائماً تهدف إلى تعظيم العائد الاقتصادي، أو العوائد المستدامة لتوفير أكبر كمية من الأسماك يمكن أن نأخذها وندخلها إلى الأسواق. نحن نرى أننا بحاجة إلى رؤية تحول - نحن بحاجة للنظر إلى الموارد البحرية على أنها قضية صحية،" كما أفاد زيلر.
كيف وصلنا إلى هنا؟
إن تغير المناخ يزيد من تفاقم المشكلة التي بدأت بالفعل منذ 70 عاماً.
تُدار مصائد الأسماك في العالم كمورد اقتصادي لا ينضب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، مما أدى إلى توسع هائل في صناعة صيد الأسماك. وقد أوصلهم هذا التفكير الضيق إلى المعضلة التي يواجهونها اليوم. وإذا استمر الصيد بنفس المعدل، فإن العديد من الأرصدة السمكية في جميع أنحاء العالم سوف تنهار تماماً.
ومن أجل الوصول إلى تلك النتائج المذهلة، كان على الباحثين أن يبحثوا خارج إطار بيانات الصيد التجارية التي تقدمها الدول لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، والتي تضمنت ثغرات حجبت الحقيقة الكئيبة للوضع، وسمحت لنا بالحفاظ على وهم أن مصائد الأسماك لا تنضب.
ولكن على الرغم من خطورة النتائج، فإنها توفر الحلول أيضاً، إذ يتعين على الحكومات والوكالات أن تكف عن النظر إلى الصيد العالمي كمورد اقتصادي فقط، وتضع سياسات جديدة لإدارة مصائد الأسماك على نحو أفضل وإبعادنا عن حافة الكارثة. كما يجب أن تضغط المجموعات التي تدافع عن القضايا الصحية والبيئية - بما في ذلك برنامج الأمم المتحدة للبيئة ومنظمة الصحة العالمية - من أجل اتباع قواعد تنظيمية أقوى.
وهناك ضغط أيضاً على العلماء للتوصل إلى البيانات التي تبين بدقة مدى الأزمة التي يواجهها العالم. ويبذل زيلر وزملاؤه في مشروع البحر من حولنا محاولات لعمل ذلك بالتحديد.
وقبل ما يزيد قليلاً على عقد من الزمان، تعاقد معهم مجلس مصائد الأسماك الأمريكي في هاواي للنظر في كميات الأسماك التي يصطادها الصيادون الحرفيون وصيادو الكفاف في الجزر الأمريكية في المحيط الهادئ.
وتجدر الإشارة إلى أن معظم البيانات عن تلك المصائد لم يتم جمعها من قبل. وعندما تم إنشاء منظمة الأغذية والزراعة في نهاية الحرب العالمية الثانية، ومنحها مسؤولية تجميع وتوحيد البيانات الوطنية عن صيد الأسماك، كانت مصائد الأسماك الصغيرة هذه تعتبر غير ذات أهمية - وقد ظل هذا الموقف سائداً إلى حد كبير حتى اليوم.
عندما أضاف علماء جامعة كولومبيا البريطانية البيانات التي كانوا قد جمعوها من مصائد أسماك الكفاف والمصائد الحرفية في جزر هاواي وساموا الأمريكية وغوام وماريانا الشمالية، وجدوا أن بيانات الصيد الرسمية كانت أقل بكثير من البيانات المعاد تجميعها والتي شملت مصائد الأسماك الصغيرة. ويشير هذا إلى أن الأرصدة السمكية تنخفض بمعدلات أكثر حدة مما كان متوقعاً من قبل.
وبدأ زيلر يجري أبحاثاً مماثلة على مصائد الأسماك في بلدان المحيط الهادئ التي لم تكن تُدار بنفس الكفاءة المتوفرة في الولايات المتحدة. وتوصل إلى نفس النتائج.
