يعتقد المتصوفة في الله – كما يقول عبد الرحمن عبد الخالق – عقائد شتى منها الحلول كما هو مذهب الحلاج، ومنها وحدة الوجود حيث لا انفصال بين الخالق والمخلوق، ويرى أن أجرأ الناس في إظهار العقيدة الباطنية للفكر الصوفي كان الحسين بن منصور الحلاج، وهذه الجرأة هي التي أدت به بعد ذلك إلى القتل والصلب، ولقد كان هناك من المتصوفة من هم على عقيدته ولكنهم كتموا(<!--).
وبعد أن ينقل من الحلاج بعض أقواله في (طاسين الأزل والالتباس) يذكر بعض الملامح عن عقيدة الحلاج الصوفية الباطنية فيقول :
أعبد الناس في كلام الحلاج هو إبليس والرسول(صلى الله عليه وسلم)، وانظر كيف ينظمها عدو الله في سلك واحد، ثم يستدل على ذلك بأن إبليس أمر بالسجود فلم يسجد، والذي منعه من ذلك هو مشيئة الرب فيه وجبر الرب له، وتحققه أن لا موجود إلا هو، وأن القرب والبعد من الرب واحد؛ لأنه ليس على الحقيقة إلا الله، وأن إبليس قد كان داعيًا للملائكة إلى المحاسن، بإقامة الله له، وفي الأرض إنما هو داع إلى القبائح، وما هو في الحقيقة إلا قائم بمراد الرب ومشيئته "(<!--).
وأما الدليل الآخر الذي ساقه الحلاج، فهو قول الرسول (صلى الله عليه وسلم): "اللهم بك أصول وبك أجول وبك أقول"(<!--) والمعنى الذي هو مراد الرسول (صلى الله عليه وسلم) هو معنى لا حول ولا قوة إلا بالله، فلا يستطيع أحد أن يفعل خيرًا، أو يوفق إلى خير إلا بحول الله وقوته، ولكن الحلاج قلب هذا المعنى إلى عقيدته الخبيثة في الرب جلا وعلا، وجعل معناها أن الرسول قال ذلك لأنه كان متحققًا أنه هو هو، أي أنه هو الله !!(<!--) .
والملاحظ أن عبد الرحمن عبد الخالق يأخذ الحلاج وآراءه دليلاً لينسب إلى الصوفية جميعًا القول بالحلول والاتحاد، وهذا المنهج كما سبق وأشرنا هو الذي يتبعه السلفيون المحدثون، بعكس أئمتهم القدامى: " فرغم إنكارهم الشديد على الحلوليين والاتحاديين، فإننا نجد نصوصًا عديدة في كتبهم، يبرئون من خلالها مشايخ الصوفية المعتدلين من هذا المذهب المنحرف، ويقصرونه على الغلاة منهم فحسب، بل ينقلون أقوالاً لعدد من الصوفية في إنكار هذا المذهب والرد على أصحابه " (<!--).
وقد أقر ابن القيم بأن ما في كتاب الهروي من مشكلات، وبما في عباراته من غموض وإبهام، يفتح بابًا من الاحتمالات التي ربما اتخذها أصحاب المذاهب الباطلة وسيلة لجذب الرجل إليهم، ونسبته لمذهبهم، معتمدين في ذلك على مكانته الكبيرة، وشهرته الواسعة، لكنه ينفي أن يكون من أهل الاتحاد، ويدعو له بالرحمة، وعدم المؤاخذة على صنيعه(<!--).
ويعد أبو حامد الغزالي من أكثر الشخصيات التي خصها السلفيون المحدثون بالنقد والهجوم، نظرًا لمكانته الكبيرة بين الصوفية، ولدوره الخطير في التنظير للتصوف، وتدعيم مكانته بين المسلمين من أهل السنة، وإزالة الفجوة التي ظلت طويلاً بين الصوفية والفقهاء، وقد هاجمه عدد غير قليل منهم، ولكن كان أشدهم لهجة عبد الرحمن الوكيل .
فنراه يتتبع الغزالي عندما عقَّب على أقوال البسطامي والحلاج، وحاول تفسيرها لصالحهما والدفاع عنهما بقوله: " كلام العشاق في حال السكر يطوى ولا يُحكى! فلما خفَّ عنهم سكرهم، وردُّوا إلى سلطان العقل عرفوا أن ذلك لم يكن حقيقة الاتحاد، بل يشبه الاتحاد، مثل قول العاشق في حال فرط العشق:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا
وتسمى هذه الحالة بالإضافة إلى المستغرق فيها بلسان المجاز: اتحادًا، وبلسان الحقيقة توحيدًا، ووراء هذه الحقائق أسرار لا يجوز الخوض فيها ".
