الأستاذ الدكتور السيد محمد الدقن جوانب من شخصية المثال
أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة الأزهر
الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على أشرف المرسلين. سيدنا محمد النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين بعد.
ففي الأيام الفائتة، ودّع قسم التاريخ والحضارة بالقاهرة أساتذة أعلاماً، وعلماء لهم قدم راسخة في إثراء الحياة العلمية والفكرية في مصر. وهم: الأستاذ الدكتور السيد الدقن، والأستاذ الدكتور محمد علي حلة، والأستاذ الدكتور محمد الشحري. كانوا فروعًا باسقة من شجرة الأزهر المثمرة - رحمهم الله برحمته الواسعة – وقد ارتحلوا لدار البقاء في غفلة من إرادتنا، حيث أبعدهم القدر عنا في هذا العام.
والحق أشهد، أن جميعهم كرام بررة، وأساتذة أجلاء، تعلمنا منهم فيوضات المعرفة. وكان منهم سيدي ووالدي الكريم الأستاذ الدكتور السيد الدقن. سأقول له: اعذرني أيها الحبيب الوفي؛ فليست هذه الكلمات تعريفاً بشخصيتك وما تتميز به من خصوصيات، فذلك له مقام أخر، وحديث أخر؛ ما هي إلا كلمة وفاء صاغها قلب مفجوع، مصبوغة بحسرات وزفرات وعبرات.
لم أكن أتصور أنه سيأتي اليوم الذي أنعي فيه أستاذي الحبيب ووالدي بعد والدي، الذي اجتمعت فيه صفات الأستاذ، وتكاملت فيه سمات الرجال. إنه الأب والمثال، والأستاذ الدكتور السيد الدقن، الذي شرفت بالقرب منه، واستلهمت منه الأمل والحياة. أحسبه من المتقين الذين قال الله فيهم: "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا". فقد صدق الله، فصدقه ربه سبحانه وتعالى.
أساتذتي وزملائي الكرام:
وتتواصل الذاكرة معه في لقاءات متفرقة، ومن أجلّ ما كان بيننا لقاء يوم في رمضان من كل عام يتكلم واتعلم، ويعرف ما غاب عنه من أخباري، يصحح خطأها، ويصوب عوجها، ويبني متهدمها، ويلم شعثها. يوم واحد بعمر طويل:
من جوانب العظمة في شخصيته الإنسانية، أنه كلما حكى لي مآثر أستاذه الأستاذ الدكتور عبدالعزيز الشناوي كنت أرى انهمار الدمع، فكان كثيرا ما يحكي المآثر، وكنت أكبر وفاءه لأستاذه العطّاء. كما أنه ما استنجد به أحد إلا وأنجده بلا مصلحة له ولا غاية؛ فلا يخاف لومة لائم، ولا همهمة متعال، ولا حبيس مصلحة، ولا متلهف دنيا تصاب. وكان كثيرا ما يرد على العاتبين بقول الله سبحانه: "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره". وكان يقول: "قال الله هذا عن المشركين، فما بالكم بأبناء الأزهر"؟! ويعُدّ خدمتهم دينا وشريعة آمن بها؛ فاستولى على القلوب. درس لي في الدراسات العليا، وناقشني في الماجستير، وأشرف على رسالتي للدكتوراه، وظل يتابع بحوثي بجهد منقطع النظير، حتى وصلتُ لدرجة "أستاذ". يقرأ - رحمه الله - ما أكتب، لا يدفعه إلا العطاء والحب والإخلاص وهو الاستاذ الكبير المتواضع، فظل يعلم، وظللت أتعلم حتى حضرته الوفاة. فمن كان يلتقي أستاذي الحبيب يلحظ منه ثقته التي لا تنال من تواضعه، وانضباطه الذي لا يتعدى على بساطته. فكان من أولئك الذين لا تلقى منهم شراً أو ضرراً، بل تجد فيهم حسن النية، وصدق الطوية.
تميز – رحمه الله - بالجدية العلمية، فترك بصمات واضحة في منهجه العلمي لسائر تلاميذه، فكان أجل وأعظم ممن عرفتُ في حياتي. وترك مأثورات تروى، فكانت من مقولاته الرائعة: "اكتب قليلا، وفكر كثيرا، يبرز عملك"؛ فكانت مدرسته المعروفة. وكان يقول دائما: "تعلم المنهج أولا حتى لا يفسد عملك".
إن نموذجاً فريدًا كأستاذي الأستاذ الدكتور السيد محمد الدقن لهو نموذج تفتقر إليه جامعتنا وإنسانيتنا، وتفتقر إليه الطاقات التي تعمل بجد وتنتج بهدوء، تفتقد إلى جنود يعشقون العمل من خلف الستار، فكم نحن بحاجة إلى علماء نشيطين، يتواضعون بما يملكون وما يفعلون. كم نحن بحاجة إلى مثل أستاذي الكريم، الذي زودته خبراته العملية بإسهام خلاق في القيام بالعديد من الأعمال التي ترتبط بالجوانب الإنسانية.
كانت حياته مليئة بالعطاء والمثابرة، والجد والاجتهاد، وكان رائداً في ميدان العمل الثقافي. ولم يقف عطاؤه عند أي مكان إلا وكان له ذلك الأثر الكبير في نفوس الجميع. مؤكداً في الوقت ذاته أن الوقت لا يتسع لذكر مناقب الفقيد جميعها سائلاً الله أن يلهم ذويه الصبر والسلوان .
ومن مناقبه التي تغيب في هذا الزمن: احترام الوقت وانضباط الموعد. وكان يقول: "يا ولدي لن تنجح إلا إذ انضبط موعدك. لا تخلف وعدا ولا موعدا". وقد استجبت له، والتزمت نهجه، ونهلت من سلوكه الطيب هذا. أما الحب فلم أجد من يحنو على الكبير والصغير مثله، وغايته إرضاء الناس. فكفى ووفى رحمه الله، وكان المثال.
