مسألة صفة الإقامة
اختلف الفقهاء في صفة الإقامة التي تكون بعد الآذان وهل هي مثناه أو مفرده؟ إلى ثلاثة أقوال:
القول الأول:
ذهب الحنفية، و الإمامية، والزيدية، والإباضية إلى أن عدد كلمات الإقامة سبع عشرة كلمة وأنها مَثْنَى مَثْنَى وممن ذهب إلى هذا القول الثوري، وابن المبارك. وكيفيتها أن يقول: الله أكبر، أربع مرات، أشهد أن لا إله إلا الله، مرتين، أشهد أن محمدا رسول الله، مرتين، حي على الصلاة، مرتين، حي على الفلاح، مرتين، قد قامت الصلاة، مرتين، الله أكبر، مرتين لا إله إلا الله.. ( )
القول الثاني:
ذهب الشافعي في الجديد، وأحمد، وابن حزم.إلى أن ألفاظ الإقامة إحدى عشرة كلمة وأنها مفردة، وبه قال عمَر بْن الْخَطاب وكثير من الصحابة منهم: أنس ابن مالك، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والحسن البصري وغيرهم، وَابْن الْمنذر وكيفيتها: أن يَقُول: الله أكبر، مرتين أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، مرتين، الله أكبر، مرتين لا إله إلا الله.( )
القول الثالث:
ذهب مالك، و الشافعي في القديم، واللَّيْث بْن سَعْد إلى أن ألفاظ الإقامة عشر كلمات وهي مفردة وكيفيتها أن يقول:الله أكبر، مرتين، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر مرتين، لا إله إلا الله.( )
سبب الاختلاف
يرجع سَبَب الخلاف بين الفقهاء في ذلك إلى تَعَارض حَدِيثِ أَنَس بن مالك( ) فِي هَذَا الْمَعْنَى وَحَدِيثِ بن أَبِي لَيْلَى ( ) ، وَذَلِكَ أَنَّ فِي حَدِيثِ أَنَس الثَّابِتِ «أُمِرَ بِلالا أن يشفع الآذان ويفرد الإقامة إلاك قد قامت الصلاة»( ).
وفي حديث ابن أبي ليلى أنه : «أَمَرَ بلالا فَأَذَّنَ مَثْنَى وَأَقَامَ مَثْنَى»( )
الأدلة والمناقشة
استدل أصحاب القول الأول القائل بأن الإقامة سبع عشرة كلمة وأنها مثنى بالسنة والأثر.
أولا السنة:
1- عَنْ أَبِي محذورة ( ) أن رسول الله علمه الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة»( )
وجه الدلالة:
أن هذا الحديث ينفي الغلط في العدد بخلاف غيره من الروايات فإنه قد يقع فيها اختلاف وإسقاط وقالوا وَإِنَّما تكون كذلك إذا كانت مَثْنَى( ).
مناقشة هذا الدليل:
نوقش الاستدلال بالحديث بأن الرواية اختلفت عن أبي محذورة فروى جماعة عنه إفراد الإقامة وآخرون تثنيتها ,وقد اتفقنا نحن وأصحاب أبي حنيفة على أن حديث أبي محذورة لا يعمل بظاهرة؛ لأن فيه الترجيع وتثنية الإقامة وهم لا يقولون بالترجيع ونحن لا نقول بتثنية الإقامة فلابد لنا ولهم من تأويله فكان الأخذ بالإفراد أولى ؛لأنه الموافق لباقي الروايات والأحاديث الصحيحة كحديث أنس وغيره. ( )
2- عن عبد الله بن زيد، ( )، قال: «كان أذان رسول الله شفعا شفعا في الأذان والإقامة»( ) .
3- ما روى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد أن عبد الله بن زيد لما رأى الأذان أتى النبي فأخبره فقال: علمه بلالا، فقام بلال فأذن مثنى مثنى، وأقام مثنى مثنى، وقعد قعدة»( )
وجه الدلالة:
دل الحديثان على تثنية الإقامة(( ).
