كينوب ...CYNUB

موقع خاص بكل اهتماماتي العمرانية والمعمارية والتصميم العمراني

authentication required
العمارة الإسلامية
برزت العمارة الإسلامية باعتبارها فناً متميزاً له طابعه الذي يعبر عن خصوصيته، فهو ذاك الفن الذي يبعث في النفس هدوءًا وسكينة فترتاح العين لرؤيته، ويأخذ النفس بعيدًا لتسبح في الأجواء الروحية لارتباطه بالعقيدة الإسلامية السمحة...

"فلقد فتح المسلمون ممالك شاسعة وانضوت تحت راية الإسلام شعوب متنوعة عُرِفت بالعراقة في المعمار مثل: الفرس والرومان والآشوريين والمصريين.. ولكن المعمار في تلك البلاد كان يقوم على عقائدهم الدينية، ويتمثل في التماثيل والصور والمحاريب والأديرة، فكان لابُدَّ للمسلمين من فن معماري خاص بهم يختلف في جوهره ومظهره وأهدافه عن المعمار السابق.

وهكذا لم يمض القرن الأول للهجرة حتى كان المسلمون قد شيدوا الجوامع الشاهقة والقصور الفاخرة، وبنوا البيمارستانات (المستشفيات) الضخمة والحمامات والمطاعم الشعبية والاستراحات، وبنوا القلاع العسكرية والحصون والرباطات والأسوار حول المدن، وبنوا القناطر والخزانات والسدود للري، وبنوا المراصد والجامعات العلمية، كل ذلك بأسلوب الفن المعماري الإسلامي المتميز، وإذا كان الكثير من تلك المباني الإسلامية قد اندثر بفعل الزمن أو الحروب الصليبية فإن القليل المتبقي يدل على ذلك الماضي التليد" (1).

وإنه إذا أردنا استعراضا لكل ذلك، وأردنا بيان الصورة الحضارية الرائعة لفن العمارة الإسلامي فإن هناك من العناوين ما يلي:

العمارة قبل الإسلام:

تعددت أشكال العمارة في الحضارات قبل الإسلام وتنوعت، وإن كانت العمارة الدينية هي القالب والمحور الذي التفّت حوله كل هذه الحضارات وصبّت فيه، وكان ذلك على النحو التالي:

1- عند قدماء المصريين: كان لتعدد المعبودات والآلهة، والإيمان بالبعث في العقيدة المصرية القديمة أكبر الأثر في ازدهار العمارة الدينية، التي تمثلت في بناء المعابد والمقابر والأهرامات، والتي لا تزال شاهدة على المدى الهائل الذي توصلوا إليه في العلوم الهندسية والمقدرة الفنية العالية، وإن لم تصل إلينا من العمارة الدنيوية للمصريين القدماء إلا أطلال فإن معابدهم ومقابرهم كفيلة بالشهادة على براعتهم منقطعة النظير في فن العمارة.

2- العمارة اليونانية: يعتبر بناء المعبد وتصميمه من أهم النماذج المميزة للعمارة اليونانية في الفن القديم، والتي يمكن من خلالها دراسته، فقد شيد اليونانيون القدماء تماثيل كبيرة الحجم لآلهتهم داخل حجرات، وأقاموا الطقوس الدينية حول تلك الحجرات مما كان طرازا خاصا في إقامة المعابد، وقد كان للتقدم الفني السبب في إقامة المسارح، والتي كانت تُنحَت في سفوح المرتفعات، وقد تميزت العمارة اليونانية أيضا بالأعمدة وتعدد طرزها.

3- العمارة الرومانية: لم يكن المعبد وحده هو أهم المظاهر الحضارية عند الرومان مثلما كان في حضارات أخرى، حيث وجد عندهم ثورة في أساليب البناء بعدما تمكنوا من استخدام التشكيلات المعمارية المختلفة مثل: القوس - القبو المتقاطع – القبة - الخرسانة، وبالرغم من ذلك فهم لم يستغنوا عن التشكيلات القديمة مثل الأعمدة اليونانية، بل وأضافوا إليها طرزًا أخرى جديدة (2).

وبصفة عامة، فقد كانت العمارة في الحضارات السابقة على الإسلام مقتصرة - في الغالب كما رأينا - على (العمارة الدينية) متمثلة في بناء المعابد وتشيد الكنائس والكاتدرائيات، وصناعة التماثيل الكبيرة التي يعبدونها، وبناء المقابر للموتى وزخرفتها وتزيينها؛ إيمانا منهم بالبعث بعد الموت، بخلاف ما ندر من بناء الصروح والأبراج.

لا نكون مبتدعين إذا قلنا بأن الحضارة بساط نسجته وتنسجه أيدي أمم كثيرة؛ إذ أنها متواصلة العطاء، وإن قيمة كل أمة في ميزانها يساوي ما قدمته مطروحًا منه ما أخذته من الحضارات التي سبقتها، وإذا لم ينكر عاقل أن الحضارة العربية الإسلامية أخذت من حضارات سبقتها، فإنه أيضا لا ينكر أنها واصلت العطاء، ووشّت بساط الحضارة الإنسانية بكل ما هو راقٍ وجميل.
وفي هذا المضمار فإنه إذا كان المسلمون قد أقاموا صرحهم المعماري بالاعتماد في البدايات على المهندسين والبنائين والصناع الإغريق والبيزنطيين والفرس والقبط وغيرهم، فإنهم قد استطاعوا بعد ذلك أن يقدموا للبشرية فنا متفردا أصيلا ينطق ببراعتهم المتميزة وعبقريتهم الفريدة، وفي العناصر التالية تتضح معالم هذا الفن عندهم (3):

مواد البناء:

استعمل المعماريون المسلمون في مبانيهم كل أنواع مواد البناء كالحجارة والطوب المحروق والرخام والخزف، واستعملوا الخشب والحديد والنحاس، وكانت الخلطة اللاصقة من الجبس، أما الجير فكان يستعمل في المباني التي تحتاج إلى مقاومة الماء، كالأسقف والقنوات والمصارف، وكذلك في لصق الرخام.

وكانوا يستعملون خلطة من الجبس والجير في صناعة الطوب المحروق، ويختلف عمق الأساس في الأرض حسب المبنى، ففي بعض المباني الضخمة كانوا يصلون إلى عمق عشرة أو أَحَدَ عَشَرَ متراً تحت مستوى سطح الأرض، وكانوا يستعملون أنواعاً من الحجارة الصلبة كالجرانيت أو البازلت في الأساس.

وقد استفاد المعماريون من شتى العلوم والمعارف المعروفة في عصرهم وطبقوها في مبانيهم، ومن أهم هذه العلوم علم الحيل (علم الميكانيكا) وعلم الكيمياء وعلوم الطبيعة مثل: الصوت والضوء والتهوية.

وقد ابتكروا أنواعا من الآلات الميكانيكية لرفع الثقل الكبير بالجهد اليسير أو لجره، منها أنواع من الكران، وآلات مثل المكحال والبيرم والمنخل والسفين واللولب والقرطسون، وكانت الحجارة الكبيرة ترفع إلى أعلى المبنى بحبال معلقة على مجموعة من البكرات بحيث يجرها ثور واحد فيرفعها بسهولة إلى أعلى.