وكان من مظاهر جديته أنه كان يتابع أعمال طلابه بدقة مهما كانت ظروفه الصحية وأشغاله، فيكفي أنه عندما أنهيت رسالتي للدكتوراه صادف وقتها أن قد أجرى جراحة إلا أنه - رحمه الله- بمجرد خروجه، وقبل أن يتعافى بشكل نهائي، طلبني وقال: "هيا لنقرأ الرسالة ما ذنبك أني مريض". فكنت أقسم عليه على التأجيل، ويصمم على القراءة. وظل يقرأ رسالتي فصلا بعد فصل، ومبحثا بعد آخر في واحد وأربعين يوما متواصلة، لم يترك فيها قضية دون تعليق أو إشارة - رحمه الله- يقرأ بمفرده في النهار، ونتناقش ببيته في الليل، ولا ينام حتى يطمئن أني وصلت بيتي في الثالثة كل صباح. ومما يذكر له أيضا أن يقبل الخلاف العلمي دائما، ويقول من هنا يبدأ تكوين الشخصية العلمية للتلميذ.
وكان من إنسانيته ونبله اهتمامه بي لأقصى درجة يسأل عن كل كبيرة وصغيرة تخصني حتى عن أطفالي، بل ويحادثهم ويلاطفهم حتى سبقوني إلى شوقه ومحبته. وكنت إذا غبت عنه يوما واحدا أجده يتصل ويبحث ويسأل. ولا أدل على هذه الرقة من غيابي مرة فجأة لبعض الظروف القاهرة أربعة أيام، فإذا بسعادته يبحث عني بنفسه ظانا أن الغياب وراءه ما يزعج، وإذا به يتواصل بأهلي في الريف، وأصدقائي بالقاهرة خشية من صروف الزمن. وما استراحت نفسه حتى اطمئن فوجدته حانيا باسما مشفقا؛ يمتلك هذه الصفات الطيبة النبيلة التي تغيب عن كثير من الناس قد تكاملت لديه.
أما تسامحه، فلقد رأيت بعيني كيف يسمو فوق الخلافات. وكنت شاهدا على أحداث كثيرة بحكم القرب، وهو يرسخ دائما تسامحه وتساميه وعلو نفسه وطيب معدنه بكثرة رجوعه إلى لمّ الشمل، فكان الصفاء من سماته، والنقاء أجلّ ما في سريرته.
هذه المواقف تعلمنا بأن هناك من يقدمون لنا الكثير دون أن ينتظروا منا المقابل، تعلمنا بأن العطاء في الحياة يجب أن يكون لأجل إرضاء الذات لا لإشباعها، وتؤكد لنا أن الحب لا ينبع إلا من القلوب النقية. هذه المواقف يجب أن تأخذنا لكيفية أن نتعلم حب الآخرين، فالأحداث تأتي فجأة، والحياة تتباين بمقادير، قد نخسر فيها عزيزاً دون أن يسمح لنا الزمان أن نودعه، وهذا أمر لا حيلة لنا فيه. لكن حين نفقد عزيزاً أحبنا ولم نوفه حبه، تذكرنا وتناسينا أمره، واصلنا وقطعنا وصله، أكرمنا فنسينا شكره، حين يحدث ذلك، لنكن على علم أن الزمن لن يسمح لنا بعودته، وأن الضمير الحي لا يشفع لنا لذلك السهو أن نمارسه طيلة حياتنا.
هي دعوة للجميع لفتح القلوب، والتعبير عما تبوح به اليوم قبل الغد، والآن قبل البعد، فلا ندري ماذا يخبئ لنا القدر؟ أو ماذا يحيك لأحبة وأعزاء لن نبخل عليهم بكلمة حب صادقة أو تعبير شكر واف.
في الختام، مات أستاذي وترك رسالة تقول: "لن يبقى إلا العمل الطيب، والمعاملة الحسنة، وما بيننا كان أبقى وأجل". سائلا الله سبحانه أن تحتفي به ملائكة السماء ليكتمل أجره عند خالقه إن شاء الله، وأن يجعل مكانه في عليين مع المقربين الشهود من النبيين والصديقين والشهداء، وحسن أولئك رفيقا . ويكفي في سعادته قول القائل:
والخلاصة. إن الراحل الكريم كان عوناً لكل من طرق بابه، ونصيراً لكل من قصده، وكان فارساً في منهجه وإنسانيته حتى آخر يوم من حياته، لم يساوم وما أحب المساومين يوماً.
المصدر: كتاب علماء خالدون- الجزء الخامس- إصدار خاص بالعلماء الذين فقدتهم كلية اللغة العربية بالقاهرة- جامعة الأزهر لعام 2014/2015
ربي اغفر وارحم عبدك السيد محمد الدقن وزوجته - نسألكم الفاتحة والدعاء وجزاكم الله خيرا ولكم بمثل ما دعوتم
نشرت فى 27 مايو 2019
بواسطة DRDEQENSAYED
عدد زيارات الموقع
153,193
ابحث
موقع العبد الفقير إلى الله تعالى المؤرخ أ.د/السيد محمد الدقن رحمه الله
يهدف هذا الموقع إلى نشر أجزاء من علم العبد الفقير إلى الله سبحانه وتعالى المؤرخ المصري الدكتور السيد محمد الدقن غفر الله له ورحمه، أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر، وكذلك نشر كل ما قد يكون في ميزان حسناته وحسنات زوجته رحمهما الله، نسألكم الدعاء والفاتحة للفقيد والفقيدة ولكم بمثل ما دعوتم »
ساحة النقاش