رؤية في واقع العربية الفصحى
وسبل تعزيزها في مواجهة التعجيم والتغريب
مقدم في المؤتمر الدولي الثاني للغة العربية
دبي 2013
الباحث:
د. زاهر محمد الجوهر حنني<!--
جامعة القدس المفتوحة
فلسطين/ فرع قلقيلية
رؤية في واقع العربية الفصحى وسبل تعزيزها في مواجهة التعجيم والتغريب
ملخص
اشتغلنا كثيرا بتوصيف الواقع اللغوي العربي، ونعتقد أننا ينبغي أن نتوقف عن التوصيف وننتقل إلى مرحلة العلاج العملي التطبيقي، لهذا يأتي هذا البحث (رؤية في واقع العربية الفصحى وسبل تعزيزها في مواجهة التعجيم والتغريب).
يتناول الجزء الأول من هذا البحث رؤية في واقع الأزمة، في جميع مراحل حياة الإنسان (العربي والمتحدث بالعربية) الأمر الذي ينعكس على اللغة وكيفية التعاطي معها، وتأثير التلقي.
أما الجزء الثاني منه فيتناول الحلول العملية المقترحة، لكل مرحلة من مراحل التلقين إلى أن يصبح الفرد منتجا للغته الخاصة المميزة.
ومنذ البداية يأخذ البحث بالحسبان أن كل المسائل التي يعالجها ينبغي أن ينظر إليها بوصفها مهمات جماعية وليست فردية، كما أن البحث يوضح فكرة (الحارس) التي أدعو لها على الدوام. وبعد أن يناقش الحلول ويخضعها لواقعها العملي التجريبي يطرحها توصيات ونتائج للبحث.
Abstract
Many researches have been conducted concerning the description of the current situation of Standard Arabic Language , We assume that its due to stop this description and proceed on to the practical applied treatment phase , and that’s why this research is being conducted: "An Outlook of the Nature and Methods of Enhancing Standard Arabic Language in Facing the Process of Unfamiliarity and Strangeness".
The first part is concerned with the outlook of the nature of the problem in all phases of Arabic language native speakers , the thing which is reflected on language , the way it is dealt with and the effect of perception.
The second part has the suggested practical solution for each phase of dictating until each individual becomes able to produce his own distinguished language.
The research takes into account that the process of the treatment of all problems are looked upon as collective missions and not individual ones. After the discussion of those solutions in the light of their practical experimental nature , they are adopted as recommendations and results of the research.
مقدمة
عقدت في السنوات الأخيرة، عشرات المؤتمرات العلمية المتخصصة، التي تعالج إشكالية اللغة العربية الفصحى، وما تواجهه من تعجيم وتغريب، وما زالت الإشكالية موجودة وبقوة وتزداد ضراوة؛ الأمر الذي يتطلب بذل المزيد من الجهود المشتركة. وقد انبرى المجلس الدولي للغة العربية بوصفه واحدا من المنابر المهمة المنافحة عن اللغة العربية ليجمع الجهود ويوظفها جميعا في خدمة المشروع المتطلع إلى إعادة الهيبة للغة ولأبنائها، إلى جانب المؤسسات الأخرى.
لقد اشتغلنا كثيرا بتوصيف الواقع اللغوي العربي، ونعتقد أننا ينبغي أن نتوقف عن التوصيف وننتقل إلى مرحلة العلاج العملي التطبيقي.
هذا البحث ليس جديدا في شكله الخارجي فهو يطرح الإشكالية ذاتها ولكن بطريقة خاصة؛ فيتناول في الجزء الأول: رؤية في واقع الأزمة، في جميع مراحل حياة الإنسان (العربي والمتحدث بالعربية) الأمر الذي ينعكس على اللغة وكيفية التعاطي معها، وتأثير التلقي. وفي الجزء الثاني منه يتناول الحلول العملية المقترحة، لكل مرحلة من مراحل التلقين إلى أن يصبح الفرد منتجا للغته الخاصة، التي قد تكون مميزة لدرجة يكون معها مميزا للغة ذاتها.
وهذه الحلول موزعة على المراحل العمرية للفرد، على وفق ما هو من حيث التلقي أو الإنتاج، اعتمادا على ما يراه خبراء اللغة وعلماؤها؛ فاللغة لا يتمثلها الإنسان دفعة واحدة.
ومنذ البداية يحسب أن كل المسائل التي يعالجها ينبغي أن ينظر إليها بوصفها مهمات جماعية وليست فردية. كما أن البحث يوضح فكرة (الحارس) التي أدعو لها على الدوام وبعد أن يناقش الحلول ويخضعها لواقعها العملي التجريبي يطرحها توصيات ونتائج للبحث.