كذلك استفاد المعماريون من علم الكيمياء الذي تفوق فيه المسلمون وطوروه، فصنعوا أنواعا من الدهانات والأصباغ التي تتميز بالثبات والبريق، ومن المعروف أن المسلمين أول من استعمل الزجاج الكريستال الذي ابتكره العالم الأندلسي عباس بن فرناس سنة 887م، كما استعملوا في النوافذ الزجاج الملون والمعشق في أشكال هندسية.

المساجد:

المساجد أول شيء بناه المسلمون من العمارة، فقد بنوا المساجد قبل أن يبنوا القصور أو القلاع أو المدارس، ومن هنا كان المسجد الدعامة الأولى لنشأة فن العمارة الإسلامية، ورسالة المسجد في الإسلام لا تقتصر على الصلاة والعبادة فحسب، فمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم رغم بساطة البناء كان بمثابة مدرسة للعلم والتربية وبرلمان للأمة تعقد فيه الانتخابات (البيعة) للخليفة، وتدار فيه الاجتماعات السياسية والعسكرية، وكان فيه أيضا عيادة للتمريض هي (خيمة رفيدة)، وفي ساحته كان نساء الصحابة يتركن أطفالهن في أمان بعد الصلاة ريثما يقضين حاجتهن من الأسواق، فكان أيضاً دار حضانة وكان الرسول صلى الله عله وسلم يطلق على هؤلاء الأطفال "حمام المسجد".

وقد بنى المسلمون جوامع ضخمة بنفس الأهداف، تشمل مسجداً مستقلاً للصلاة ويلحق به المدرسة أو الجامعة، وأيضا المستشفي ومكاتب الإدارة، ومن ذلك جامع القيروان سنة 670م وجامع الزيتونة سنة 734م وجامع الأزهر 972م.
وتصميم المسجد عبارة عن ساحة كبيرة فيها منبر خشبي للخطبة، ثم أدخل المحراب المجوف للدلالة على اتجاه القبلة، ثم ظهرت الإيوانات وهي أروقة تحيط بصحن المسجد ولها أقواس مقامة على أعمدة، وملحق بالمسجد غرفة للإمام ومكتبة، وعادة يكون للمسجد ساحة داخلية مكشوفة بها نافورة لتلطيف الهواء وميضأة للوضوء، هذا علاوة على القباب والمآذن.

ويعتبر المسجد الأموي في دمشق سنة 710م أول نجاح معماري في الإسلام بناه الخليفة الوليد بن عبد الملك، فقد كان بناءً جديداً في تصميمه، له طابعه الخاص وشخصيته المستقلة عن المعمار في الحضارات السابقة للإسلام.
وفي أنحاء العالم اليوم الكثير من المساجد الأثرية الشهيرة التي تنوعت، فهناك المساجد الأموية في الشام والعباسية في العراق والأندلسية في الأندلس والفاطمية في الشمال الإفريقي ومصر، وفي إيران هناك المغولية والصفوية، ثم هناك مساجد الهند والمساجد العثمانية في تركيا.

وهذا الاختلاف في المظهر يزيد العمارة الإسلامية ثراءً وعمقًا، ولكنه لا يشمل اختلافًا في الجوهر، وقد راعى المعماريون في بناء المساجد الفخمة مسألة الصوت لتوصيل الخطبة إلى آلاف المصلين والضوء والتدفئة والتبريد كل ذلك بالوسائل الطبيعية.

المآذن:

تعتبر المآذن من أهم معالم المدينة الإسلامية، فهي تبدو وكأنها أذرع ممتدة بالدعاء والضراعة نحو السماء، ويتوج كل مئذنة في أعلاها قبة لها تاج وفوقها هلال كبير، ويحيط بوسطها عدد من الشرفات الدائرية لكل منها نوافذ يُطِلُّ منها المؤذن.

وبعض العواصم الإسلامية كالقاهرة ودمشق واسطنبول تسمى ذات الألف مئذنة، وترتفع المآذن في الآستانة إلى أكثر من سبعين متراً فوق المسجد، وتختلف المآذن في أشكالها وأنواعها حسب العصور والبلدان، فمنها المربع والمثمن والدائري، وكانت المآذن الأولى شبيهة بالمنارات الرومانية، وعندما أراد المعماريون المسلمون بناء مآذن أكثر ارتفاعا ابتكروا المئذنة المتحورة، التي تبدأ في القاعدة بأدوار مربعة ثم تعلوها أدوار مثمنة ثم يعلو ذلك الأسطوانة الدائرية.
ولا يتوقف ثبات المئذنة العالية على تطور الأدوار وتدرجها في الصغر فحسب، ولكن أيضا على استعمال الحلزوني الذي يربط قلب المئذنة بجسمها الخارجي، وبذلك تبدو المئذنة وكأنها حلزوني طويل مجوف ثابت الأركان رغم طوله.

ولا تقتصر وظيفة المئذنة على النداء للصلاة، فكثير من المآذن كانت تبنى كمنارة في البحر أو البر ولو لم يكن تحتها مسجد، ومن أهم وظائفها استعمالها كملاقف للهواء لتبريد الساحات السفلية تحتها، وبعض المساجد يشتمل على مئذنتين، وبعضها كالمساجد التركية يحتوي على أربعة مآذن.

وتزدان المئذنة بزخارف إسلامية جذابة تزينها الآيات القرآنية، كما أن بعضها كالمآذن الفارسية يحلى بالزليخ (القيشاني) الذي يبرق تحت أشعة الشمس.

وهناك مآذن ذات شهرة خاصة لانفرادها في التصميم المعماري، من ذلك مئذنة ابن طولون ذات السلم الحلزوني الخارجي، وقد بينت على طراز مئذنة (سُرَّ مَنْ رَأَى)، ومئذنة جامع الناصرية ذات الشعبتين، ومئذنة جامع ابن سنان في دمشق المكسية بالزخرف الزنجاري، والمئذنة المتحركة في أصفهان، وهي عبارة عن كتلة حجرية واحدة مجوفة من الداخل ويمكن لمن يصعد فيها أن يهزها في كل اتجاه دون أن تسقط بـه.. Ball and Socket.
ومئذنة مسجد اللقلاقة في سمرقند، وهي مئذنة متحركة تُرْبَط من أسفلها بمئذنة أخرى، فإذا حركت الأولى تحركت الثانية، وهكذا وجد المعماريون المسلمون في المآذن فرصة للإبداع الفني الذي يعبرون من خلاله عن مشاعرهم نحو عظمة الخالق وإبداعه في خلقه.

القصور والبيوت:

كان عرب الجاهلية وصدر الإسلام سكان خيام، وكانت بيوتهم تتسم بالبساطة والبدائية، ومع اتساع الفتوح والاستقرار في بلاد الخضرة والماء ومع الرخاء الزائد ابتدءوا في بناء القصور الفاخرة، وللبيت العربي عمارته المميزة وأقسامه الثابتة رغم اختلاف العصور والبلدان، فإنه ينقسم في تأسيسه إلى ثلاثة أقسام رئيسية: قسم خارجي ويسمى (الحواصل)، وفيه مركز الحرس والسائس والخيل والعربات، وقسم أوسط ويتضمن القاعات المهمة للاستقبال والجلوس والطعام، والقسم الثالث وفيه غرف النوم وقاعات الحريم.

