على طريق النور تمضي مواكب العارفين الى غايات الغايات , حيث تنعم الأرواح التي شربت من ينابيع المحبة والصفاء حتى لم تبق فيها لغير الله بقية , فهي دائما وأبدا مع الله وبالله , إنها أروح الصفوة الأولياء , الذين اصطفاهم الله تعالى لهداية خليقته , فهم الضياء المنبعث في أرجاء هذه الحياة ليغمر سناه آفاق هذه الإنسانية فيجذب الأرواح التائقة إلى النور .
<!--[if !supportLineBreakNewLine]-->
ومع قمة شامخة من قمم التصوف نلتقي على طريق النور مع الإمام الجنيد –رضي الله عنه- فهو أحد أركان الطريق الصوفي الذي يشار إليه بالبنان , وهو إمام السلوك الذين ارتفعت على أيديهم منارات المعرفة وشربت من منابعهم العذبة أرواح المريدين والسالكين .
ولو ذهبنا نلتمس كلمة أو عبارة نستوحي من خلالها التعرف على مكانة الإمام الجنيد –رضي الله عنه- لما وجدنا خيرا من عبارة : هو سيد هذه الطائفة, ولقد صارت هذه الكلمة اصطلاحا لدى الصوفية على شخصية العارف الجنيد , بجانب ما قيل فيه من أنه شيخ التصوف على الإطلاق وإمام أهل الخرقة ومقدم الجماعة وغير ذلك .
وهو أبو القاسم الجنيد بن محمد الزجاج , أصله من نهاوند , ومولده ومنشؤه بالعراق وقد تفقه على مذهب أبن ثور من أصحاب الإمام الشافعي –رضي الله عنه- و راوي مذهبه القديم , وكان الجنيد يفتي بحضرته وهو في العشرين من عمره فذاعت شهرته في مختلف الأوساط العلمية ببغداد .
أما عن تربيته الصوفية , فقد أخذ الطريق من خاله السري السقطي وهو من أئمة رجال التصوف في عصره , وقد قال عنه الإمام القشيري : كان أوحد زمانه في الورع وأحوال السنة وعلوم الوحي . هذا ويؤرخ لوفاته –رضي الله عنه- بسنة سبع أو ثمان وتسعين ومائتين من الهجرة .
والمتصفح لتاريخ الجنيد , يقف في كل اتجاه على سر من الأسرار التي توحي بجملتها أن هذا الطراز من الرجال قد أعدته العناية الإلهية ليحمل مشعل الهدية لبني أمته , وليقدم لها ميزان العبودية الصادق الذي تزن به نفسها في إطار علاقتها مع خالقه جل شأنه , وهو يعد منذ صغره لتحمل هذه الأمانة، انظر إليه وهو يقول : كنت بين يدي السري ألعب وأنا ابن سبع سنين ، والجماعة يتكلمون في الشكر.
فقال : يا غلام ما الشكر ؟
قلت: ألا يعصى الله بنعمه.
فقال : أخشى أن يكون حظك من الله لسانك . فلا أزال أبكي على هذه الكلمة .
أجل , فقد أحدثت هذه الكلمة من خاله السري في نفسه دويا هز أركان نفسه . إذ خشي على نفسه أن يكون حظه من التصوف مجرد الكلام فيه وترديد عباراته وأن يحرم من التحقق بمضمون هذا الكلام، فعمل من ساعته على أن يكون صوفيا بالحقيقة والحال لا باللسان والمقال . وحين تصدق من العبد الإرادة وصاحبها من الله العون والتوفيق فقل من الخير ما شئت . فهذا هو الإمام الجنيد يقبل على مولاه إقبالا يعنيه عن نفسه وعن وجوده . وهو يصور معنى هذه الإقبال ودرجته قائلا : لو أقبل صادق على الله ألف ألف سنة ثم أعرض عنه لحظة كان ما فاته أكثر مما ناله!! .
إنه يرى إن لحظة تفوت العبد مع ربه فيها فوات مغنم تودي خسارته بكل مكاسب العمر . أرأيت همة أرقى من هذه الهمة؟ وتعبيرا يصور ما صورته من معان ؟
ولكن التساؤل الآن هو : بم تكون معية الخلق مع خالقه ؟؟
وما هي الصفات التي تؤهل العبد للإقبال على ربه وترفعه إلى مصاف المقربين ؟
وفصل الخطاب في ذلك إنما هو إتباع منهاج الشريعة المحمدية إتباعا كليا ليس الأشباح فقط وإنما بتطويع النفس لطاعة الله وبمكابدة النفس لأنواع المجاهدات درجة فدرجة حتى يساير هوى النفس مقصود الشارع الحكيم وحتى تصير الطاعات عادات تألفها النفس وتتوق أليها , وأساس ذلك كله صدق النية في إتباع الشريعة المحمدية إتباعا مبنيا على علم فلا وصول إلا من هذا الباب.
ولذا يقول الإمام الجنيد ( الطرق كلها مسودة عن الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول –صلى الله عليه وسلم- واتبع سنته ولزم طريقته ) وبعد ان بين معالم السبيل بصراحة لا لبس فيها , تجده يربط بأحكام بين منبع الطريق الصوفي ومصبه . فالمنبع هو الشريعة المحمدية ممثلة في هدى الكتاب والسنة , والمصب : هو الحقيقة التي يصلها العبد بإتباعه لمنهاج الشريعة المستقيم . فهنا هو يقول : مذهبنا هذا مقيد بأصول الكتاب والسنة، وهذا التقييد إنما هو من قبيل تقييد النتيجة بالمقدمة . وهو بلا جدال قاطع لأي منافاة بينهما.