"وبناءً على ذلك، قلنا، حسناً، ربما نكون بحاجة لعمل ذلك في كل بلدان العالم، وهكذا ولد مشروع "الصيد المعاد تجميعه"، كما قال.
وبحلول عام 2015، كان الباحثون في جامعة كولومبيا البريطانية قد أنهوا قاعدة البيانات المعاد تجميعها الأولى من نوعها عن الصيد في كل بلد في العالم، والتي تغطي العقود الستة الماضية. إنها تجمع البيانات الوطنية التي تلخصها وتقدمها منظمة الأغذية والزراعة مع تلك التي تم جمعها من مصائد الأسماك غير المعلن عنها، بما في ذلك مصائد الكفاف والمصائد الترفيهية والحرفية (أي مصائد أسماك صغيرة تغذي الأسواق المحلية)، وكذلك الصيد المهمل من بعض مصائد الأسماك الأكبر حجماً في كل بلد.
وفي يناير من هذا العام، نشر زيلر وبولي النتائج التي توصلا إليها في ورقة بحثية في مجلة الطبيعة Nature Communications. ووفقاً للبيانات التي أعلنتها منظمة الأغذية والزراعة نيابة عن البلدان، بلغ الصيد البحري العالمي ذروته عند مستوى 86 مليون طن في عام 1996. ولكن قاعدة بيانات الصيد التابعة لمشروع البحر من حولنا تشير إلى أن الصيد العالمي بلغ ذروته عند مستوى 130 مليون طن في ذلك العام.
"نجد أن الصيد العالمي وفقاً للبيانات المعاد تجميعها بين عامي 1950 و2010 كان أعلى بنسبة 50 بالمائة مما تشير إليه البيانات التي تم إبلاغها إلى منظمة الأغذية والزراعة، وأنه يتراجع بقوة أكبر منذ بلوغ الصيد ذروته في تسعينيات القرن الماضي،" كما أفاد الباحثان.
عدد القوارب في البحر أكثر مما ينبغي
وعلى الرغم من أن الناس في المجتمعات الأكثر فقراً سوف يعانون بشكل غير متناسب بسبب انهيار الأرصدة السمكية، فإنهم ليسوا المسؤولين.
"في هذه اللحظة، هذه نتيجة الإفراط في صيد الأسماك، وأساساً قدرات الصيد المفرطة للأساطيل الصناعية. ومعظم الأساطيل الصناعية تأتي من البلدان المتقدمة،" كما أكد زيلر، مشيراً إلى أن قدرات الصيد المفرطة مدفوعة بالدعم الحكومي.
لقد نما أسطول الصين على وجه الخصوص بسرعة منذ خمسينيات القرن الماضي، وهو توسع يغذيه بالفعل الدعم الحكومي.
والجدير بالذكر في هذا الشأن أن دعم الوقود شكل 94 بالمائة من مبلغ 6.4 مليار دولار الذي قدمته الصين إلى أسطولها في عام 2013، وفقاً لدراسة نشرت في شهر يونيو الماضي في مجلة السياسة البحرية. وأضافت الدراسة أن الصين تعد حالياً أكبر منتج للمأكولات البحرية في العالم وأن حوالي 95 بالمائة من دعمها "يضر بالاستدامة".
وقالت الولايات المتحدة في شكوى قدمتها إلى منظمة التجارة العالمية في 15 أبريل أن الصين رفضت الإفصاح عن أية معلومات عن برامج الدعم الخاصة بها.
وأكدت الشكوى أن "حالة مصائد الأسماك في العالم التي يرثى لها قد أدت إلى دعوات إلى اتباع قواعد أكبر لتنظيم دعم مصائد الأسماك، الذي يساهم في الإفراط في صيد الأسماك وقدرات الصيد المفرطة".
وفي حين تم قبول مشكلة صيد الأسماك الجائر الناجم عن قدرات الصيد المفرطة للأساطيل الصناعية في منظمة التجارة العالمية ومحافل أخرى، فإن الحلول لا تأتي بسرعة.
