كما سبق ذكره، لم تؤخذ اعتبارات حماية البيئة في السابق مأخذ الجد في التخطيط الإنمائي للمنطقة، ليس فقط للجهل بأبعاد هذا السلوك فقط، بل لأنه لم يكن هناك توقعا لأخطار بيئية منظورة . وهذا الواقع ليس حصرا على منطقتنا ، بل كان هو المنطق السائد في جميع الدول الأخرى بدرجات متفاوتة. لذا كان تطبيق التنمية المستدامة بمعناها الواسع، والذي يجمع بين التنمية الاقتصادية وحماية البيئة، تطبيقا سطحيا ومحدودا.
وكتعديل لهذا الواقع، وإدراكا للتركة البيئية السلبية التي خلقتها تلك السياسات الإنمائية، فقد عمل أصحاب القرار على إنشاء مؤسسات مكلفة بشئون البيئة (قد تكون وزارة أو سلطة أو كلاهما…)، واقتصر دورها على المراقبة في مجال اختصاصها. وبالتالي فإن مثل هذه المؤسسة قد تعارض تنفيذ المشاريع لأسباب بيئية. وهذا في حد ذاته قد يفسره المسئولون في الوزارات المتأثرة على انه تدخل في شئونهم وقد يسبب في رأيهم عائقا للتنمية ويحد من إمكانية خلق فرص العمل. وبالتالي تبقى سلطة اتخاذ القرارات الاقتصادية والمتعلقة بالتخطيط في يد وزارات ومؤسسات غير معنية كثيرا بالبيئة، وهذا يؤدي إلى تهميش المؤسسات البيئية وبالتالي يزيد من المشاكل البيئية ويحد من استدامة النمو الاقتصادي.
لقد اعتمدت بلدان المنطقة أسلوب التنمية الغربي في خططها التنموية مما ترك أثارا متعددة، مثل الاستخدام المكثف للموارد البيئية مع عدم الاكتراث لإمكانية استنفاذها، وظهور أنماط استهلاك شجعتها وسائل الإعلام والدعاية وكان من أهم سماتها عدم الاكتراث للموارد الطبيعية. ويتضح هذا بجلاء في بلدان مثل منطقة الخليج العربي حيث الاهتمام الكبير بالنمو وازدياد الرغبة في الاستهلاك، وكلا العاملين شكلا عاملي ضغط دفعت الحكومات المحلية لزيادة إنتاجها من النفط لتغطية نفقات التنمية من جهة ولسد الاحتياجات الاستهلاكية من جهة أخرى. وقد أدى كل ذلك إلى أثار سلبية متمثلة في استنفاد الموارد وخفض أسعار النفط، مما عاد بالضرر الاقتصادي على تلك المجتمعات. يضاف إلى ذلك الأضرار البيئية التي تركتها تلك السياسات والتي لابد للأجيال القادمة من أن تتعامل معها.
وبالطبع لا يمكن إنكار أن هذه المجتمعات سعت ومن خلال خطط تنموية طموحة اقتصاديا إلى تنمية مجتمعاتها. إلا أن هذه التنمية ينظر إليها على أنها نمو اقتصادي وركزت على معدل النمو وسعت لرفعه إلى أقصى حد ممكن، مع عدم الاهتمام لجوانب التنمية الأخرى من اجتماعية وبيئية. وقد تزامن التنافس على معدلات النمو مع الاهتمام بتفاوت الدخل بين البلاد النامية والبلاد المتقدمة النمو وزاد البحث عن سياسات وموارد لتضييق هذا التفاوت مما دفعها للجري وراء سراب الدخل، متجاهلة الاحتياجات الأساسية المتزايدة في المجالات الأخرى.
وهنا يجدر السؤال، هل إن أولويات التخطيط في منطقتنا محددة بوضوح؟ قد تتوفر جهود ملموسة هنا وهناك على هذا الصعيد ولكن الواقع الغالب هو غياب مثل هذه الأولويات. يضاف إلى ذلك الجهل بسلوك وخصائص النظام البيئي للمنطقة، وعدم فهم الهيكل الاجتماعي – الاقتصادي؛ وكل ذلك يدفع إلى تقليد أساليب للتنمية غريبة وأجنبية عن المنطقة.