ويرد الوكيل عليه: توحيد مَنْ ؟؟ أتوحيد الرسول (صلى الله عليه وسلم)، أم توحيد البررة الأخيار من أصحابه؟! أجيبوا يا ضحايا الغزالي وسدنة الأصنام من كتبه؟!
ثم يصف الغزالي بأنه يتستر على شيطان وحي الحلاج؛ لأنه يعرف أن هذا البيت للحلاج، والحلاج حلولي، يؤمن بثنائية الحقيقة الإلهية، فيزعم أن الإله: له وجهان، أو طبيعتان هما: اللاهوت والناسوت، وقد حلَّ الأول في الآخر، فروح الإنسان هي لاهوت الحقيقة الإلهية وبدنه ناسوته، فإذا كان الغزالي قد رفض القول بالاتحاد، ودان بما يشبهه فقد آمن بما هو أخبث منه، وهو الحلول، بدليل استشهاده بالبيت الذي عبَّر به الحلاج عن حلوليته الكافرة!!(<!--)
ولعل الوكيل قد غَفَل أو تغافل عن أن الغزالي قد تيسرت له نشأة علمية موفقة وتكوين فكري متين بحيث صار عن جدارة أستاذ العقيدة في جامعة المستنصرية، كما كان فقيهًا وأصوليًا من الطراز الأول، حتى أسماه البعض " الشافعي الثاني " ، وشهد له شيوخ القوم " بالصديقية العظمى " !!
كما تناول الوكيل عقيدة ابن الفارض في الاتحاد مستشهدًا بأشعاره قائلاً :
ما ثم عند ابن الفارض من رب ولا مربوب إلا وهو ابن الفارض، إنه الخلاق، إنه هو الوجود، وواهب الوجود، وما الرب الأكبر إلا أثر من آثار قدرته، أو جزئي تائه حيران في كُلِّـيِّه !! هذا دين ابن الفارض. فبماذا تحكم عليه ؟
فوصفي، إذ لم تدع باثنين وصفها
وهيئتها – إذ واحدٌ نحن- هيئتي
يزعم أن كل ما وصف به الله نفسه، فالموصوف به على الحقيقة هو ابن الفارض؛ لأنه الوجود الإلهي الحق، في أزليته، وأبديته، وديموميته، وسرمديته !(<!--)
ثم يتعرض لعبد الكريم الجيلي ويصفه بالكاهن الوثني الأكبر الذي يدين بدين صنميه ابن الفارض وابن عربي، فيقول: " واللون الفاضح الصارخ في زندقته هو اعتقاده أن الله ما هو إلا إنسان كامل، وأن الإنسان الكامل(*) ما هو إلا الرب الأكبر الجامع بين الحق والخلق في وحدة، ولقد رأى الجيلي ألاَّ يمن بهذه المرتبة على أحد قبله، فمضى يؤكد القول إن إنسانيته هي أفق الربوبية والألوهية الأسمى، فيقول:
لي الملك في الدارين، لم أر فيهما
سواي، فأرجو فضلّه، أو فأخشاه
وقد حُـزتُ أنواع الكمال، وإنني
جمال جلال الكل، ما أنا إلا هو
هذا قول الجيلي، والله يقول: " وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "، ولكن الجيلي يفترى أن له وحده ملك الدنيا والآخرة، وأنه ليس للوجود رب سواه... أرأيت إلى الجيلي بأية وثنية ينعق؟ وبأية مجوسية يدين.؟!(<!--) .
كما يشير بعض السلفيين المحدثين إلى أن من أعظم مخاطر الفكر الصوفي فتحهم لباب التفسير الباطن لنصوص القرآن والسنة، وأنه لا يكاد توجد آية، أو حديث إلا وللمتصوفة الزنادقة تأويلات باطنية خبيثة لها، فيقول:
" ولو رحنا نتتبع ما سطرته أيدي المتصوفة من التأويل الباطني الخبيث للقرآن والحديث لجمعنا عشرات المجلات كلها من أمثال هذا الهذيان والافتراء، والتقول على الله بلا علم، والزعم أن هذه هي معاني القرآن الحقيقية ..."(<!--).
كما بيَّن فهم الصوفية الخاطئ لقضية القضاء والقدر، وما يترتب على ذلك من أقوال وأفعال يرفضها الشرع، فعقيدة الصوفية – على حد قوله – أن الله قد أقامك فيها، وتلك إرادته، ولا إرادة لك معه، وبالمقابل لابد أن تعتقد أن الله قد أقام العصاة في معاصيهم، والكفرة في كفرهم، وإبليس في إغوائه، كما استشهد بأقوال الحلاج، وكذلك أيضًا قول أبي يزيد لرجل عندما قال: سبحان الله : سبحان الله شرك، ثم قال له: كيف؟ قال: لأنك نزهت نفسك عن فعل السوء، ولم تنزه الله الذي يفعل السوء ويريده، ويقيم الناس فيه.