مناقشة هذين الدليلين:
نوقش الاستدلال بالحديثين بأَنَّ كلا منهما منقطع كما قال الترمذي ،وَ الروايات عن عبد الله بن زيد في هذا الباب كلها منقطعة،و ابن أبي ليلى: سيء الحفظ، لا يثبت سماعه من عبد الله بن زيد( )
أجيب عن ذلك:
أن الترمذي قال بعد تخريج هذا الحديث: عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن زيد ما لفظه، وقال شعبة: عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، حدثنا أصحاب محمد أن عبد الله بن زيد رأى الأذان في المنام، قال الترمذي: وهذا أصح ( )
ثانيا الأثر:
1) روي عن مجاهد ( ) أنه ذكر له الإقامة مرة مرة، فقال: «هذا شيء قد استخفته الأمراء، الإقامة مرتين مرتين»( ).
وجه الدلالة:
إن مِثْل هذا التابعي لا يكذب، وقد أشار إلى كون الإفراد بدعة ( )
ثانيا أدلة أصحاب القول الثاني
استدل أصحاب القول الثاني القائل أن الإقامة مفردة وأن ألفاظها إحدى عشرة كلمة بالسنة, والمعقول.
أولاً السنة:
1- عَنْ عبد الله بن زيد ، قال: لما أمر رسول الله بالناقوس يعمل ليضرب به للناس لجمع الصلاة طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسا في يده، فقلت: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت له: بلى، قال: فقال: تقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، قال: ثم استأخر عني غير بعيد، ثم، قال: وتقول: إذا أقمت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، فلما أصبحت، أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، بما رأيت فقال: «إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت، فليؤذن به، فإنه أندى صوتا منك» فقمت مع بلال، فجعلت ألقيه عليه، ويؤذن به، قال: فسمع ذلك عمر بن الخطاب، وهو في بيته فخرج يجر رداءه، ويقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله، لقد رأيت مثل ما رأى، فقال رسول الله : «فلله الحمد»( )
وجه الدلالة:
دل الحديث على تثنية الأذان وإفراد الإقامة و الحكمة في إفراد الإقامة وتثنية الأذان أن الأذان لإعلام الغائبين فيكرر ليكون أبلغ في إعلامهم والإقامة للحاضرين فلا حاجة إلى تكرارها ولهذا قال العلماء يكون رفع الصوت في الإقامة دونه في الأذان وإنما كرر لفظ الإقامة خاصة لأنه مقصود الإقامة ( ).
2-عَنْ أَنَسٍ بن مالك، قَالَ: «أُمِر بلال أن يشفع الأذان، وأن يوتر الإقامة»( )
وجه الدلالة:
دل الحديث على وجوب الأذان والإقامة، وعلى أن الأذان مثنى، ويدل على إفراد الإقامة إلا قوله " قد إقامة الصلاة، فقوله يشفع الآذان يعني يأتي به مثنى، ومعنى يوتر الإقامة أن يأتي بها وترًا أي لا يثنيها ( )
مناقشة هذا الدليل:
نوقش الاستدلال بالحديث بأنه ليس ليس فيه ذكر النبي فَلا يكون فِيهِ حجَّة لاحْتِمَال أَن يكون الْآمر غَيره( ).
أجيب عن ذلك:
أن معناه أن رسول الله هو الذي أمره بذلك والآمر مضاف إليه دون غيره لأن الأمر المطلق في الشريعة لا يضاف إلا إليه وقد زعم بعض أهل العلم أن الآمر له بذلك أبو بكر وهذا تأويل فاسد لأن بلالا لحق بالشام بعد موت رسول الله واستخلف سعد القرظ الأذان في مسجد رسول الله ( )
ورُد ذلك بما يلي:
أنه إنما يفسد هذا التأويل إذا ثبت أن بلالاً لحق بالشام عقب وفاة الرسول قبل أن يستخلف أبو بكر وأنه لما عاد إلى المدينة لم يكن بها أحد من الخلفاء الراشدين، وحينئذ يفسد التأويل، وإلا فيحتمل أنه أمر بذلك بعد أن استخلف أبو بكر ثم لحق بالشام بعد ذلك، أو أمره بذلك بعض الخلفاء بعد أن رجع من الشام وقدم المدينة فإن ثبت أن الآمر بذلك هو النبي فيحتمل قوله أن يشفع الآذان بالصوت فيأتي بصوتين صوتين ويفرد الإقامة فيأتي بصوت صوت. ( )
أجيب عن ذلك بما يلي ( ):
قيل لأحمد بن حنبل وكان يأخذ في هذا بآذان بلال أليس آذان أبي محذورة بعد آذان بلال وإنما يؤخذ بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله .
قال أليس لما عاد إلى المدينة أقر بلالاً على آذانه( ).