آملا أن يوفقنا الله –تعالى- جميعا لما يحب ويرضى، في خدمة لغة كتابه الكريم، لغة الأمة العربية المجيدة وعماد نهضتها وحضارتها.
********************************
أولا: رؤية في واقع الأزمة
إننا على يقين ثابت أن اللغة العربية في ماهيتها لا تعاني من أي ضعف أو خلل أو فساد، وذلك ما أثبته على الوجه القاطع تاريخ هذه اللغة، ولعل استعراض تاريخها وفعاليتها في العلم والأدب وسائر وجوه المعرفة الإنسانية منذ عصور نشأتها الأولى وحتى يومنا هذا، يبين أنها استطاعت استيعاب معطيات الحضارات الإنسانية كافة؛ الأمر الذي يؤكد ما نذهب إليه عندما نقول: إن اللغة العربية مبرأة من كل عيب.
ولكن تظل تساؤلات ملحة ترمي بظلالها على واقع اللغة وأهلها، أبرزها: ما أسباب ضعف العربية في أيامنا هذه، وخصوصا أمام الثقافات الوافدة والتكنولوجيا الحديثة؟ وما هي مظاهر هذا الضعف؟ وكيف يمكن معالجته؟
وكي تكون هذه التساؤلات أكثر دقة ووضوحا؛ لا بد من الجزم مرة أخرى للتأكيد أن اللغة العربية في زمان ازدهارها وشيوعها وانتشار علومها، كانت مرتبطة بأمة قوية حملتها إلى تلك القمة، أمة كان العلم ديدنها، فكانت تنتج معطيات الحضارة وتصدّرها إلى الأمم الأخرى، وتصدّر معها لغتها، حتى صارت العربية اللغة العالمية الأولى آنذاك أو كادت تكون.
أما الآن فإن هذه الأمة ضعيفة، استهلاكية، والعلم آخر ما تفكر فيه، وهو في أدنى درجات سلم اهتماماتها، أمة غير منتجة، تستورد حاجاتها واحتياجاتها وتستورد معها لغات المنتجين، لتبدأ لغات المنتجين تحل محل اللغة العربية وتبدأ العربية بالضعف، كما أن الضعف استشرى في جميع جوانب الحياة العربية؛ فالضعف العسكري تلاه ضعف سياسي فضعف اقتصادي فثقافي فــــ...الخ ويمكننا إعادة ترتيبها كيف نشاء، ولكنها في المحصلة تعاني ضعفا عاما انعكس بكل تجلياته على الثقافة التي تعد اللغة ملمحها الأبرز وأداتها وحاملتها. وهنا أيضا نخلص إلى التأكيد أن اللغة مبرأة من العيوب في ماهيتها، وأن الضعف ليس في اللغة وإنما في أهلها، فإذا كان العرب أقوياء كانت اللغة العربية قوية، وإذا كانوا ضعفاء تتأثر بذلك الضعف. ونحن في هذا نتفق مع القول:" أن هذا ليس ذنب اللغة وقدرتها على استيعاب العلوم والفنون وإبداع المصطلحات، وإنما ذنب الأمة المتخاذلة المتخلفة، العاجزة عن الامتداد والنمو العلمي، الأمر الذي انتهى بها إلى العيش على موائد (الآخر)، الذي لابد أن تأكل طعامه وتستهلك أشياءه وتتكلم بلسانه، وتفكر بعقله، وتعفي نفسها من الـمسـؤولـية، وبـذلك تسهم بإخراج لغتها من الحياة، لأن اللغة كائن ينمو مع الأمة، ويتوقف ويتضاءل حال موتها أو سباتها"(نور الدين بليبل،2012،الارتقاء بالعربية في وسائل الإعلام،15) وما دمنا حددنا المشكلة على حقيقتها يمكننا الخوض في ماهيتها.
لا يختلف اثنان في أهمية اللغة لأية أمة ولأي مجتمع، فهي"من أهم أدوات التشكيل الثقافي، بل من أهم عوامل تشكيل الأمم، إن لم نقل أهمها، ذلك أنها وعاء الفكر وأداة التعبير والتواصل والتفاهم بين الناس، توثق صلاتهم، وتقوي روابطهم، وتبني ثقافتهم، وتشد وحدة اللحمة بينهم، وهي مستودع ذخائر الأمة ومخزونها الثقافي وتراثها، الذي يجسر بين حاضرها وماضيها، ويصل حاضرها بمستقبلها، ويحدد قسمات شخصيتها وملامح هويتها.. إنها الوطن الثقافي الذي يصنع الوجدان، ويحرك التفكير، ويترجم الأحاسيس، ويغير السلوك، ويسهل تبادل المعارف وتلقي العلوم.. وهي المسبار الحقيقي لإدراك أغــوار الشخــصية وميـولها واتـجاهاتها، وتـحديد أهدافـها"( بليبل: السابق،5.) والكاتب يخلص إلى مفهوم حقيق بالتقدير وهو أن الفصحى لغة العلم والحضارة، وأن العامية لغة الجهل وهي محاكاة صوتية.
