يأتي مشروع علم الكلام الجديد ، والذي جرى ويجري التركيز عليه في المحافل الفكرية والدينية المعاصرة سيما في العقد الميلادي الأخير، إذ يحاول هذا المشروع أن يضع حداً لحالات الركود التي سيطرت على الدراسات الكلامية في القرون الأخيرة، ويعيد بعث النتاج الكلامي من جديد ضمن آليات عمل متناغمة مع تطوّرات المعرفة الإنسانية، سيما الحاصلة بفعل تأثيرات العاصفة الغربية التي ضربت العالم من أقصاه إلى أقصاه، وذلك بهدف تحقيق التنمية الفكرية لهذا العلم، ووضعه في سياقه المناسب له فعلاً.

    تعود بذور التفكير الكلامي الجديد على الساحة الإسلامية إلى القرن التاسع عشر الميلادي؛ أي إلى زمن شروع التحديات الفكرية والثقافية الغربية التي رافقت الاستعمار الغربي الفرنسي والبريطاني للعالم الإسلامي. وقد كان للمستشرقين دورٌ فاعلٌ في تكوين هذا الجوّ العام نتيجة الانتقادات الحادّة التي وجّهوها إلى كافة مرافق الفكر الإسلامي، لا سيما السنّة النبوية الشريفة، وقد انبرى جيلٌ من العلماء في تلك الفترة لمواجهة هذا الواقع الفكري المرفوض في الوسط الديني، وكان أبرز هؤلاء: السيد جمال الدين الأفغاني في ردّه على الدهريين، وجاء بعد ذلك جيلٌ آخر تمثل بالشيخ محمّد عبده، والشيخ محمد رشيد رضا، وغيرهم فسجّلوا أبحاثاً هامة على هذا الصعيد، إلى أن وصل الأمر إلى أمثال العلامة الطباطبائي وتلميذه الشهيد مرتضى مطهري، والى الدكتور علي شريعتي، وسيد قطب، والسيد محمد باقر الصدر، ومالك بن نبي، وغيرهم، فأغنوا علم الكلام بالكثير من الدراسات والأبحاث القيّمة مع عشراتٍ من العلماء الآخرين في شتّى أنحاء العالم الإسلامي.

   وبناء عليه، فإن هناك رؤيةٌ تؤمن بأن التجديد في علم الكلام هو بتحويل الجهد الكلامي إلى مؤسّسة، أو "مأسسة" علم الكلام، وذلك من خلال الاهتمام بمجموعة أمورٍ من قبيل تشكيل مؤسّسات ولجان لتصحيح التراث الكلامي، وإخراجه من المكتبات القديمة وعالم المخطوطات، وتحقيق هذه الكتب وطباعتها طباعةً عصريةً، وكذلك إقامة المؤتمرات الدورية، والملتقيات، والمنتديات التي تُعنى بالفكر الكلامي، وتأسيس مكتباتٍ كلاميّةٍ متخصّصةٍ تتوفر فيها جميع المصادر والمراجع الكلامية القديمة والحديثة، وكذلك تأسيس بنوكِ معلوماتيةٍ كلاميّةٍ تؤمن للباحثين المادة الكلامية، وتحويل علم الكلام إلى عالم الانترنت والكمبيوتر ونحوها، وبالإضافة إلى كلِّ ذلك الاهتمام بالإصدارات الكلامية المتخصّصة من مجلاّتٍ ونشريّاتٍ ودوريّات، وكذلك تهيئة معاجم مفهرسة ومعاجم مصطلحات ودائرة معارف وموسوعة.

  كما تجدر الإشارة هنا إلى دور مراكز الترجمة التي تنقل الفكر الآخر كما تعرّف الآخر بالفكر الكلامي الإسلامي و... وهكذا، ومن الضروري تأسيس مراكز تعليمية تتخذ الكلام مادةً أساسيةً وتُلحق بها ما صار يلاصقها من علومٍ ومعارف أخرى كعلم المعرفة والنفس والهرمنيوطيقا والاجتماع والألسنية وتاريخ العلوم والأسطورة و... وغير ذلك من المشاريع والبرامج الكثيرة، وهذه الرؤية موجودة لدى الكثيرين اليوم، سواءٌ أصرَّحوا بذلك في كتاباتٍ أم لا، فهي رؤيةٌ يعيشها الكثير من الذين يحملون الهمَّ الفكري على الصعيد الديني عموماً.