3- عن ابن عمر – رضي الله عنهما- قال: " إنما كان الأذان على عهد رسول الله مرتين، مرتين والإقامة مرة، مرة غير أنه، يقول: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة»( )
وجه الدلالة:
أن ظاهر الحديث يدل على أن كل ألفاظ الإقامة مرة مرة لكن ينبغي استثناء التكبير أولاً وآخرًا فإنه مرتين مرتين( ).
4 - عن ابن عمر – رضي الله عنهما- أن رسول الله ، قال: «من أذن ثنتي عشرة سنة وجبت له الجنة، وكتب له بتأذينه في كل يوم ستون حسنة، ولكل إقامة ثلاثون حسنة»( )
وجه الدلالة:
هذا الحديث يدل على أن الإقامة على الشطر من الآذان ( ) .
أدلة القول الثالث:
استدل مالك على أن ألفاظ الإقامة عشرة كلمات وأنها مفردة بمثل ما استدل به أصحاب القول الثاني واستدل على عدم تثنية قوله "قد قامت الصلاة بالسنة والإجماع والمعقول.
أولا السنة:
1- عن سَعْدٍ القرظ ( ) أَنَّهُ كان , يَقُولُ: إن هذا الأذان أذان بلال الذي أمره رسول الله وإقامته,وهو ...... والإقامة واحدة واحدة , ويقول: «قد قامت الصلاة مرة واحدة» ( )
وجه الدلالة:
دل الحديث على أن الإقامة وتر وأنها تقال مرة واحدة( )
2 - عن إبراهيم بن عبد العزيز بن عبد الملك( ) بن أبي محذورة، قال: أدركت أبي وجدي يؤذنون من الأذان الذي أؤذن ويقيمون هذه الإقامة ويقولون: إن النبي علمه أبا محذورة فذكر صفة الأذان بالترجيع ثم قال والإقامة فرادى( )
مناقشة هذه الأدلة:
نوقش هذا الاستدلال بأن أحاديثنا أكثر ورواتنا أحفظ وقد دام على مذهبنا أهل المدينة ( ).
ثانيًا الإجماع:
أنه نقل أهل المدينة خلف عن سلف( )
مناقشة هذا الدليل:
نوقش هذا الدليل بأن الأذان منقول نقل الكافة بمكة وبالمدينة وبالكوفة؛ لأنه لم يمر بأهل الإسلام - مذ نزل الأذان على رسول الله إلى يوم مات أنس بن مالك ( آخر من شاهد رسول الله وصحبه ) يوم إلا وهم يؤذنون فيه في كل مسجد من مساجدهم خمس مرات فأكثر؛ فمثل هذا لا يجوز أن ينسى ولا أن يحرف فمن الباطل الممتنع المحال الذي لا يحل أن يظن بهم - رضي الله عنهم - أن أهل مكة بدلوا الأذان وسمعه أحد هؤلاء الخلفاء - رضي الله عنهم أو بلغه والخلافة بيده فلم يغير، هذا ما لا يظنه مسلم ( )
ثالثا المعقول:
ولأنه لفظ يختص بالإقامة فوجب أن يكون على أصلها في الايتار، كما أن لفظ "الصلاة خير من النوم "لما كان لفظ يختص بالآذان كان أصل الآذان في الإشفاع( ).
الرأي الراجح
بعد عرض آراء الفقهاء وأدلتهم وما ورد عليها من مناقشات يتضح أن الرأي القائل بإفراد الإقامة وأنها إحدى عشرة كلمة هو الأولى بالقبول وذلك؛ لقوة أدلته وسلامتها من المناقشة , كما أن أحاديث إفراد الإقامة أَصَح لكثرة طرقها وكونها فِي الصَّحِيحَيْنِ( )، وهو المعمول به في الأقطار الإسلامية فلا يتصور أن تتهاون الأمة في نقل كيفية ثابتة في شعيرة من شعائر الإسلام تُكرر خمس مرات في اليوم والليلة ، ولأن هذا ما يتفق مع الأحاديث الصحيحة الصريحة لاسيما وقد ورد حديث أنس في صحيح البخاري وما استدل به أنصار المذهب القائل بأنها مثَنْى لم تسلم من المناقشة ولا تنهض لمعارضة الأحاديث الصحيحة التي استدل بها أصحاب القول الثاني وهو نص في محل النزاع .
والله أعلم بالصواب