وأغلب البيوت العربية ذات واجهات صماء خالية من النوافذ الخارجية، بحيث لا يتبين المُشاهد روعة العمارة والزخرف إلا بعد أن يدخل صحن البيت، حيث تواجهه ساحة مفتوحة للسماء تتوسطها فسقية كبيرة يتدفق إليها الماء من نوافير على أشكال حيوانية، ويحيط بالبِرْكة أشجار الليمون والبرتقال والفل والياسمين بعطورها الفواحة، ويحيط بهذه الساحة غرف البيت من كل جانب، وغالبا ما تكون من دورين أو ثلاثة أدوار، وترتفع جدران الغرف إلى أكثر من خمسة أمتار.

وتطل الغرف على الساحة من خلال مشربيات من الخشب المزخرف المطعم بالعاج، ولها نوافذ تسمى بالشمسيات والقمريات، وقد بلغ عدد الغرف في بعض قصور بني أمية ما يزيد عن الثلاثمائة غرفة، وأهم غرف القصر هو الإيوان، ويبلغ ارتفاعه ضعفي ارتفاع الغرف العادية وفي سقفه قبة دائرية، وفي كل قصر أيضا قاعات صيفية في الجهة الشمالية تُبرَّد بالنوافير المائية وملاقف الهواء.

وقد وجد في هذه القصور ملاعب وساحات ومخازن تسمى بالخزائن، منها خزائن الكتب، وكان في قصور الفاطميين أربعون غرفة، ثم خزائن الكسوات الصيفية، وخزائن الجواهر والطيب، ثم خزائن الأشربة - أي الأدوية.

وكانت القصور تزخر بالفن المعماري والزخرف الإسلامي الذي يشمل الأرض والحوائط والسقوف، وتحلَّى بآيات قرآنية تزين جدران البيت من الداخل والخارج، وأغلبها يُذَكِّر أصحابه بالتواضع لله والشكر له على نعمائه.

مرافق الخدمات العامة:

عملا بأوامر الإسلام التي تحث على إيصال الخدمة العامة وتيسيرها للرعية، والمساواة بين الغني والفقير في حق الرعاية، فقد اهتم الحكام المسلمون بمؤسسات الخدمة العامة اهتماما كبيرا وخاصة المستشفيات والاستراحات والمطاعم الشعبية والحمامات الشعبية، فكانت تلك المرافق أشبه بقصور الأثرياء من حيث الفخامة المعمارية والزخرف الإسلامي.

وقد بنى الخلفاء الاستراحات الفاخرة لحجاج بيت الله على طول الطريق من أي بلد إسلامي حتى مكة، وفي الاستراحة مطعم شعبي بالمجان وحمام وغرف للمبيت، وكان بعض الخلفاء مثل هارون الرشيد يتخفى في زي تاجر ويأكل مع الشعب في المطعم ليرى نوع الخدمة بنفسه.

وتتجلى التقنية الإسلامية في الحمامات، فالمسلمون أول من أنشأ في مدينتهم شبكة مياه في مواسير من المعدن توصل الماء بانتظام إلى الحمامات الشعبية وإلى البيوت، وفي الحمامات غرف للبخار (السونا)، وغرف للعلاج الطبيعي (التدليك).

الرباطات والقلاع والحصون:

من الأشياء اللافتة للنظر أن المسلمين لم يهتموا كثيرا بعمارة القلاع التي استولوا عليها من الرومان في الشام ومصر وإفريقيا، ولم يهتم المسلمون بسكناها أو تعميرها، والسبب في ذلك أن المسلمين لم يكونوا في البلاد المفتوحة كغزاة أو مستعمرين أو حكام غرباء حتى يتحصنوا من أهلها، وتحضرنا هنا كلمة للخليفة عمر بن عبد العزيز عندما طلب أحد الولاة منه أن يبني حصنا في الولاية لحمايتها فقال له: "حصنها بالعدل، وكفي بالعدل حصنا".

من الأشياء اللافتة للنظر أن المسلمين لم يهتموا كثيرا بعمارة القلاع التي استولوا عليها من الرومان في الشام ومصر وإفريقيا، ولم يهتم المسلمون بسكناها أو تعميرها، والسبب في ذلك أن المسلمين لم يكونوا في البلاد المفتوحة كغزاة أو مستعمرين أو حكام غرباء حتى يتحصنوا من أهلها، وتحضرنا هنا كلمة للخليفة عمر بن عبد العزيز عندما طلب أحد الولاة منه أن يبني حصنا في الولاية لحمايتها فقال له: "حصنها بالعدل، وكفي بالعدل حصنا".

في هذا السياق سوف نتطرق إلى مراحل تطور فن العمارة الإسلامية في مصر، كمثال يمثل العمارة الإسلامية عبر العصور، ونبين خصائص كل عصر على حدة:

عصر الخلفاء الراشدين وما قبل العصر الطولوني:

عدا الزمن في هذه الحقبة على آثار مصر، فعبثت يد الدهر بالفسطاط - أولى مدن المسلمين بمصر - فتركتها أطلالا، كما حدث ذلك في مدينة العسكر التي أسسها العباسيون سنة (133هـ/750 م)، وقد امتدت إلى جامع عمرو بن العاص يد التغيير والتوسيع حتى فقد كل معالمه الأولى ولم يبقَ إلا المكان الذي أُنشيءَ عليه، غير أنه قد حدث به ظاهرتان معماريتان على جانب عظيم من الأهمية:

الأولى: هي الصوامع الأربع التي أمر معاوية رضي الله عنه - أول خلفاء بني أمية - واليه على مصر (مسلمة بن مخلد) بإنشائها بأركان الجامع سنة (53 هـ/672 - 673م) على نمط الأبراج التي كانت بأركان المعبد القديم بدمشق، وكانت هذه الصوامع - في الواقع - نواة للمآذن التي أُنشئت بمصر بعد ذلك، والتي نرى الكثير منها الآن وقد تطورت تصميماتها وتنوعت أشكالها.

والظاهرة الثانية: هي المحراب المجوف الذي أحدثه به قرة بن شريك - والى مصر من قِبَلِ الوليد بن عبد الملك - في سنة (93هـ/712م) مقتديا في ذلك بالمحراب المجوف الذي أحدثه عمر بن عبد العزيز بمسجد المدينة في سنة (88هـ/706 - 707م).

العصر الطولوني 254-292هـ/ 868-905م:

أسس أحمد بن طولون الدولة الطولونية بمصر سنة (254هـ/ 868م) بعد أن قضى زهرة شبابه في (سامراء) قريبا من موالد الفن العباسي، وقد أبقى لنا الزمن فيما أبقى من آثار هذه الدولة ذلك الجامع العظيم الذي يعتبر بفرط اتساعه وبساطة تخطيطه وروعة بنائه وجمال زخارفه، مفخرة ذلك العصر.