ومع القبول الكامل لهذا المشروع الكبير والذي توجد نشاطاتٌ اليوم وموفقةٌ إلى حد كبيرٍ تتحرّك في إطاره، إلا أن الذي ينبغي ملاحظته هو أن التجدّد والتغيّر الذي حصل يستدعي إصلاحاتٍ كبيرةٍ وعميقةٍ في العقل الكلامي نفسه، فالملاحظ أنّ التجدد الذي حصل كان على أكثر من مستوى، وعلى أكثر من صعيد مما يمكن إيجازه هنا:

1- تجدّد المسائل: إن قسماً كبيراً من مسائل علم الكلام لم يعد له اليوم وجودٌ بمعنى أنّه لم يعد يشكّل القضية التي تشغل اهتمام الباحثين والمفكّرين، بل إن بعض الأفكار والأدلة والرؤى صار بطلانها اليوم غير محتاجٍ إلى توجيهٍ وتفسيرٍ نظراً إلى انهيار كل الأعمدة التي انبنت عليها تلك الأفكار عبر الزمن، بل إن مذاهب ومدارس كلامية بأكملها صار حالها كذلك، وهذا أمر طبيعي ومترقب، وفي مقابل كل ذلك ظهرت أفكارٌ جديدةٌ ومذاهب كلامية جديدة، قد يصح لنا أن نقول إنها أكثر بكثير مما ذهب وتنحّى عن حلبة الصراع، وهذه الاتجاهات لم تستخدم نفس آليات البحث التي كان يتم الاعتماد عليها سابقاً بل استقت لنفسها أنماط تفكيرٍ أخرى، وهذا تحوّلٌ جذري وأساسي في مساحات العمل وأفق التفكير الطارئة على علم الكلام.

2- تجدد المبادىء: بمعنى أن كثيراً من دراسات علم المعرفة والوجود وكذلك العلوم الإنسانية والطبيعية والأبحاث الرياضية قد تبدّلت وتغيّرت من أساسها، ومن هنا فإن بقعةً كبيرةً من اهتمامات وأدلّة ونقاشات المتكلّمين صارت بلا معنى في ظلِّ التحولات العلمية العظيمة، وهذا نحوٌ مهم من أنحاء التجدّد الحاصل.

3- تجدّد المنهج: وهو أهم أنواع التجدّد، فقد كان المنهج المتبع سابقاً في علم الكلام؛ هو المنهج الجدلي القائم على القضايا المسلمة والمشهورة لدى الطرفين، ثم حصل تطوّرٌ في زمن نصير الدين الطوسي، وفخر الدين الرازي تمَّ على إثره حصول التزاوج بين الفلسفة والكلام بعد قرونٍ من التخاصم. أما اليوم ففضلاً عن أن الفلسفة نفسها قد خضعت لتحولاتٍ بنيويةٍ - مع الأخذ بعين الاعتبار التحولات العالمية لها - فإن العلوم الأخرى قد تعرضت هي الأخرى أيضاً لانقلاباتٍ منهجيّةٍ، بل صار المنهج نفسه عرضةً للنقد والتحليل أيضاً، وهذا كلّه يستدعي موقفاً عملياً من الكلام المعاصر تجاهه.. فالمسألة هي مسألة العقل الكلامي بالدرجة الأولى، والتحوّلات الموجودة تستدعي تطوير هذا العقل بصورةٍ أساسيّةٍ.

4- التجدّد في الهندسة المعرفية: فالتغييرات التي تعرّضت العلوم لها لم تكن محصورةً في نطاق المسائل والمنهج والمبادئ بل تعدّتها لتشمل مجموع هذه الأمور، أي وصل التحوّل إلى مرحلةٍ أشبه بالكلّية والشاملة فصارت بنية العلم هي المتحوّلة والمعدّلة، وهذا أيضاً واقعٌ يُطالب علم الكلام بتقديم أجوبةٍ عمليّةٍ لنفسه عنه.

ومن هنا ، فإن التجديد في علم الكلام، أو علم الكلام الجديد هو من العمق والسعة بمكانٍ، بحيث لا تفي به مجرّد بناء المؤسّسات بالشكل المتقدّم، وإن كانت لازمةً له.

إنّ التعديلات المنصبَّة على العقل المتحكّم في علمٍ ما هي من أهم التعديلات الجوهريّة في أيّ علمٍ من العلوم؛ لأنّ كافّة التعديلات الأخرى إنّما تمثّل تطويرات جانبية إذا ما قيست برتبة العقل العلمي نفسه، والتعديل المتوجّه إلى العقل العلمي يمكنه بدرجةٍ أكبر أن يمنح المفكّر نمط معالجةٍ مختلفاً، وأسلوباً تحليلياً آخر وخطّاً منهجياً جديداً، وأفقاً أكثر سعةً ورحابةً، والأفق والمنهج والمدى أمورٌ لا تتعلّق بالكمّ المعرفي بقدر ما تتعلّق بالمستوى العلمي نفسه.

 

 

المصدر: المؤتمر الدولي للفلسفة الإسلامية-القاهرة
Dr-mostafafahmy

د/ مصطفى فهمي ...[ 01023455752] [email protected]

  • Currently 45/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
15 تصويتات / 1219 مشاهدة

ساحة النقاش

مصطفى فهمي

Dr-mostafafahmy
فلسفة الموقع مهتمة بتحديد طريقة الحياة المثالية وليست محاولة لفهم الحياة فقط. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

500,359