إن الخطر الحالي يتمثل في إتباع نفس أساليب التنمية السابقة والتي تعتمد على رفع معدلات النمو إلى أقصى حد بدون اعتبار للبعد البيئي و الاجتماعي. لقد كانت آثار مثل هذه السياسات واضحة بالنسبة للبلدان الصناعية، ولكنها قد تكون اكثر وضوحا في بلادنا بسبب انخفاض مستوى الأداء الاقتصادي والاستغلال المفرط للموارد فيها. إن الخيار الذي لا بد من اتباعه لتحقيق تنمية إقليمية مستدامة هو دمج البعد البيئي في التخطيط الإنمائي. بمعنى آخر، يجب اعتماد التنمية المستدامة كنهج مختلف عن مجرد النمو، وهذا يعني تعزيز قدرة المنطقة على استخدام نموها وجعله جزءا من هيكلها. وبوضوح اكثر يعني الاحتفاظ بجزء مهم من فائض النمو الاقتصادي وإعادة تشغيله فيها، على أن يرافق ذلك دمج البعد البيئي في الخطط الإنمائية.
لقد أثبتت التجارب السابقة للبلاد المحيطة أن هناك قيودا على التخطيط وإمكانياته كأداة للسياسة العامة. ومن المشاكل التي ظهرت وكان لها تأثيرها على الخطط التنموية الموضوعة هو النقص في البيانات الدقيقة، وافتقار القائمين على التخطيط والتنفيذ للخبرة، وقلة التعاون بين الأجهزة المختلفة، وضعف العلاقة بين التخطيط والإمكانيات المتوفرة، بالإضافة إلى الافتقار لأمانة التنفيذ. كذلك ظهرت تجاوزات للخطط التنموية، فمجرد شعور السياسي بالقيود المفروضة عليه من قبل هذه السياسات فانه سرعان ما يتجاوزها. بل اكسبه ذلك مزيدا من السلطة. وفي كثير من الأحيان قد يحبط هؤلاء المنتفعون الخطط الإنمائية لخدمة مصالحهم الخاصة. كذلك فشلت مثل هذه السياسات بالتنبؤ بسلوك القطاع الخاص.
يدل الواقع كذلك على أن المعرفة للبيئة المحلية على مستوى منطقتنا محدودة لنقص المعلومات الدقيقة والتقييم الشامل لها. وان توفرت بعض المعلومات فان السلطات المعنية تعاملها وكأنها معلومات سرية ولا يسمح في كثير من الأحيان بتبادلها مع الجهات المختلفة في المنطقة. وهذا يحرم المنطقة من قدرة التخطيط السليم على المستوى الإقليمي، وخاصة في مجال المياه والطاقة وإدارة الأراضي.
ويؤدي الوضع الحالي في منطقتنا والمتمثل في عدم وجود تكامل اقتصادي بين دول المنطقة إلى الحد من قدرة المنطقة على التفاوض على أولويات الاستثمار. ويؤثر هذا الوضع سلبا حتى على تحقيق الأهداف الوطنية والتي تشكل فيه هذه الموارد المجالات الرئيسية للتنمية الإقليمية المتكاملة. فالمشاريع المتعلقة بالمياه والطاقة مثلا من الممكن لو اعتمدت على المستوى الإقليمي أن تعطي نتائج أوفر اقتصاديا، ناهيك على القدرة عند ذلك على الاستخدام الأمثل لمثل هذه الموارد، على العكس مما لو بقيت هذه المشاريع "وطنية". وهذا بدوره يحد من قدرة المنطقة على التفاوض جماعيا بما يخص حقوقها وواجباتها المتعلقة بالاتفاقات البيئية الدولية، مثل اتفاقية تغير المناخ ومكافحة التصحر والتي بدأت تظهر وتفرض على دول العالم منذ منتصف الثمانينات.
ساحة النقاش