وهو وإن كان قد استمد عناصر زخارفه من زخارف سامراء، واقتبس منارته الأولى من منارة جامعها على ما يظن، إلا إنه قد أخذ عن جامع عمرو - الذي جُدِّدَ سنة (212 هجرية) - نظام وشكل الشبابيك المفتوحة بأعلى واجهاتها الأربع..

ولم يدم حكم هذه الدولة لمصر طويلا؛ إذ سرعان ما استردت الخلافة العباسية مصر في سنة (292 هـ/905م) وانتقمت من الأسرة الطولونية، وأزالت كل معالمها، فركدت في مصر حركة الفنون والعمارة، حتى أننا لم نجد لها نهضة حينما استقل بها الأخاشدة من سنة (324 إلى سنة 358 هـ/935-969م).

العصر الفاطمي 358-567 هـ/ 969-1171م:

في أواخر أيام الدولة الإخشيدية كان الفاطميون يرنون بأبصارهم نحو مصر، يريدون أن يجعلوا منها مقرا لخلافة قوية فتية، ويأملون أن يكون لهم فيها شأن غير شأن العباسيين، وأن يتاح لمصر على أيديهم عهد حافل جديد، فما وافت سنة (358هـ/969م) حتى جاء جوهر الصقلي، قائد المعز لدين الله الفاطمي، رابع الخلفاء الفاطميين، وتم على يديه غزو مصر، واختط مدينة القاهرة، وأسس بها أول جامع لهم، وهو الجامع الأزهر.

وقد اقترن هذا العصر بعدة ظواهر معمارية، منها: استخدام الحجر المنحوت لأول مرة في واجهات المساجد بدل الطوب، ثم تزيين هذه الواجهات بالزخارف المنوعة المحفورة في الحجر، بعد أن كنا نشاهدها في جامع عمرو وجامع ابن طولون بسيطة عارية من الزخارف، وكانت القباب في ذلك العصر صغيرة وبسيطة، سواء من الداخل أو الخارج، وظهر تضليعها من الخارج لأول مرة في قبة السيدة عاتكة المنشأة في أوائل القرن السادس الهجري وأوائل الثاني عشر الميلادي.

وابتدأت أركان القبة تتطور نحو المقرنصات المتعددة الحطات، فبدأت بحطة واحدة، كما في جامع الحاكم، ثم بحطتين كما في قبة الشيخ يونس وقبتي الجعفري وعاتكة وغيرها، إلا أن فخر العمارة الفاطمية كان في الزخارف التي تستهوي النفوس بجمالها، وتنتزع الإعجاب بها، وبلغت الكتابة الكوفية المزخرفة والزخارف الجصية شأوا بعيدا في جمال عناصرها، وبديع تنسيقها، واختلاف تصميماتها، وكانت تحتل الصدارة في المحاريب، وتحلي إطارات العقود والنوافذ.

ولم تكن الزخارف الجصية وحدها هي المجال الذي أظهر فيه الصانع المصرى عبقريته، بل كانت الزخارف المحفورة في الخشب آية من آيات الفن الفاطمي الرائعات، فالأبواب والمنابر والمحاريب المتنقلة، والروابط الخشبية بين العقود، وما فيها من دقة في الحفر وإبداع في الزخرف والكتابة، تدل على مبلغ ما وصلت إليه النجارة في عصر الفاطميين من عظمة وازدهار.

الدولة الأيوبية 567-648هـ/1171-1250م:

استولى الأيوبيون على مصر سنة (567هـ/1171م)، وأسسوا بها أسرة حاكمة، وكان عهدهم منذ اللحظة الأولى عهد حروب طاحنة مع الصليبيين، فوجهوا جُلَّ اهتمامهم - من أجل ذلك - إلى إقامة الأبنية الحربية، فبنوا القلعة وأكملوا أسوار القاهرة، وكان اشتغالهم بهذه الحروب سببا في ندرة الأبنية الدينية التي خَلَّفوها لنا، وكان من أهم أغراضهم القضاء على المذهب الشيعي - مذهب الفاطميين - فأنشأوا لهذا الغرض المدارس وخصصوها لتدريس المذاهب الأربعة، ولم يبقَ من هذه المدارس سوى بقايا المدرسة الكاملية المنشأة سنة (622هـ/1225م)، وكانت مؤلفة من إيوانين متقابلين، وبقايا المدرسة الصالحية التي أنشأها الصالح نجم الدين الأيوبي سنة (640هـ/1242م)، والتي كانت مخصصة لتعليم المذاهب الأربعة، إلا أنها لم تكن ذات التخطيط المتعامد، بل كانت في الواقع عبارة عن مدرستين يشتمل كل منهما على إيوانين متقابلين أيضا.

وفي عصر الأيوبيين ابتدأ ظهور القباب الكبيرة، كما ابتدأ تطور المقرنصات في أركانها وتعدد حطاتها، ولم يُبقِ لنا الزمن سوى منارتين كاملتين من منارات ذلك العصر، وهما: منارة المدارس الصالحية، ومنارة زاوية الهنود، اللتان تعتبران نموذجين لطراز المآذن المنشأة في أواخر القرن السابع وأوائل القرن الثامن الهجري - أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر الميلادي.

وفي هذا العصر استمر ازدهار الزخارف الجصية ومثلها النجارة الدقيقة، وظهرت الكتابة النسخية، وسارت جنبا لجنب مع الكتابة الكوفية.

عصر المماليك 648-923هـ/1250-1517م:

عندما ولي الملك الصالح نجم الدين الأيوبي الحكم في أواخر الدولة الأيوبية أكثر من شراء المماليك الأتراك، وأسكنهم قلعة الروضة التي أنشأها بجزيرة الروضة سنة 638 هجرية، ولذلك سموا بالمماليك البحرية، وقربهم إليه وولاهم المناصب الكبيرة، ووصلوا إلى مرتبة الأمراء فعظم شأنهم وقوي نفوذهم، فما وافت سنة (648هـ/1250م) حتى ولي أحدهم - عز الدين أيبك التركمانى - مُلْكَ مصر.

ومنذ ذلك التاريخ بدأ حكم المماليك لمصر، واستمر إلى سنة (923هـ/1517م) أي 275 سنة، قضى منها المماليك البحرية 136 سنة من (648 إلى 784هـ/1250-1382م)، وأعقبهم المماليك الجراكسة الذين حكموا من سنة (784 إلى سنة 923هـ/1382-1517م) أي 139 سنة.

في هذا العصر الذي طال عهداه، تنافس سلاطين المماليك في إنشاء الجوامع والمدارس، وإقامة الأضرحة والأسبلة وبناء القصور والوكالات، وتجلت عظمة العصر المملوكي فيما أبدعوه من روائع المنشآت التي تبدو للناظر شامخة في غير تبرج، وتزهو بنفسها في غير خيلاء، في جمال غير متكلف يستثير إعجاب كل من يراه وينتزع ثناءه انتزاعا.