فيقول عبد الرحمن عبد الخالق : " إن هؤلاء المتصوفة لم يفهموا العقيدة الشرعية(*) التي بينها الله في كتابه أتم البيان وشرحها رسوله (صلى الله عليه وسلم) غاية الشرح، فقد رأوا أن فعل الكفرة والفجرة موافق للرب في إرادته ومحبته، وكذلك قال الحلاج عن إبليس وفرعون: إنهما عرفا الحقيقة، وأنهما قائمان بأمر الله في ذلك، ولهذا ما سجد إبليس، وما آمن فرعون إلا بأنه هو الله، ولهذا أيضا ما رجع هو عن قوله"(<!--).
وقد شمل هذا الهجوم من بعض السلفيين المحدثين الإمام ابن القيم نفسه أيضًا، وذلك لرفضهم مسلكه في محاولاته التماس المعاذير لبعض الصوفية، وقد تكررت أمثال هذه الانتقادات كثيرًا في كتابات بعضهم، ولا سيما حامد الفقي في تعليقاته على كتاب مدارج السالكين، والذي وصف صاحبه بأنه: " كان حسن الظن بالصوفية إلى حد بعيد، كما وصف بعض محاولاته لتأويل كلام الهروي بأنها تَمحُّل بعيد (<!--).
وجملة القول أنه يجب أن يُغلَّب جانب حسن الظن، والبحث عن الأعذار لمن اشتهر بالاستقامة والصلاح من الصوفية، ولم يعتنق عقيدة الحلول والاتحاد، ومحاولة تفسير بعض ما ورد من شطحاتهم بأنها خرجت في حال السكر، وضعف التمييز.
<!--[if !supportFootnotes]-->
<!--[endif]-->
(1) عبد الرحمن عبد الخالق: فضائح الصوفية، ص44، الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة، ص62.
(2) عبد الرحمن عبد الخالق: الفكر الصوفي، ص 64.
(3) هو جزء مأخوذ من حديث رواه أبو داود في ( سننه 2632) عن أنس بن مالك، ولفظه: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذا غزا قال: " اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أجول، وبك أصول، وبك أقاتل". وصحح الإمام الألباني إسناده في تخريج الكلم الطيب، ص75، كما رواه ببعض اختصار الترمذي 4: 278) وحسَّنه، والإمام أحمد في مسنده ( 6: 16).
(4) عبد الرحمن عبد الخالق: الفكر الصوفي، ص 65.
5) د/ أحمد قوشتي: الاتجاه السلفي بمصر وموقفه من التصوف، ص 51
6) ابن قيم الجوزية: مدارج السالكين، 1: 148- 149 .
(7) عبد الرحمن الوكيل: هذه هي الصوفية، ص 53-54.
(8) عبد الرحمن الوكيل: هذه هي الصوفية، ص 27.
(*) "الإنسان الكامل" هو اسم كتابه، وقد قدَّم فيه الأستاذ مصطفي درويش بلاغًا إلى النائب العام على صفحات مجلة الهدي النبوي يطالب بوقف نشره، ويصف: " أن ما ورد في هذا الكتاب لا يشكل اجتهادًا فقهيًا أو رأيًا دينيًا، إنما هو تدمير واضح للعقائد الإسلامية مما يدخل في دائرة قانون العقوبات". (الهدي النبوي، المجلد (38) عدد (8) سنة 1398هـ).
(9) عبد الرحمن الوكيل: هذه هي الصوفية، ص 44-45.
(10) عبد الرحمن عبد الخالق: فضائح الصوفية، ص 13.
(*) إن كثيرًا من الناس لم يستطيعوا أن يفرقوا بين علم الله الأزلي سبحانه وتعالى، وما سطره من مقادير الكون وفق هذا العلم، وأنه سبحانه يعلم ما سيكون كيف يكون، وبين الاختيار والمشيئة للعبد التي جعلها الرب تبارك وتعالى أساسًا ومناطًا للتكليف والحساب، فللعبد مشيئة خاصة يوقع بها الفعل الذي يريده، ولكنه لا يوقعه جبرًا على الله ورغمًا عنه، فالطاعة بتوفيقه وهدايته، والمعصية بإذنه ومشيئته، إذ لا يقع في ملكه إلا ما شاء، وهو سبحانه القادر على منع الكافرين من الكفر، ولكنه الابتلاء والاختيار والتكليف .
(11) عبد الرحمن عبد الخالق: الفكر الصوفي، ص 71-72.
(12) حامد الفقي: التعليق على مدارج السالكين، 2: 142، 3: 142، 150، 155 .
ساحة النقاش