<!--المشكلة جماعية وحلها ينبغي أن يكون جماعيا:
قبل أية حلول يمكن اقتراحها يجب أن نقول: ينبغي أن يشعر أهل اللغة بأنهم مسؤولون جميعا عن هذا الضعف العام فيها، فليس منا من ليس له يد في هذه المشكلة، كلنا دون استثناء مسؤولون عن معالجة المشكلة؛ بأن نشعر أولا بها وبخطرها على حاضرنا ومستقبلنا.
يرى جبران خليل جبران أن "خير الوسائل، بل الوسيلة الوحيدة لإحياء اللغة هي في قلب الشاعر وعلى شفتيه وبين أصابعه، فالشاعر هو الوسيط بين قوة الابتكار والبشر، وهو السلك الذي ينقل ما يحدثه عالم النفس إلى عالم البحث، وما يقرره عالم الفكر إلى عالم الحفظ والتدوين."(جبران خليل جبران، مستقبل اللغة العربية) وبقدر رومانسية هذا القول، إلا أنه يعني بالشاعر كل مخترع وكل مكتشف وكل مختلق وكل محب للحياة المجردة وكل من يقف متهيئا أمام الأيام والليالي. وهو بهذا يستصغر المقلدين ويسلم زمام الحلول للمبدعين المبتكرين، وعليه يصبح الشاعر في عرفه أبا اللغة وأمها. وينأى – ونحن معه- عن أن تكون العامية هي الحل أو الكتابة باللاتينية أو غير ذلك (ينظر: وليد الكبيسي: العربية كلغة عالمية ثالثة- والكاتب صحفي عربي، يعيش في النرويج، ويكتب بلغتها، ويعتقد أن اللغة النرويجية يمكن أن تكون نموذجا يحتذى في تعاملها مع العامية، وهو يدعو إلى إحلال العامية مكان الفصحى ويرى في ذلك حلا لمشكلات العربية المعاصرة.) بل إن البعض يجزم "أن من سينقذ اللغة العربية من (تهافتها) وتهاويها المهين في الزمن المنظور، القرآن الكريم والشاعر والكاتب والمثقف الحقيقي فقط لا غير، ومن سيبقي رمقا في روحها للحظة خروج العنقاء من الرماد"(بريهان قمق: اللغة العربية عبر الانترنت).
<!-- توزيع المسؤوليات:
يتحمل المتخصصون في اللغة وعلومها مسؤولية مضاعفة عن حلول مشكلاتها وإيجاد العلاج لكل حالة منفردة، وتعميم التجارب لضمان عدم تكرارها، وهذا لا يعني أن المسؤولية ملقاة عليهم وحدهم، بل إن مؤسسات رسمية وغير رسمية مسؤولة مسؤولية مباشرة، مثلما أن جميع أفراد المجتمع مسؤولون أيضا، ولكن المسؤولية تتفاوت بحسب حجم تأثير كل جهة أو فرد أو مؤسسة. ومن الذين لهم علاقة مباشرة وتأثيرهم أكثر من غيرهم:
<!--مجامع اللغة العربية والجامعات:
لا شك أن مجامع اللغة العربية نفسها تعاني من إشكالات كثيرة بعضها ناتج عن تعددها، وبعضها الآخر ناتج عن عدم التنسيق فيما بينها، وكثير منها يعود لأسباب تتعلق بعدم وجود مقومات مادية لدعمها واستمرارها في تقديم خدماتها وتأدية رسالتها المنوطة بها، فنحن نعاني من: اختفاء جهود المعاجم في بطون الكتب، وضعف علاقة المجامع بوسائل النشر، وعدم إلزامية قرارات المجامع، وقلة الموارد المالية، وصعوبة استعمال منتجات المجامع(إبراهيم الحاج يوسف(2002): دور مجامع اللغة العربية في التعريب،359وما بعدها). أما الجامعات فتتميز في وقتنا هذا بأنها تحتوي شريحة كبيرة ممن هم الآن طلاب فيها أو تخرجوا فيها أو أساتذتها وموظفوها، والجامعيون مؤثرون تأثيرا كبيرا في المجتمع وهذا يعني أن الجامعات مؤثرة في المجتمع، من هنا يتأتى دورها. فمجامع اللغة العربية والجامعات ينبغي أن تخرّج حراسا للغة وحماة لها. وينبغي أن لا نحمّل أية جهة أو مؤسسة - مهما كانت - وحدها مسؤولية ما آلت إليه حال اللغة.
الحارس:
فكرة الحارس عرضْتُها في كثير من المحافل والأماكن والتجمعات والمؤسسات، وما زالت الاستجابة لها دون الحد المطلوب.