وكل عامين، تعقد منظمة الأغذية والزراعة مؤتمراً عالمياً يسمى لجنة مصائد الأسماك. وفي عام 2014، اعتمدت لجنة مصائد الأسماك المبادئ التوجيهية الطوعية لإدارة مصائد الأسماك الصغيرة، وهي اتفاقية تم التوصل إليها بعد سنوات من الدعوة.
وفي السياق نفسه، قال زيلر: "إنهم أساساً يبدؤون تمهيد الطريق للقول بأن المصائد العالمية لا تتعلق بالأساطيل الصناعية التي تجوب محيطات العالم، وتحقق ثروات للأغنياء أو لشركات صيد الأسماك الكبيرة. يجب أن تكون مصائد الأسماك للسكان المحليين كأولوية قصوى،" كما قال زيلر.
مع ذلك، فإن المبادئ التوجيهية ليست إلزامية. فالدول ليست ملزمة بإلغاء نظام الدعم الخاص بها من أجل وقف صيد الأسماك الجائر ومنح الأولوية لمجتمعات الصيد الصغيرة بدلاً من الأساطيل الصناعية.
"تخطو بلدان عديدة خطوات واسعة داخلياً للتعامل مع هذا الدعم،" كما أفاد زيلر، مضيفاً أن "اللاعبين الكبار مثل الصين وأوروبا لا يفعلون ذلك".
'قطار جامح'
وحتى إذا تمكنت حكومات العالم من التوصل إلى اتفاق حول إجراءات ملزمة ضد الإفراط في استغلال مصائد الأسماك، فإنها سوف تضطر إلى التصدي لمشكلة أخرى ستكون السيطرة عليها أصعب بكثير.
وفي هذا الصدد، قال زيلر أن "الشيء الوحيد الذي من المحتمل أن يكون بمثابة قطار جامح هو تغير المناخ".
ويشدد تقرير الاتحاد الدولي للحفاظ على الطبيعة ومواردها على هذه النقطة بتعبيرات صارخة نادراً ما يلجأ إليها العلماء: "قد يتبين أن احترار المحيط هو أكبر تحد خفي يواجه جيلنا".
وحتى المناقشات بشأن تغير المناخ على أعلى المستويات قد أهملت البحار، كما أشار التقرير. لكن علامات التحذير موجودة في كل مكان حولنا، في المحيطات التي تشكل 70 بالمائة من سطح الأرض. في العام الماضي، كانت درجات حرارة المحيطات هي الأكثر سخونة منذ بدء تسجيلها قبل 136 عاماً، وكانت هذه المرة الرابعة التي تم فيها كسر الرقم القياسي منذ عام 2005.
من جانبه، يرى زيلر أن كل هذا يؤكد فكرة أن المصالح الاقتصادية الكبيرة لا يمكن أن تكون المتحكم الوحيد في إدارة مصائد الأسماك بعد الآن.
وأضاف أن "عدداً أكبر من المنظمات - داخل منظومة الأمم المتحدة وضمن الحكومات - قد أصبحت تدرك أن مصائد الأسماك ليست نشاطاً اقتصادياً فحسب. إنها قضية بيئية، وسوف يعلمون على نحو متزايد أيضاً أنها قضية صحية".
وعلى الرغم من البطء الشديد في تغيير السياسات، يرى زيلر سبباً للأمل مع تحسن الإدارة في العديد من البلدان، والفهم المتزايد للأزمة. لقد أصبح عدد أكبر من المنظمات غير الحكومية العاملة يشارك في مجال مناصرة مجتمعات الصيد المحلية، وهو ما يفرض ضغطاً شعبياً على الحكومات.
"ولذلك نعم، أنا متفائل بحذر. لدي أمل في أن سيبقى لابني أسماك ليتناولها في يوم من الأيام. إنه في الحادية عشرة من عمره ويحب صيد الأسماك،" كما قال زيلر.