وفي هذا العصر استقر فن العمارة المصري، وأصبح ذا طابع خاص به له مقوماته وتقاليده، يتوارثها المعماريون والفنيون، تظهر واضحة في تخطيط المساجد وتصميم الواجهات، وفي المداخل الشاهقة بمقرنصاتها الجميلة، وتمشى مع هذا الاستقرار رقي دائم في صناعة الجص، وتنوع في زخارفه، يثبت ذلك ما نشاهده في أبنية النصف الثاني من القرن السابع الهجري - القرن الثالث عشر الميلادي - إلا أن الرخام انتزع من الجص مركز الصدارة، فصارت المحاريب وأسفال الجدارن الداخلية مكتسية بالرخام المتعدد الألوان، متفرد بتصميمات بديعة، يزيد في بهائها دقة الصناعة وتجانس الألوان.

وتبع كل ذلك تطور في أشغال النجارة وإبداع في تكوين زخارفها، فسارت أعمال التطعيم بالسن والآبنوس والزرنشان جنبا لجنب مع الأويمة الدقيقة في المنابر والأبواب والشبابيك، وخَطَتْ أعمال الخراطة خطوات واسعة كما تنوعت تصميمات الأسقف الخشبية، وزاد في روعتها ما حوته من نقوش جميلة مموهة بالذهب، هذا وتتجلى دقة صناعة التعدين في الأبواب المصفحة بالنحاس؛ فتظهر فيها براعة الحفر والتفريغ في النحاس إلى دقة التكفيت فيه.

وللعصر المملوكي أن يزهو على غيره من العصور بقبابه ومآذنه، فقد أخذت القباب تُبْنى بالحجر بدلا من الطوب، وأصبحت قواعدها تأخذ أشكالا مختلفة، كما ظهر القاشاني مُغلفًا ببعض رقابها، أما أسطحها الخارجية فقد تدرجت زخرفتها من تضليع إلى خطوط متعرجة ودالات متداخلة، ثم بلغت في عصر المماليك الجراكسة شأوًا عظيما، فازدانت بأشكال هندسية وأخرى زخرفية.

وسايرت المنارات القباب فنراها تعلو في الفضاء في تيهٍ وإعجاب، تطل على ما حولها في رشاقة ودلال، يسترعي الانتباه طابعها الخاص - وإن كان بعضها قد خرج عنه - ويبهر الرائي رونقها وزخرفها، فالبعض كُسِيَتْ خوذته العليا بالقاشاني كما في خانقاه بيبرس الجاشنكير وجامع الناصر محمد بالقلعة، والبعض الآخر حليت دورته الوسطى بتلابيس من الرخام كما يشاهد في منارة مسجد برقوق ومنارة مسجد القاضي يحيى، هذا وقد تنوعت زخارفها وكثرت في أواخر عصر المماليك الجراكسة.

وأنشئت في العصر المملوكي المدارس ذات التخطيط المتعامد، التي تتكون من صحن مكشوف تحيط به أربعة إيوانات متقابلة، وألحق بها أضرحة لمنشئيها، كما ألحق ببعضها الأسبلة والكتاتيب، وفي أواخر عصر المماليك الجراكسة، أخذت هذه المدارس تبنى بأحجام صغيرة بالنسبة لمثيلاتها المنشأة في عصر المماليك البحرية، وصارت أصحنها تغطى بأسقف خشبية بولغ في نقشها وزخرفتها، وقد أنشئت هذه المدارس في الأصل لتكون أماكن تدرس فيها المذاهب الإسلامية إلى جانب إقامة الشعائر الدينية، فكانت بذلك تجمع بين الغرضين، أما الآن فهي مستعملة كمساجد فقط لا يدرس فيها 

بعد هذا العرض السابق، وبعد ظهور ما يمكن أن نسميه: نهضة عمرانية إسلامية خالصة، حيث بناء المدن الحديثة والمتكاملة، وحيث إنشاء المساجد والقصور، والبيمارستانات (المستشفيات) والمدارس وخزانات المياه.. فقد كانت هناك إضافات أخرى للعمارة الإسلامية، تمثلت في الوصول إلى استحداث عناصر وتقنيات ونظم لم تكن معروفة من قبل، وذلك مثل أشكال العقود والتيجان والقباب والمحاريب والمنارات والمآذن وغيرها، وفيما يلي سوف نتعرض لعدد من تقنيات العمارة الإسلامية للوقوف على أهميتها، والتعرف على إسهامات المسلمين في استحداثها وتطويرها

تقنية الصوتيات المعمارية:

يدين علم الصوتيات Acoustics بنشأته وإرساء أصوله المنهجية السليمة لعلماء المسلمين في عصر النهضة الإسلامية، وقد أفادوا من تطبيقاته في مجالات حيوية مختلفة، من بينها تطوير تقنية الهندسة الصوتية، واستخدامها فيما يعرف الآن باسم "تقنية الصوتيات المعمارية" فقد عرفوا أن الصوت ينعكس عن السطوح المقعرة ويتجمع في بؤرة محددة، شأنه في ذلك شأن الضوء الذي ينعكس عن سطح مرآة مقعرة.

وإذا أُجرِيَ حسابٌ دقيقٌ لهندسة السطوح المقعرة فإنه يصبح بالإمكان تسليط الأمواج الصوتية المنعكسة، وتركيزها في اتجاهات معينة بحيث تزيد من وضوح الصوت وشدته، أما إذا لم تراع الحسابات الدقيقة لأماكن السطوح المقعرة وأبعادها بالنسبة لأماكن إصدار الصوت واستقباله، فإنه ينتج عن ذلك "تشويش" لدى السامع.

وقد استخدم التقنيون المسلمون خاصية تركيز الصوت Focusing of sound في أغراض البناء والعمارة، وخاصة في المساجد الجامعة الكبيرة لنقل وتقوية صوت الخطيب والإمام في أيام الجمعة والأعياد، ومثال ذلك: مسجد أصفهان القديم، ومسجد العادلية في حلب، وبعض مساجد بغداد القديمة، حيث كان يصمم سقف المسجد وجدرانه على شكل سطوح مقعرة موزعة في زوايا المسجد وأركانه بطريقة دقيقة تضمن توزيع الصوت بانتظام على جميع الأرجاء.

وإن هذه المآثر الإسلامية الباقية حتى اليوم لخير شاهد على ريادة علماء الحضارة الإسلامية في تقنية الصوتيات الهندسية المعمارية، وذلك قبل أن يبدأ العالم المعروف "والاس ك سابين" حوالي عام 1900م في دراسة أسباب سوء الصفات الصوتية لقاعة محاضرات في جامعة "هارفارد" الأمريكية، وتتبع سلوك الخواص الصوتية للقاعات وحجرات غرف الموسيقى.