والحارس: هو شخص متخصص في اللغة العربية وممارس لها، يتم تعيينه في جميع المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، ومهمته الرئيسة تدقيق النصوص اللغوية لجميع المكاتبات والمراسلات وكل ما يصدر عن المؤسسة وموظفيها، وبهذا يضمن الجميع عدم شيوع الأخطاء وعدم ذهاب اللغة في طريق التعجيم أو التغريب. ويمكن أن تحدد المؤسسات المتخصصة كالجامعات والمجامع صفات الحارس ومهماته الرئيسة، في كل مكان بما يتناسب مع ظروف المكان وإمكاناته؛ فالمؤسسات التي حجمها صغير أو ما يصدر عنها قليل يمكن أن تستعين بحارس بدوام جزئي، وهكذا يمكن أن يكون الحارس موزعا على عدد من المؤسسات. ولكن المهم أن يكون تعيين الحارس شرطا من شروط ترخيص أية مؤسسة. وقد طبقت جامعة القدس المفتوحة في فلسطين هذه الفكرة وقامت بتعيين حارس، والفكرة موجودة في عدد من المؤسسات، لكنها ليست إلزامية.
<!--الإعلام والمؤسسات والأفراد:
لا ينكر أحد ما للإعلام بوسائله المعاصرة المتعددة والممتدة في كل زاوية وبيت ومكان، ولهذا تندرج ضمن المؤثرات الأساسية في اللغة، وفي ظل شيوع أخطاء كثيرة تجاوزت الحدود المعقولة، بات من الضروري أن نتوقف عندها ونوقف أولئك المتجاوزين عند حدهم، وذلك بالضرورة وبالسرعة الممكنتين، لأن لغة الصحافة والإعلام عدت طورها، و" يعد الإعلام الوسيلة السهلة في التأثير على المتلقي، وباللغة التي تتناسب مع قوة ذلك التأثير على عقله، وكيفية اختراقه، ولا سيما أن تعدد الوسائل الإعلامية أتاح للقائمين على الإعلام حرية الحركة وتحقيق الأهداف"(شامل رضوان(2001): الإعلام وسيكولوجية الخطاب السياسي) مع تعدد تلك الأهداف ومعرفة بعضها وجهها الآخر.
ويندرج في الإطار نفسه المؤسسات الأخرى، فأئمة المساجد والوعاظ والدعاة مثلا يمثلون حالة مهمة جدا في شيوع الفصحى المشتركة، وكثيرون منهم ما زالوا عقبة كأداء في طريق اللغة لسببين: الأول استخدامهم المتوعر والصعب من ألفاظ اللغة ومفرداتها وافتراضهم أن ذلك هو ما يعبر عن ارتقاء مستوياتهم، وأن ذلك يعني أنهم بلغوا منتهى العلم. والسبب الثاني ضعف كثيرين منهم في اللغة وخصوصا عندما يرتجل فإنه يقع في أغلاط لغوية كثيرة، الأمر الذي يسيء إلى اللغة واستخدامها ومستخدميها.
<!--تعميم العربية الفصحى المشتركة:
يمكن استعمال الصعب والوعر والمتكلف من اللغة، كما يمكن استعمال السهل والبسيط الذي يفهمه جميع العرب من المحيط إلى الخليج وفي جميع أماكن تواجدهم، وإذا كان بعض الناس يميلون إلى استعمال اللغة بصفاتها المذكورة أولا لأسباب تتعلق بشخوصهم، فإن هناك من يميلون إلى استعمال اللغة المشتركة البسيطة، وهنا يكون من واجبنا أن نشجع الأخيرة في ميادين الحياة العامة؛ حتى لا تكون الوعورة والتقعر صفة اللغة الفصحى، وحتى نحبب الفصحى إلى الأجيال القادمة، فتنشأ معهم منذ الطفولة وتنمو بنموهم، ويأتي هذا كله في باب التوسط بين الفصحى والعامية، ولا يعني بأي حال إهمال التراث ولا التعصب له ورفض تطوره، ونحن مع دعوة شوقي ضيف إذ يقول:" أنا أدعو إلى التمسك بالتراث، بحيث نبعثه ونحييه وننشره في خير صورة علمية محققة، وفي الوقت نفسه نحاول عرضه عرضا عصريا، لكي ينتفع به أبناؤنا على خير وجه، وليس ذلك فحسب، بل نستغله ونستلهمه في تطورنا، بحيث يكون حافزا لنا أي حافز على التطور بأدبنا وبحياتنا العقلية والفكرية."(شوقي ضيف (ب.ت): في التراث والشعر واللغة،80)
<!--تعزيز اللغة والتمسك بالتراث والهوية:
التراث الأدبي والعلمي فيه الغث وفيه السمين، ولكنه في جميع الأحوال تراثنا الذي ينبغي أن نقر بوجوده وأن نحافظ عليه كي نستمد منه قوتنا وأصالتنا ونتجنب ضعفنا بمعرفة الغث من تراثنا. كذلك فإن الرابط بين اللغة والهوية معنوي لا يجوز رسمه وتحديده. بل إن اللُّغة والهُويَّة "وجهان لشيء واحد، بعبارة أخرى: إنَّ الإنسان في جوهره ليس سوى لُغة وهُويَّة، اللُّغة فِكرُه ولسانه، وفي الوقت نفسه انتماؤه، وهذه الأشياء هي وجهه وحقيقته وهُويته، وشأن الجماعة، أو الأمَّة هو شأن الفرْد، لا فرق بينهما"(فيصل الحفيان: العلاقة بين اللغة والهوية) ولعلنا لا نغالي إذا صرخنا بأعلى الصوت مرارا وتكرارا حتى يسمع صوتنا، يا أمتنا الحبيبة: "لا ثقافة بدون هوية حضارية ولا هوية بدون نتاج فكري نقدي، ولا فكر بدون مؤسسات علمية متينة ولا علم بدون حرية معرفية ولا معرفة ولا تواصل ولا تأثير بدون لغة قومية ضاربة بجذرها في التاريخ تقف بشموخ أمام العصر بكل إرهاصاته."(قمق: سابق)
ينبغي أن لا يفهم أن تعزيز اللغة يعني أنها ضعيفة وتحتاج إلى إصلاح أو أنها مريضة وتحتاج إلى علاج، لا؛ إن تعزيز اللغة يعني أن أهل اللغة يحتاجون إلى معرفة لغتهم وطرق استعمالها استعمالا بسيطا مفهوما واضحا، وبحسب السياق الذي نحتاج إلى استعمالها فيه. ف"يتكون معجم اللغة عادة من مجموع الألفاظ فيها وما تشير إليه من دلالات أخذت حدودها في الواقع الاجتماعي العرفي لهذه الألفاظ وصيغها واشتقاقها وتصريفها. وتتكون اللغة عادة من المعاني التي نصل إليها من اتحاد هذه الألفاظ في استعمالات حقيقية أو مجازية"(خليل أحمد عمايرة(1987): في التحليل اللغوي) وهنا في هذه المساحة تتبين لنا أهمية اللغة بوصفها منشأ للفكر، "لهذا نرى أهل البحث يعودون، اليوم، إلى التساؤل عن منشأ اللغة...وعن العلاقة، السلبية أو الإيجابية، الكائنة بين العبارة والوجدان المعبر. منشأ اللغة هو ذاته منشأ الفكر"(كمال يوسف الحاج: فلسفة اللغة)
والعربية لها صفات في كل ميدان من ميادين استعمالها، ففي الجانب العلمي لها ما يناسبه، وفي الجانب الأدبي لها صفات يمكن أن تتفوق فيه، وهكذا في سائر الميادين.
إلا أن ما يحدث في هذه الأيام فيه كثير من الخلط، والمعاناة الكبرى في استعمال أسماء المخترعات الجديدة الأجنبية، الأمر الذي يقود إلى تغريب اللغة، مع أنها قادرة على إيجاد أسماء لكل مخترع جديد بوسائل التوسع العربية المعروفة، " الفرق بين التعريب والتغريب ليست نقطة فوق العين، إنما هي نقطة حارقة كاوية فوق العقل طال أمدها في حياتنا العربية أكثر مما ينبغي…! لقد ارتبطت حضارات الأمم دوما بلغاتها ارتباطا عضويا في التحام لا تقوم معه فاصلة بين ما يمكن أن يعتبر سببا أو مسببا حتى ليصعب إيجاد جواب حاسم هل تنشأ الحضارة من اللغة أم تنشا اللغة من الحضارة؟؟"(قمق: سابق)
إلى جانب هذا وموازيا له وجدت ثنائية الفصحى والعامية، واستعمال كل منهما لما وجد له ليس فيه تجن على الآخر، والتجني هو الدعوة لإحلال إحداهما محل الأخرى، "فالثنائية التي نلاحظها في حياتنا الاجتماعية بين الفصحى والعامية هي ذلك الفارق في النحو الذي يجعل العامية عامية والفصحى فصحى، وهي مسألة طبيعية، لكن لها حدود يجب أن لا تتعداها. فالعامية لها دور ووظيفة تؤديها إلى جانب الفصحى، ولا ضير من بقائها ملتزمة بوظيفتها، والفصحى لها دور ضروري في الحياة الاجتماعية الراقية يجب أن تؤديه ولا تؤديه إلا إذا بقيت فصحى، ولا تبقى فصحى بدون نحو وقواعد. والتيسير يكون من الفصحى لخدمة الفصحى، وليس القضاء عليها وجعلها عامية أو استبدال العامية بها، فهذا هو الخطأ والخطر الذي يهدد الفصحى في وقتنا الحاضر"(أحمد بن نعمان: واقع اللغة العربية في أجهزة الإعلام)
أما التعجيم فقد كان العرب يعانون من التعجيم عن طريق غير العرب الذين يدخلون العربية ويتعلمونها ويلحنون فيها، وكان ذلك الأمر طبيعيا. إلا أننا الآن نعاني من أبناء العربية الذين يعيشون في دول العجم فيعودون يلحنون في لغتهم الأم، ولعل في معرفة هذا الأمر ومتابعته من لدن الأهل ما يعين على حل هذه الإشكالية، وهي مشكلة تحتاج إلى مزيد من البحث، ونكتفي بالإشارة إليها لأن هذا المقام لا يتسع لها.