ثم تعال معي لننظر الى مدى بعد الرؤية عند الإمام الجنيد : لقد أدرك هذا الرجل الذي كان يعيش في القرن الثالث الهجري ورأى بصيرته التي نوها الله ان ثمة دعاوي سيلفقها أعداء التصوف ويلصقونها به بعد حين من الزمن . وهي القول بخروج التصوف على الشريعة ودعوى ان الصوفية يسقطون الأعمال والتكاليف فقطع عليهم الطريق وقطع ألسنتهم , إذ ذكر أمامه ان شخصا قال : إن أهل المعرفة بالله يصلون إلى ترك الحركات – أي الأعمال – من باب البر والتقرب إلى الله –عزوجل- . فقال الإمام الجنيد : إن هذا قول قوم تكلموا بإسقاط الأعمال وهو عندي عظيم والذي يسرق ويزني أحسن حالا من الذي يقول هذا , فإن العارفين بالله أخذوا الأعمال عن الله تعالى واليه رجعوا فيها, ولو بقيت ألف عام لم أنتقص من أعمال البر ذرة إلا أن يحال بي دونها.
هذا هو قول سيد الطائفة الصوفية الرجل الذي أقام عشرين سنة وورده من النوافل في كل يوم ثلاثمائة ركعة , وثلاثون ألف تسبيحه.
إلى جانب مجالسه العلمية التي كانت ببغداد حيث الرائح والغادي والتي كان يؤمها الأدباء لينهلوا من بلاغته وروعة أسلوبه . والفقهاء ليأخذوا من فتاواه واستنباطاته , والفلاسفة لدقة نظره وسمو أفكاره , والمتكلمون لبراعته وتحقيقه والصوفية لإشارته وحقائقه .
ثم نمضي مع سيد الطائفة لنقتبس قبسات من إشاراته الصوفية ولمحاته العلوية , إنه يقول : إن الله يخلص إلى القلوب من بره بحسب ما تخلص إليها القلوب من ذكره فأنظر ماذا خالط قلبك ؟ وها هو ذا يندد بالغفلة عن الله قائلا : الغفلة عن الله أشد من دخول النار .
ثم يوضح ماهية التصوف قائلا : التصوف هو صفاء المعاملة مع الله تعالى وأصله الصرف عن الدنيا كما قال حارثة : صرفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري .
وأما عن جانب الكرامات والخوارق , فأننا نجتزئ من كثرتها بهذه الكرامة كمثال , فيسوق لنا الإمام الجنيد هذه الواقعة فيقول : كان السري يقول لي تكلم على الناس ,وكان في قلبي حشمة – أي حياء- من الكلام على الناس وكنت اتهم نفسي في استحقاقا ذلك حياء فرأيت النبي –صلى الله عليه وسلم- في المنام ليلة جمعة قال لي : تكلم على الناس , فانتبهت وأتيت باب السري قبل أن أصبح ودققت عليه الباب فقال : – قبل أن يسمع منه شيئا- لم تصدقنا حتى قيل لك ذلك : فقعد الجنيد للناس في الجامع بالغداة , فانتشر في الناس أن الجنيد قد يتكلم على الناس , فوقف عليه غلام نصراني , وقال: أيها الشيخ , ما معنى قول الرسول –صلى الله عليه وسلم- : ( اتقوا فراسة المؤمن فانه ينظر بنور الله) فأطرق الجنيد رأسه ثم رفعه فقال : أسلم فقد حان وقت إسلامك فأسلم الغلام وقطع الزنار.. هذا هو نور البصيرة الذي يمنحه الله لمن أجتباه وجعله من خواص عباده " وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم".
وبعد ,فهذا هو الإمام الجنيد سيد الطائفة الصوفية , الإمام الرباني والعالم اللدني الذي قال : ما أخرج الله إلى الأرض علما وجعل للخلق إليه سبيلا إلا وقد جعل لي فيه حظا ) وقد شهد له أبو العباس بن عطاء قائلا : إمامنا في هذا العلم ومرجعنا والمقتدى بها الجنيد . انه مقدم الجماعة وإمام أهل الخرقة وشيخ التصوف الذي كان لا يغفل عن الله طرفة عين) يقول : ( الغفلة عن الله تعالى أشد من دخول النار .
وهو الذي تكلم في المحبة – وهو شاب – بمكة في موسم الحج , على كبار المشايخ إذ قالوا له : هات ما عندك يا عراقي , فأطرق رأسه ودمعت عيناه ثم قال واصفا من تحقق بالمحبة : عبد ذاهل عن نفسه ,متصل بربه ,قائم بأداء حقوقه , ناظر إليه بقلبه ,وفد أحرق قلبه الأنوار الإلهية ,وصفا شربه من كأس ورده , وانكشف له الحق من أستار عينه , فان تكلم فبالله ,وان نطق فمن الله ,وان تحرك فبأمر الله ,وان سكن فمع الله , فهو بالله ومع الله.
فبكى المشايخ ,وقالوا : ما على هذا من مزيد ,جبرك الله يا تاج العارفين !! إنه الرجل الذي اكتملت فيه ولاية الله تعالى وفاضت من ينبوع معرفته لطائف الحكم لترتوي بها أرواح العارفين .وهو الإمام الذي ضرب بعلمه وحاله وسلوكه أروع المثل وقدم من جوهر صوفيته وتحققه أنصع البراهين وأقوى الحجج على أن التصوف يمثل أعلى قمة في الإسلام يظل لواؤها صفوة عباد الله , فسلام عليه في الخالدين . وسلام عليه مع النبيين والصديقين بمدده وبركاته دنيا وآخرة ، اللهم آمين .
<!--[endif]-->
ساحة النقاش