ولكي نقف على مدى أهمية تطوير المسلمين لتقنية الصوتيات المعمارية تكفي الإشارة إلى أن خاصية تركيز الصوت التي لفتوا الأنظار إلى فوائدها التطبيقية تستخدم في الحضارة المعاصرة كجزء أساسي من هندسة الصوتيات المعمارية، حيث تزود المسارح وقاعات الاحتفال الكبيرة بجدران خلفية مقعرة تعمل على ارتداد الصوت وزيادة وضوحه، ويمكن تحسين الحالة الصوتية في القاعات باستخدام ألواح من مواد ماصة للطاقة الصوتية مثل "الفلين" و "الجبس" ونسيج "الألياف الزجاجية" Fiber glass، وتوضع هذه الألواح في أماكن معينة على السقف والجدران بغرض تقليل دوي الصوت أو التخلص منه.

تقنية العقود والقباب:

تؤكد المراجع والدراسات التاريخية في مجال العمارة الإسلامية أن أول ما ظهر من عناصر وأشكال التقنيات الهندسية المعمارية عند المسلمين هو "العقد المنفوخ" الذي استخدم في المسجد الأموي بدمشق عام (87هـ / 706م)، وعمم استخدامه بعد ذلك بحيث أصبح عنصرا مميزا للعمارة الإسلامية، وخاصة في بلاد المغرب والأندلس، ثم اقتبسه البناة الأوربيون وأكثروا من استخدامه في بناء كنائسهم وأديرتهم.

كذلك طور المسلمون تقنية "العقود ثلاثية الفتحات"، والتي كان مصدرها فكرة هندسية بحتة قائمة على القسمة الحسابية، وهو ما استدل عليه الباحثون من رسم باق على جدار في أطلال مدينة "الزهراء" وانتشر استعمال هذا النوع من العقود في الكنائس الأسبانية والفرنسية والإيطالية.

وهناك أيضا تقنية العقود المفصصة، أو المقصوصة، وهي عقود قُصَّت حوافها الداخلية على هيئة سلسلة من أنصاف دوائر، أو على هيئة عقد من أنصاف فصوص، ولعل هذا العقد المفصص قد اشتق من شكل حافة المحارة، غير أنه اتخذ من العمارة الإسلامية المظهر الهندسي البحت، وأصبح فيها ابتكارا ظهر أول ما ظهر فيما تبقى من الآثار في أوائل القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي)، واتضحت معالمه الهندسية كاملة في بناء قبة المسجد الجامع بالقيروان في سنة (221هـ / 836م).

واحتفظ العقد المفصص بمظهره الهندسي في تطوره بعد ذلك بالرغم من تعدد أشكاله، ثم تشابكت العقود المفصصة في القرون التالية، وازداد عدد الفصوص، وتصاغرت وتداخلت فيها زهيرات ووريدات، وأصبح شكلها زخرفيا جذابا حليت به المآذن والمحاريب.

ومن المغرب والأندلس اشتقت العمارة المسيحية في أوربا أشكال العقود المفصصة لتزيين واجهات الكنائس، وظهرت فيها بمظهرين: المظهر الأول هندسي بحت، أي أن العقد يتكون من سلسلة من أنصاف دوائر، والمظهر الثاني نباتي، أي أن العقد يتكون من التفاف غصن في أنصاف دوائر تتتهي كل منها بزهيرة أو وريدة.

وإلى جانب هذه الأنواع من العقود ظهرت في العمارة الإسلامية أشكال أخرى منها: العقود المدببة والصماء والمنفرجة، وقد انتشر استخدامها في بلاد المشرق والمغرب على السواء، وتوجد أمثلة منها في العمارة الأوربية، فعلى سبيل المثال: انتقل العقد المنفرج إلى العمارة الإنجليزية، وعَمَّ استعماله في القرن السادس عشر الميلادي باسم "العقد التيودوري" Tudor arch بينما سبقت العمارة الإسلامية إلى استخدامه قبل ذلك بخمسة قرون في مساجد: الجيوشي والأقمر والأزهر بالقاهرة.

ولا تختلف أمثلة العقد التيودوري في إنجلترا مظهرا وعنصرا عن أمثلة العقود المنفرجة في القاهرة، وإن كانت أعمدتها هنالك رفيعة وأكثر طولا، وهذا أمر طبيعي أملاه التطور التقني في غضون خمسة قرون.

أما تقنية القباب فقد تطورت كثيرا في العمارة الإسلامية، واتخذ تصميمها الهندسي أشكالا مختلفة في قبة المحراب الجامع بالقيروان، ومسجد الزيتونة بتونس، والمسجد الجامع بقرطبة، وقد ظهرت آثار هذا التطور بوضوح في العمارة الأوربية خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين.

ويهتم الباحثون المعاصرون بدراسة الأساس العلمي للتصميمات الهندسية التي قامت عليها تقنية العقود والقباب بأشكالها المختلفة وزخارفها المتنوعة؛ وذلك لإظهار قيمتها الجمالية الفائقة من جهة، ولإرشاد المعنيين برعاية الآثار قبل الشروع في أعمال الترميم والصيانة وإعادة البناء والتركيب والزخرفة من جهة أخرى.

تقنية الزخارف المعمارية:

اتخذت هذه التقنية خصائص مميزة كان لها عظيم الأثر في إبراز المظهر الحضاري لنهضة المسلمين، وازدهرت بدرجة عالية سواء من حيث تصميمها وإخراجها، أو من حيث موضوعاتها وأساليبها، واستخدم التقنيون المسلمون خطوطا زخرفية رائعة المظهر والتكوين، وجعلوا من المجموعات الزخرفية نماذج انطلق فيها خيالهم إلى غير النهائي والتكرار والتجدد والتناوب والتشابك، وابتكروا المضلعات النجمية وأشكال التوريق، وأشكال التوشيح العربي الذي أطلق عليه الأوربيون "الأرابيسك" Arabesque ولا يزال هذا النسق العربي في الزخرفة يحظى بالاهتمام في بلدان عديدة منذ ظهر لأول مرة في الزخرفة الفاطمية، وفي مسجد الأزهر، في منتصف القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي).

وقد حذق أهل تقنية الزخارف المعمارية الإسلامية صنعة النحت المسطح والغائر على الخشب أو الحجارة أو الرخام، ومهروا في استخدام المواد الملونة، وإجادة النقوش، واحتل الخط الكوفي مكانة ممتازة بين الموضوعات والعناصر الزخرفية العربية.

واقتبس الأوربيون من كل ذلك ما تشهد به تيجان الأعمدة في كنائسهم أو عقود بواباتها، ولعل من أكثر الآثار الأوربية تعبيرا عن التأثيرات الإسلامية في العمارة والزخرفة المعمارية تلك المجموعة من الكنائس التي بنيت في مدينة "البوي" في وسط فرنسا في الربع الأول من القرن الثاني عشر الميلادي، فقد تجمعت في هذه المباني أمثلة عديدة من العقود المنفوخة والمفصصة وثلاثية الفتحات، لا تختلف عن نظائرها في العمارة الأندلسية، وظهر على واجهات هذه المباني وعقودها تناوب الألوان منظما بالشكل الذي يبدو عليه تماما في قبة مسجد الزيتونة بتونس، وفي عقود مسجد قرطبة.