***************************
ثانيا: وسائل تعزيز العربية
إن كل جهد يبذل من أجل تعزيز اللغة العربية الفصحى في مواجهة التعجيم والتغريب، هو جهد يصب في الهدف الأكبر، مهما كان حجمه أو حجم تأثيره، لهذا فإننا ينبغي بداية أن لا نهمل او نستخف بأي جهد أو أية فكرة، ولسوف أختصر، لأن الحديث عن جميع الوسائل غير ممكن في هذا المقام، ومن أهم الوسائل العملية لتعزيز العربية:
<!--ربط الشعور بأهمية اللغة عند مستخدميها بالانتماء والعقيدة والعزة والفضائل المعنوية:
والبدء بالناشئة، وعلى مراحل، وأهم المراحل تبدأ من البيت، وما دمنا نعلم أن البيت قد لا تتوافر فيه مقومات المعرفة التربوية واللغوية والتعليمية، فإن المهمة تصبح في الدرجة الثانية في المدرسة منذ الصفوف الدنيا صعودا، وهذا لا يعني أن يصبح الطفل الناشئ عالم لغة، في الجانب العملي وإنما نُرِغّبُه في اللغة تدريجيا، بحيث تصبح الفصحى هدفا يرنو لتحقيقه ليحقق السمو لنفسه وروحه، وبذلك نكسب إنسانا أصيلا يعتز بماضيه ويفهم حاضره ويعد لمستقبله ويعبر عن ذلك كله بلغته التي يعتز بها ويستشعر سمو النفس فيها وبها. وينبغي أن نعرف أن هذا لا يتحقق بضربة سحرية بين ليلة وضحاها، بل ويمكن أن يتطلب ذلك جهودا كبيرة تجاه بعض الناس وقليلة تجاه آخرين، والمهم في هذا كله أن يكون جماعيا، وأن يتم بإشراف المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، كي لا تكون نتيجته عكسية؛ فالمراهقون يرغبون بالمعارضة والمخالفة في العادة، وقد يعملون على هدم ما نبنيه دون علم بما يفعلون، ومراهقو اليوم هم شباب الغد، كما أن أطفال اليوم هم مراهقو الغد، وربما تكون المشكلة الحقيقية عند أولئك الذين يعيشون الآن مرحلة المراهقة، ولذا يجب أن ننتقل للمرحلة الثانية.
<!--معالجة ترسبات المراحل السابقة:
إن ما علق في نفوس كثيرين من مراهقي اليوم والأمس لا يليق بجيل نتطلع لأن يقود الأمة إلى بر الأمان، بل إن آثار حضارات الأمم الأخرى التي لا تتناسب مع تقاليد أمتنا قد غزت نفوسهم فتمثلوها حتى صارت جزءا من شخصيتهم التي نعترض عليها بقوة؛ ولكن اعتراضنا لا يؤتي أكله؛ لأنهم اعتقدوا أننا تقليديون وينبغي إيجاد ما يخرجهم من الملل الذي ترسب في أذهانهم، وهنا ينبغي أن ندخل إلى عقولهم، ونعرف متطلباتهم وما يريدون، ونزرع فيهم حب اللغة والاعتزاز بها خلال مرحلة العلاج، إن جازت التسمية، فما بالكم فيمن يجعل الإبداع اللغوي هدفا عند الشباب الصغار بديلا من قصات الشعر والاهتمام بأنواع الملابس وطولها وقصرها وما شابه ذلك!
<!--محاربة الهدامين وأعداء اللغة العربية وأفكارهم:
لا شك أن معظم الناس وفي مقدمتهم اللغويون والمتخصصون والأدباء يدركون جيدا من هم أعداء اللغة العربية، لذا لا بد من محاربتهم بطرق منهجية وتجنب العفوية، بوضع طرق خاصة مدروسة تكون مهمتها أن تبين أمرين بشكل واضح للجميع وهما:
أ- فضائل العربية الفصحى وسماتها وكيفية استعمالها وتحبيبها للعامة، وذلك بتجنب التقعر والتعقيد والخوض في الخلافات النحوية في كل مكان وزمان، وبيان سهولتها وبساطتها وإمكانية استعمالها دون تحجر.