وانتشرت في تلك الآثار مجموعة من التيجان الحجرية المنحوتة بالنحت الغائر على غرار منحوتات مدينة الزهراء، واتخذت هذه التيجان شكلا فريدا ظهر أول ما ظهر في مسجد قرطبة، ونجد فوق هذا كله خاتم العروبة والإسلام مطبوعا على إحدى بوابات كاتدرائية "البوي" ينطق بعبارة عربية مقروءة واضحة المعنى هي: "الملك لله".

ومن الجدير بالذكر أن جماليات العمارة الهندسية الإسلامية امتدت لتشمل القناطر المائية والجسور والقنوات، وكانت تقنياتها رائعة التخطيط والتنفيذ، تعطي الماء المار في القنوات والأنهار بُعدًا جماليا إضافيا عند المشاهدة.

وهذا يعنى أن العمارة الإسلامية وتقنياتها الهندسية والجمالية كانت مظاهر طبيعية لعصور الازدهار في حضارة الإسلام، أو امتدادا طبيعيا لهذه الحضارة العريقة، فعن علاقة الحضارة بالعمران يقول ابن خلدون في مقدمته: "إن الدولة والملك للعمران بمنزلة الصورة للمادة، وهو الشكل الحافظ لوجودها، وانفكاك أحدهما عن الآخر غير ممكن على ما قُرِّرَ في الحكمة، فالدولة دون العمران لا يمكن تصورها، والعمران دونها متعذر، فاختلال أحدهما يستلزم اختلال الآخر، كما أن عدم أحدهما يؤثر في عدم الآخر.

أثر عمارة المسلمين في الحضارة الغربية
في هذا الموضع بالذات يحضرنا ذلك الحدث الذي يحكي أن إمبراطور الرومان (إليون) عندما سمع أن المسلمين قد بنوا مسجدا في دمشق يعتبر أكبر معجزة معمارية في عصره لم يصدق ذلك، وشكل بعثة من المهندسين والمعماريين الرومان وقال لهم: "إن المسلمين قد غلبونا في حروب البر.. ثم غلبونا في حروب البحر، ولكن أن يستطيع رعاة الغنم وسكان الخيام أن يغلبونا في فن العمارة فهذا مالا أصدق به أبد.. فاذهبوا إلى دمشق وزوروا المسجد الأموي وأخبروني بحقيقة الأمر..!!"

وتقول الرواية: إن المعماريين الرومان عندما شاهدوا الرسوم التي وضعها المسلمون للمسجد لم يصدقوا أن هذه يمكن تنفيذها، فلما زاروا المسجد وقفوا عليه في ذهول أمام روعة الفن والعمارة.. وشهق رئيس المعماريين شهقة عالية كادت تصعد معها روحه، وتقول الروايات الإسلامية: إن هذا المسجد قد اعتُبِر في عصره المعجزة الخامسة؛ لأن المعجزات التي كانت معروفة في ذلك التاريخ والتي من صنع الإنسان كانت أربعة، وقد وضع حجر الأساس لهذا المسجد الخليفة الوليد بن عبد الملك سنة 86 هـ واستغرق البناء عشرين عاما في عهد أخيه سليمان ثم عمر بن عبد العزيز 

وهذه القصة تعطي فكرة عما وصل إليه المسلمون في ذلك العصر المبكر من تاريخهم في فن العمارة، وكغيرها من بقية العلوم التطبيقية الأخرى فإن العمارة الإسلامية كان لها بالغ الأثر في الحضارة الغربية الحديثة، وقد تبدّى هذا الأثر أولا في أسباني، ثم انتقل منها إلى فرنس، ثم إلى سائر بلاد أوروبا، وبدأ هذا الأثر خصوصاً بعد أن احتل الأسبان طليطلة سنة 1085م، واستمر ينمو ويزداد كلما توغَّل الأسبان في عملية الاسترداد حتى أواخر القرن الخامس عشر.
وهنا ينقسم التأثير إلى قسمين: قسم يكاد يكون عربياً خالصاً، وهو الفن المدجَّن أو المعمار الذي قام بتشييده المدجنون، وهم العرب المسلمون الذين بقوا في البلاد التي استعادها الأسبان، وكان منهم بناءون مهرة استعان بهم حكام المقاطعات الأسبانية في تشييد الأبواب الكبرى للمدائن وفي تشييد القصور والكنائس والأديرة والقناطر وسائر أنواع المعمار.

والقسم الثاني: وهو الذي يعنينا خصوصاً هنا: التأثيرات الإسلامية في معمار ظل طابعه العام أوروبياً، وهو المعمار المعروف بالرومان.

وينقسم التأثير بدوره إلى قسمين: تأثير في التصميم المعماري، وتأثير في التزويق أو الزخرفة المعمارية، وإلى القسم الأول يرجع ظهور الأقبية ذوات التنوءات، والأبراج المستقلة ذوات القواعد المربعة أو على شكل مآذن، وإلى التأثير في الزخرفة يرجع استعمال الأقواس التي على شكل نعل الفرس، والأقواس ذوات الفصوص، والإطارات المستطيلة المحيطة بالأقواس، والحوامل البارزة ذوات التقاطيع، والفصوص المجوفة، والوحدات الزخرفية المستلهمة من فن الكتابة الكوفية.

وسرعان ما انتقلت هذه التأثيرات من المعمار الروماني الطراز في أسبانيا، إلى المعمار الروماني في فرنسا عن نفس الطريق الذي انتقلت به الموسيقى - أعني الوافدين من فرنسا إلى شنت يعقوب في شمال أسبانيا، ثم بحكم التجاور بين بلاد البشكونس "الباسك" في أسبانيا وفرنسا، وكذلك عن طريق الكنائس الكلونية.

والقوس المفصصة نجدها تنتشر في المعمار في غرب فرنسا، وتمتد حتى إقليم البورجوني، بفضل تأثير المعمار الذي أنشأه دير كلوني، وكانت هذه القوس أحياناً من ثلاثة فصوص، وأحياناً أخرى من أربعة، لكن لما كان انتقال هذا التأثير قد تم عن طريق المشاهدة، لا عن طريق البنائين أنفسهم، فإن رسم الأقواس المفصصة لم يكن بنفس الدقة والمهارة اللتين نجدهما في الأقواس المعمارية الإسلامية.

والإطار المستطيل المحيط بالأقواس نجده في إقليم البورجوني بفرنسا، خصوصاً في Cluny وشارلييه Charlieu وباريه لومونيال، ونرى أثر هذا الإطار المستطيل المحيط بالأقواس في غسقونية وبواتو، إذ نجد بوابات تنتشر فيها الزخرفة من الزوايا التي يحيط بها المستطيل. ثم إن المفاتيح المتبادلة المثناة اللون التي نجدها في الفن الروماني إنما ترجع في أصولها إلى المعمار الإسلامي، كما يتمثل خصوصاً في مسجد قرطبة.