ب- فضح وسائل أعداء اللغة وبيان أهدافهم ودحضها، وفي مقدمة هؤلاء جميعا الذين يدعون لاستبدال الفصحى بالعامية، أو استبدال الحروف العربية بالحروف اللاتينية، وحديثا هذه اللغة الجديدة التي تمزج بين العربية والانجليزية والتي يسميها بعضهم (العربيزي).
4- التمهيد والإعداد للمراحل القادمة:
وذلك بعد معرفة ما تتطلبه المراحل القادمة، وقد أنجزت دراسات وأبحاث وآراء كثيرة، تناولت هذا الجانب، ولا ينقصها إلا أن تجمع وتدخل مرحلة التطبيق العملي، وبقدر ما للدراسات والأبحاث من أهمية إلا أن مرحلة التطبيق هي الأهم؛ لأنها هي الهدف، وكي نبدأ بذلك لا بد من أن نحدد ماذا نريد في المرحلة القادمة وما نريده في المراحل التي تليها، ففي المرحلة القادمة نريد أن ننهي حالة التشرذم والتشتت والضياع التي فرضها علينا غيرنا من الأعداء وغيرهم، وذلك لا يكون إلا باستدعاء المشترك اللغوي البسيط والسهل والذي يفهمه ويتذوقه جميع العرب ومن يستعملون العربية في أي مكان، وليس اللغويون وحدهم من يعرفون المشترك اللغوي الذي أعني، بل قد يكون العامة أعرف بها من غيرهم لأنهم هم الذين يسيّرون بها حياتهم الوظيفية في أبسط صورها، ثم يتواصلون وظيفيا ومعنويا وإبداعيا، لذا لا بد من أن يشترك أكبر عدد ممكن من الناس في تحديد المشترك اللغوي؛ وذلك لا يكون بتجميعهم في ساحة وسؤالهم، وإنما يكون برصد الألفاظ التي يستعملونها أكثر من غيرها مما يرادفها أو يكاد وهنا تكون وظيفة المتخصصين واللغويين المهمة.
5- المتابعة المتواصلة:
ولا يكون ذلك بوضع حارس أو شرطي على كل مواطن لمراقبته ماذا يستمل من اللغة، وإنما يمكن المتابعة من خلال:
أ- البيت: وهو كما اتفقنا أهم لبنة في بناء شخصية الإنسان، وهو كذلك في بناء لغته.
ب- المدارس والجامعات: والبناء يحتاج إلى متابعة وتصحيح وتعديل ولا يكون ذلك متوافقا مع أسسه الصحيحة إلا في المدارس والجامعات.
ج- المؤسسات والتجمعات: ويمكن أن يكون ( للحارس ) دور مهم في متابعة المؤسسات والتجمعات وما يصدر عنها حتى تتحقق الغاية المنشودة.
د- المطبوعات والمنشورات: وربما تكون أكثر أهمية من كثير من غيرها من الأمور، لأن كثيرين من الناس يعتقدون أن المطبوع المنشور خال من الأخطاء، ويقعون في الخطأ نتيجة ذلك الاعتقاد الذي قد لا يكون صحيحا.
6- المراجعة الدائمة:
وهنا ينبغي أن أشير إلى توصيات المؤتمر الدولي الأول للغة العربية وما صار يعرف بوثيقة بيروت، وضرورة متابعة تنفيذ ما جاء فيها من بنود ملحة في التطبيق العملي، بعد القناعة التي تولدت لدى الجميع بأن العربية حقا في خطر وأن الجميع شركاء في حمايتها وإنقاذها.
وهذا يتطلب عدم إهمال مخرجات المؤتمرات العلمية مهما كان حجمها وتأثيرها، وكذلك توصياتها، وذلك بتخصيص ميزانيات خاصة لتحقيق ما يتطلبه رفع مستوى اللغة وحلول مشكلاتها، فالحكومات العربية تنفق أموالا طائلة على أمور كثيرة ليست مهمة إذا ما قورنت بأهمية اللغة العربية في حياة الأمة.
نتائج وتوصيات: يمكن إجمال توصيات هذا البحث واختصارها على النحو الآتي:
أ- الانتقال من مرحلة العمل النظري إلى مرحلة التطبيق العملي في كل ما يتعلق بالارتقاء بواقع اللغة العربية ومن أجل مستقبلها.
ب- مراجعة مخرجات المؤتمرات العلمية المتخصصة باللغة العربية وتحديد مستلزمات تطبيقها، والبدء بتطبيق ما يمكن تطبيقه فورا.
ج- الاستفادة من طواعية اللغة العربية، وقدرتها على التواصل مع معطيات الحضارة الحديثة والتعبير عنها بطرق التوسع اللغوي المعروفة.
د- الاهتمام بفكرة ( الحارس ) وتعيين متخصص في اللغة العربية في كل مؤسسة ودائرة، لمتابعة كل ما يصدر عنها من مطبوعات ومكاتبات ومراسلات.
ه- نقل اللغة العربية إلى مرحلة البساطة والسهولة والتركيز على المشترك اللغوي في الاستعمال اليومي والإبداعي والوظيفي.
و- إتاحة الإمكانات المادية من الحكومات للجامعات ومجامع اللغة والحارس، لمتابعة كل ما من شأنه أن يعلي مكانة اللغة العربية في نفوس أبنائها والأمم الأخرى.
ز- وضع الحدود الفاصلة بين العامية ومهماتها من جهة والفصحى ومهماتها من جهة ثانية وتعزيز الفصحى في مواجهة شيوع العامية على حساب الفصحى.
ح- محاربة الآفات اللغوية التي شاعت بتأثير الجاهلين، كاليافطات بلغة غير العربية أو بلغتين، ووضع حد للأخطاء الشائعة ومتابعة تصحيحها، ومتابعة أولئك الذين يستخدمون لغة تمزج بين لغتين في وسائل الاتصال الحديثة.
ط- تعريب التعليم الجامعي وإحياء حركة التعريب وتوجيهها، والعمل بموجب إرادة سياسية فاعلة، تتمكن من تنفيذ الخطط الحكومية والقرارات السياسية، وتعزيز تلك التوجهات بدعم شعبي.
ي- جعل اللغة العربية لغة العلم الحديث بالانخراط الفاعل في منجزات الحضارة الحديثة في التدريس والتأليف والبحث وتوليد المصطلحات، والانتقال إلى مرحلة الإبداع والاختراع بدلا من التلقي والاستهلاك.
ك- عدم إهمال أي بحث أو مشروع لغوي مهما قل شأنه؛ لأن العلم هو حصيلة المعارف كلها.
انتهى
وفقنا الله جميعا لما يحب ويرضى
-----------------------------------------------------------------------------
قائمة المصادر والمراجع
* إبراهيم الحاج يوسف) 2002) دور مجامع اللغة العربية في التعريب، منشورات كلية الدعوة الإسلامية، طرابلس، ط/1.
* أحمد بن نعمان: واقع اللغة العربية في أجهزة الإعلام (عرض تقويمي)، موقع جامعة أم القرى، على الرابط:
http://uqu.edu.sa/page/ar/148320
* بريهان قمق: اللغة العربية عبر الانترنت، دور اللغة الحضاري وعلاقته بالشبكة وقصورنا وواجباتنا تجاه العربية، موقع الكاتبة الشخصي، وعلى الموقع مداد القلم، على الرابط:
http:\Midadulqalamphp.mht
* جبران خليل جبران: مستقبل اللغة العربية، ملف (pdf)على الرابط :
http://cle.ens-lyon.fr/servlet/com.univ.collaboratif.utils.LectureFichiergw?ID
* خليل أحمد عمايرة (1987) في التحليل اللغوي – منهج وصفي تحليلي وتطبيقه على التوكيد اللغوي والنفي اللغوي وأسلوب الاستفهام- ط/1، مكتبة المنار ، الزرقاء الأردن.
* شامل رضوان (2001) الإعلام وسيكولوجية الخطاب السياسي، مجلة النبأ، ع/59،على الرابط:
http://annabaa.org/nba59/eilam.htm
* شوقي ضيف (ب.ت) في التراث والشعر واللغة، دار المعارف، مصر.
* فيصل الحفيان: العلاقة بين اللغة والهوية، على موقع الألوكة، على الرابط:
http://www.alukah.net/Literature_Language/0/7343/#ixzz2JkK4FBst
* كمال يوسف الحاج (ب.ت) فلسفة اللغة، دار النشر للجامعيين.
* نور الدين بليبل (2012) الارتقاء بالعربية في وسائل الإعلام، مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف القطرية.
* وليد الكبيسي: العربية كلغة عالمية ثالثة: الحفاظ على العربية إصلاح لها بجعل اللسان الحي مرجعا له ثقل المعاجم، على الموقع شفاف، على الرابط http://www.metransparent.net/spip.php?page=contactus&lang=ar
<!--[if !supportFootnotes]-->
<!--[endif]-->
<!-- - أستاذ النقد والأدب الفلسطيني الحديث المشارك/ جامعة القدس المفتوحة/ فلسطين/ قلقيلية.