هذا فيما يتصل بتصميم المعمار، أما في الزخرفة فالتأثير أقوى بكثير، وعلى رأسها الزخرفة الكوفية بجلال خطوطها وأناقتها؛ إن الخط الكوفي هو باعتراف كبار مؤرخي الفن أجمل خط عرفه الإنسان، لهذا كان تأثيره على الفنانين الأوروبيين عميقاً كل العمق، ومن ثم سرعان ما قَلَّدوه، ومن هنا نجد زخرفاتٍ كوفية في أبواب وواجهات كثير من الكنائس في أوروبا في العصر الوسيط، بل وأيضاً نجدها في زخرفة الأثاثات "الموبيليات" وخصوصاً في باب كنيسة بوي، وكانت العاصمة القديمة لمقاطعة فيليه بحوض اللوار الأعلى في غربي فرنسا، وكذلك في واجهات كثير من الكنائس الرومانية في غربي فرنسا، والغريب أننا نجد في هذه النقوش تحميدات إسلامية، نقلها الفنان الأوروبي المسيحي دون أن يتبين معناها!! وأحياناً أخرى نجد الفنان الأوروبي قد عبث بالحروف حتى أصبح من غير الممكن قراءتها لأنه لم يكن يفهم معناها، وكان يشكل فيها على هواه.

أما الحوامل البارزة ذوات التقاطيعModillons a copeaux وهي التي نجدها خصوصاً في جامع قرطبة الكبير، فإننا نعثر عليها في كثير من الأبنية ذات الطراز الروماني، وبخاصة في مقاطعة أوفرن في قلب فرنسا، لكن سرعان ما تطور بها الفنان الأوروبي وحورها تحويرات كثيراً ما باعدت بينها وبين أصلها في الفن الإسلامي الأندلسي.

والأقبية ذوات النواتيء - وقد انتشرت خصوصاً في قرطبة - نجدها في الكنائس الرومانية والكنائس القوطية في شمال أسبانيا، كما في كنيسة طوريس دل ريو وكنيسة سان ميان في أشقوبية، ومن الآراء التي لها وجاهتها القول بأن القبو ذا النتوء الذي انتشر في المعمار الأموي في الأندلس، قد أسهم في اختراع متقاطع الأوجيف، الشهير في الفن القوطي La Croisee d'ogives، لما هناك من صلة واضحة بين الأقبية ذوات النواتئ وبين متقاطع الأوجيف.

كذلك نجد أثر المعمار الإسلامي في تعدد ألوان الواجهات في بعض الكنائس، وخاصة في إقليم الأوفرن، وكان المعمار الإسلامي في قرطبة مولعاً بهذا اللون، خصوصاً عن طريق استخدام الأحجار والآجُر معاً في البناء، ونجده أيضاً في بعض تيجان الأعمدة الرومانية التي تختلف كثيراً عن الطراز الشائع، وهي في الواقع من تأثير الفن الأموي الأندلسي، كما هو مشاهد في بعض تيجان الأعمدة في سان جييم ودير سان خوان دي دويرو في سوريا بأسباني، وسان بدرو في الروضة بجنوب أسبانيا.

لقد أُثبِتَ تأثيرُ العمارة الإسلامية في العمارة والزخرفة الأوروبية وحتى في الخط الأوروبي، فالخط الكوفي كان له تأثير على الخطوط الأوروبية، وكذلك كان لشكل المئذنة تأثيره في شكل الأجراس في الكاتدرائيات الأوروبية، وهذا أثبته بعض الأوروبيين أنفسهم الذين أثبتوا وجود تأثيرات فنية ومعمارية إسلامية على الفن الأوروبي، بل إن الفن القوطي الأوروبي أساسه العقد المدبب في الفن الإسلامي الذي أُخِذَ عن الأقبية والقباب المروحية في الأندلس؛ فالتأثيرات الإسلامية موجودة حتى في المسكوكات الأوروبية والتصوير، فالفن التيموري له أثره في الفن القوطي الدولي، بل إن فن عصر النهضة الأوروبية نفسه كان متأثرا بالروح الإسلامية، فبعض رواد عصر النهضة الأوروبية نشأوا في بيئات إسلامية، مثل: نيقولا بيزانو الذي عاش في أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر الميلادي، وهو رائد فن النهضة الأوروبية، نشأ في بيئة إسلامية في مدينة بوليا وكانت جزءًا من مملكة صقلية وهي بيئة إسلامية.

والأوروبيون أنفسهم لا ينكرون أن فن النهضة تأثر بالحضارة الإسلامية خاصة من الناحية العلمية والأدبية، لكنهم لم يكونوا يتناولون التأثير الفني رغم أن النهضة الأوروبية أساسها فني وقامت بفضل الفنانين الكبار مثل: ليوناردو دافنشي ومايكل أنجلو وروفائيل سانزيو وغيرهم.

معماريو المسلمين
كان المعماري في الإسلام يطلق عليه المهندس أو الحاسب، أما رئيس المعماريين فيلقب بالأستاذ أو الشيخ أو المعلم تقديراً واحتراما، وكان المعماريون كالأطباء يدرسون في الجامعات مثل جامعة (بيت الحكمة) التي أنشئت في بغداد سنة 830م أما مواد الدراسة فتشمل: الرياضيات والحساب والجبر وعلم الحيل (أي الميكانيكا) والرسم إلى جانب العمارة والهندسة، هذا إلى جانب العلوم الطبيعية كالفلك والطبيعة والعلوم النظرية كالدين والحكمة..

وهذا الإلمام الشامل بالعلم قد ظهر أثره واضحا في المباني والآثار الخالدة التي طبقوا فيها الكثير من العلوم كالضوء والتهوية، وكان المعماري يضع تصميما للمبنى على لوحة من الجلد.. وبعد اكتشاف الورق استعملوا ورقا هندسيا عليه مربعات، وهذه طائفة من أبرز معماري المسلمين:

ابن الهيثم:

من أعظم المعماريين المسلمين عالم الفلك والبصريات ابن الهيثم، الذي كان أول من وضع فكرة السد العالي على النيل في أسوان سنة 1000م، وقد كلفه الخليفة الحاكم بأمر الله الفاطمي بتنفيذه، ووضع تحت أمره السفن وفريقا من المهندسين والفنيين وذهب إلى الموقع الذي اقترحه على النيل حيث أمضى شهوراً في دراسات على الطبيعة، ولكنه وجد أن مثل هذا السد الهائل يحتاج إلى إمكانيات تفوق تكنولوجيا وإمكانيات عصره فعدل عن تنفيذها، ثم نفذت سنة 1961 م أي بعده بتسعة قرون (7).

سنان باشا:

وُلِدَ المعماري سنان باشا في عام 1489م في إحدى قرى الأناضول التركي من عائلة مسيحية، ولأن طموحه كان عاليا جدا فقد التحق بالجيش العثماني، ليحصل على فرصة للتعليم والحصول على وظيفة كبيرة �
المصدر: موقع قديم
FawziAgael

AGAEL

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 1548 مشاهدة
نشرت فى 2 أغسطس 2015 بواسطة FawziAgael

ساحة النقاش

fawzi mohamed agael

FawziAgael
فوزي محمد عقيل, دكتوراه التصميم الحضري ( علم نفس حضري )، باحث واستاذ جامعي في هندسة العمارة والتخطيط العمراني ، وخبير قضائي محلف لدى المحاكم الليبية . تخصص دقيق تصميم حضري (دراسات البيئة المبنية والادراك البشري) »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

19,612